12 مارس 2022
أبعد من عفرين وسوتشي والغوطة
يكاد التدخل التركي الحالي في سورية يكون بؤرة مكثفة للحال الذي وصلت إليه قضيتنا السورية، خصوصا أن الفشل الذريع لمؤتمر سوتشي (للحوار الوطني السوري!) جاء ليضيف الكثير عن صورة أحوالنا التي تزداد قتامة، وكأن قطار سورية يجري عكس التاريخ، ويوغل في الابتعاد عن أحلام السوريين وحقهم العادل في الحرية والكرامة.
أول ما يقوله التدخل التركي إن حال التقاسم الإقليمي والدولي لسورية مازال قائما، على الرغم من أنه يكاد يصل إلى سكّته الأخيرة، بعد أن أخذت تركيا، بتدخّلها الراهن، ما كانت تطالب به دائما، أي النفوذ في الشمال ومنع الأكراد من التمدد غرب الفرات، وربما منطقة آمنة ذات نفوذ تركي مستقبلا. هكذا يكتمل التحاصص الدولي الإقليمي، إيران وروسيا في "سورية المفيدة"، وأميركا في غرب الفرات، فيما يقطع التركي حصته اليوم من اللحم السوري الحي أيضا، متغاضيا عن القصف الروسي لإدلب وجوارها، وأيضا عن العنف الوحشي في الغوطة الشرقية. هذا يؤكد، مرة أخرى، ما بات مؤكدا منذ زمن، أن سورية اليوم ملعب مفتوح لكل القوى، وأن الجميع يلهو بالدم السوري، لتحقيق مصالحه لا غير، ما يعني أن مقاربة المسألة السورية من باب الحرية والكرامة والديمقراطية فقط، لم يعد أمرا قابلا للتداول والتصريف السياسي، ما لم يتبع بالتحرّر من هذه الاحتلالات كافة، وهذا يستلزم رؤية واستراتيجية
جديدتين، لا يبدو اليوم أبدا أن المعارضة السورية بكل أطيافها تملكها أو تسعى إلى امتلاكها حتى، ما يعني أن أحوالنا مرشحة لمزيد من التدهور، خصوصا أن المنطقة كلها اليوم تذهب باتجاه إعادة إحياء الإمبراطوريات والاستعمار بشكله الأكثر رثاثةً، أي الاحتلال المباشر.
وسيوضح تأمل التدخل التركي، من هذه الناحية، لنا أن تركيا الأردوغانية اليوم وضعت اللبنة الأولى في مشروعها الإمبراطوري العثماني الذي يسعى أردوغان إلى إعادة إحيائه، وإن تأمل هذا التدخل، بالتوازي مع القواعد العسكرية التركية التي تأسست في الإقليم، يبين أن المارد التركي عاد ليكون لاعبا محوريا بعد انكفاء طال قرنا، وهذا ما يطمح له أردوغان، أن نكون أمام تركيا مختلفة كليا في عام 2023، توازيا مع الذكرى المئوية للجمهورية التركية.
ما سبق يجعل المهمة السورية صعبة وشاقة، لأن السؤال هنا: من الصديق ومن العدو للسوريين اليوم، من هذه القوى (روسيا، أميركا، تركيا، إيران)؟ إن تأملا في هذا الأمر يوصلنا إلى أن لكل فئة سورية أصدقاءها الذين هم أعداء للفئة السورية الأخرى، ما يستدعي سؤالا آخر: كيف يمكن بناء استراتيجية تجمع السوريين والحال كهذه؟
من جهة أخرى، أضاف التدخل التركي مزيدا من الملح على الجرح الكردي العربي، وهو جرح بقي مفتوحا طوال القرن الماضي، من جرّاء عدم قدرة الكرد على بناء دولتهم القومية، وعلى وقوعهم تحت نير أنظمة استبدادية أذاقتهم الويلات، فكانت الثورة المناسبة التي يمكن أن تعيد إلى العدل قوته. إلا أن قوة التأثيرات الخارجية والداخلية (الضدية للتغيير)، باعدت بين
العرب والكرد، وأبعدت الاثنين عن إمكانية تحقيق أي شيء، حيث كان الآخرون المستفيد الوحيد من خلافهما، من دون أن يتعلم أي منهما من دروس التاريخ. والأكثر ألما هذا الإصرار على التجريح والتخوين والأبلسة، بعيدا عن محاولة البناء بحثا عن مشتركات للعيش سويا، أو حتى للانفصال بسلام، لنصبح أمام جسد اجتماعي متهتك: علوي سني، سني شيعي، كردي عربي، أقلية أكثرية.. وكأن كل مفردات الديمقراطية والعلمانية والتعايش والمواطنة ليست أكثر من حبر على ورق، ما يطرح أسئلة أخرى: لماذا فشلنا في بناء المواطنة؟ ولماذا لم نتمكّن من إيقاف هذا الجرح حتى بعد تضعضع قوة الاستبداد؟ وهل عدم ثقة المكونات ببعضها بعضا يعود إلى المستبد وحده، أم الأمر أبعد من ذلك حقا؟
يمكن القول إن مقاربة مسألة البناء والسعي إلى إيجاد مشتركات وطنية أو مشتركات للتعايش لا تختزل بمسألة الاستبداد فحسب، فإزالة الاستبداد شرط أساس للبناء، لكنه ليس كافيا، لأن حجم القوى والأفكار الضدية التي نحملها، والموروثة منذ قرون طويلة، تشكل أحد أسباب الإعاقة التي نرقد في هوّتها اليوم، وهي الأفكار التي ساعدت المستبد والقوى الدولية والإقليمية على الفتك بنا، وضللتنا عن السير نحو أهدافنا، إذ لا يمكن فهم ما يحصل في عفرين اليوم بعيدا عن إيمان بعض الكرد بأن قوةً ضديةً، كحزب الاتحاد الديمقراطي، يمكن أن تحمل أملا لقضيتهم، وهو ما يوازيه إيمان بعض العرب أن تشكيلاتٍ، مثل فتح الشام وأحرار الشام والجبهة الإسلامية، يمكن أن تحمل خيرا لقضيتهم في الحرية والكرامة. علينا أن نمتلك شجاعة الاعتراف بأن هذه الأفكار والطرق التي سلكنا ساهمت في إيصالنا إلى ما نرقد فيه، ما يستدعي رؤيةً مركبةً تعرف كيف تواجه الاستبداد، باعتباره سلطة غاشمة، بالتوازي مع مواجهة سلطة تلك الأفكار التي نحملها في رؤوسنا وضديتها، وهي الأفكار التي تشكل عائقا أمامنا، فالمعركة ليست ضد المستبد وعلى المستوى السياسي فحسب، بل أيضا على مستوى الوعي والقيم والتنوير، أي على مستوى المجتمع، وبالتوازي أيضا.
