07 نوفمبر 2024
"أبناء القلعة" روايةً ومسلسلا
لا شطط في وصف الروائي الأردني الراحل، زياد قاسم (1945 - 2007) بأنه أحد كتّاب الرواية العربية الكلاسيكية، والملحمية، الكبار. لم تنل أعماله الرفيعة، القوية، الشائقة، ما تستحقه من درسٍ نقديٍّ عربي، لأسبابٍ لا تخوض هذه السطور فيها. وهذا إنجازُ مسلسل "أبناء القلعة" أخيرا، عن روايةٍ له بالاسم نفسه، (صدرت في 1990)، مناسبةٌ للتذكير بأعمال هذا الكاتب الذي كان طيّبا من المسلسل تقديمه بوصف "الكاتب الكبير". ومع وجاهةِ غبطةِ الوسط الثقافي والفني والإعلامي الأردني بهذا المسلسل، باعتباره محطةً يمكن البناء عليها في استعادة الدراما الأردنية حيويتها القديمة، إلا أن المسلسل (إخراج إياد الخزوز، ومعالجة درامية محمد البطوش) لم يأت في المستوى الفني اللائق، أمام قوة الرواية ومتانتها وتنوّع وقائعها. ولكن، ليس من اللياقة أن يجري تبخيسُه، والإمعان في طعنه، وقد جاء في 60 حلقة، اكتمل عرضُها، قبل أيام، فثمّة جهدٌ معقول، ومحاولةٌ طموحة، وأداءٌ لبعض الممثلين عالٍ ورفيع. بالتوازي مع أداءٍ شديد البؤس لآخرين، وفقرٍ في الإنتاج، وترهّل في حلقاتٍ من العشر الأخيرة، وتغييب شخصياتٍ في العمل من دون مقدّمات ومبررات، بعد حضورٍ وفيرٍ لها. ولكن هذه المؤاخذات، وأخرى غيرها، لم تؤثّر سلبا في متابعة المشاهدين، الأردنيين خصوصا وبعض العرب، الواسعة، للمسلسل، لما يتوفر عليه من أسبابٍ كثيرةٍ للانجذاب إليه، ولإيقاع التشويق فيه، سيما وأنه يقوم أساسا على حكاياتٍ ممتدةٍ ومتنامية. وربما في محله وصف كاتبٍ المسلسلَ بأنه "جميل فاشل".
روايةٌ كلاسيكية المبنى، نهض بها الراوي العليم. المكان المركزي فيها هو حي القلعة القديم في عمّان، وإنْ تذهب الرواية، في مطارح فيها، إلى فضاءاتٍ مكانيةٍ عديدة، في عمّان نفسها وفي مصر وسورية مثلا. الشخصيات وفيرة، ولكل واحدٍ منها نصيبُه في الرواية، تتشابك العلاقات بينهم، وتتناسل القصص من الصلات المتنوعة بينهم، قبيل نكبة 1948 في فلسطين حتى حرب 1967. ولم يتزيّد كتّابٌ ونقادٌ، اعتنوا بهذا العمل الأدبي المحكم، في إجماعهم على أنه رواية عمّان العتيقة، الناهضة، والتي شكّل التنويع الاجتماعي فيها التفصيلَ الأهمَّ فيها، لا سيما في تلك الغضون. ولا أظن أن الصديق زياد، اختار اعتباطاً عائلةً شركسيةً، على صلة مصاهرةٍ فلسطينيةٍ، لتكون أساسيةً في مسار روايته ووقائعها، وهو الذي جعل أبناء حي القلعة تجّارا وافدين من الشام، وشراكسة، وفلاحين من الكرك وغيرها، ولاجئين فلسطينيين، وصنّاعا لبنانيين، وزوجاتٍ سوريات ولبنانيات، بل ثمّة عراقي ومصرية بين هؤلاء. وهناك مسيحيون بالضرورة، وبين الجميع بعثيون وناصريون وانتهازيون ونصّابون ومغفّلون. وبهذه التشكيلة من البشر، والذين من جيليْن، متقدّمٍ وشاب، وكذا بإحكام الحوادث التي تتالت في الرواية، بكتابةٍ متقنةٍ، ربما غالت في تصوير الظاهر والسطحي، مع شحناتٍ أقلّ عمّا هو جوّاني ووجداني، بذلك كله جاءت "أبناء القلعة" روايةً ناجحةً في المستوى الحكائي الغالب فيها، وإنْ ثمّة مواضعُ طفيفةٌ، بحسب صاحب هذه الكلمات، غير موفقة.
أما مواضع عدم التوفيق في المسلسل الدرامي فكثيرة، أخمّن أنها ربما تعود إلى نقص الإمكانات الإنتاجية، ذلك أن المبادرة إلى إنجاز هذا العمل عن روايةٍ ثقيلة المستوى، وغنيّة التنوع في مساحاتها السردية والحكائية، وكذا المكانية والزمنية، تحتاج بالضرورة إلى أكثر مما يسّرته الجهات المنتجة (إماراتية وأردنية). ويمكن القول إن بخلا كان ظاهرا في المشاهد، ومحدوديةً كانت شديدة الوضوح بشأن معالم الأمكنة، ومن ذلك أن لا مشهد أبدا في أيٍّ من حلقات المسلسل الستين في القاهرة أو دمشق، بل ثمّة أيضا اختناقٌ في غرفٍ وشققٍ في عمّان، من دون شغلٍ كان شديد اللزوم على سينوغرافيا المكان العمّاني العتيق. أما أن المعالجة الدرامية أضافت شخصيةً ليست في الرواية، وأعطت شخصيةً أخرى اسما غير الذي في الرواية، فذلك جائز، ولا مدعاة لانتقاده، فالمسلسل محسوبٌ أساسا على صنّاعه، والرواية على كاتبها. ليست المشكلة هنا، وإنما في مشاهد ومصادفاتٍ لا منطق فيها، وأداءٍ ساذجٍ من ممثلين بدوا هواةً. ولكن مرة أخرى، يحسُن التنويه بهذا العمل التلفزيوني الشجاع في مغامرته، وكذلك شكر المخرج إياد الخزوز، على ما حاوله وأنجزه. وتحية إلى الممثلين ساري الأسعد ومريم للو ومحمد المجالي ومنذر خليل ومحمد خير الجراح وأحمد سرور.. وغيرهم ربما.