أول ما يقوله التدخل التركي إن حال التقاسم الإقليمي والدولي لسورية مازال قائما، على الرغم من أنه يكاد يصل إلى سكّته الأخيرة، بعد أن أخذت تركيا، بتدخّلها الراهن، ما كانت تطالب به دائما، أي النفوذ في الشمال ومنع الأكراد من التمدد غرب الفرات، وربما منطقة آمنة ذات نفوذ تركي مستقبلا. هكذا يكتمل التحاصص الدولي الإقليمي، إيران وروسيا في "سورية المفيدة"، وأميركا في غرب الفرات، فيما يقطع التركي حصته اليوم من اللحم السوري الحي أيضا، متغاضيا عن القصف الروسي لإدلب وجوارها، وأيضا عن العنف الوحشي في الغوطة الشرقية. هذا يؤكد، مرة أخرى، ما بات مؤكدا منذ زمن، أن سورية اليوم ملعب مفتوح لكل القوى، وأن الجميع يلهو بالدم السوري، لتحقيق مصالحه لا غير، ما يعني أن مقاربة المسألة السورية من باب الحرية والكرامة والديمقراطية فقط، لم يعد أمرا قابلا للتداول والتصريف السياسي، ما لم يتبع بالتحرّر من هذه الاحتلالات كافة، وهذا يستلزم رؤية واستراتيجية
وسيوضح تأمل التدخل التركي، من هذه الناحية، لنا أن تركيا الأردوغانية اليوم وضعت اللبنة الأولى في مشروعها الإمبراطوري العثماني الذي يسعى أردوغان إلى إعادة إحيائه، وإن تأمل هذا التدخل، بالتوازي مع القواعد العسكرية التركية التي تأسست في الإقليم، يبين أن المارد التركي عاد ليكون لاعبا محوريا بعد انكفاء طال قرنا، وهذا ما يطمح له أردوغان، أن نكون أمام تركيا مختلفة كليا في عام 2023، توازيا مع الذكرى المئوية للجمهورية التركية.
ما سبق يجعل المهمة السورية صعبة وشاقة، لأن السؤال هنا: من الصديق ومن العدو للسوريين اليوم، من هذه القوى (روسيا، أميركا، تركيا، إيران)؟ إن تأملا في هذا الأمر يوصلنا إلى أن لكل فئة سورية أصدقاءها الذين هم أعداء للفئة السورية الأخرى، ما يستدعي سؤالا آخر: كيف يمكن بناء استراتيجية تجمع السوريين والحال كهذه؟
من جهة أخرى، أضاف التدخل التركي مزيدا من الملح على الجرح الكردي العربي، وهو جرح بقي مفتوحا طوال القرن الماضي، من جرّاء عدم قدرة الكرد على بناء دولتهم القومية، وعلى وقوعهم تحت نير أنظمة استبدادية أذاقتهم الويلات، فكانت الثورة المناسبة التي يمكن أن تعيد إلى العدل قوته. إلا أن قوة التأثيرات الخارجية والداخلية (الضدية للتغيير)، باعدت بين
يمكن القول إن مقاربة مسألة البناء والسعي إلى إيجاد مشتركات وطنية أو مشتركات للتعايش لا تختزل بمسألة الاستبداد فحسب، فإزالة الاستبداد شرط أساس للبناء، لكنه ليس كافيا، لأن حجم القوى والأفكار الضدية التي نحملها، والموروثة منذ قرون طويلة، تشكل أحد أسباب الإعاقة التي نرقد في هوّتها اليوم، وهي الأفكار التي ساعدت المستبد والقوى الدولية والإقليمية على الفتك بنا، وضللتنا عن السير نحو أهدافنا، إذ لا يمكن فهم ما يحصل في عفرين اليوم بعيدا عن إيمان بعض الكرد بأن قوةً ضديةً، كحزب الاتحاد الديمقراطي، يمكن أن تحمل أملا لقضيتهم، وهو ما يوازيه إيمان بعض العرب أن تشكيلاتٍ، مثل فتح الشام وأحرار الشام والجبهة الإسلامية، يمكن أن تحمل خيرا لقضيتهم في الحرية والكرامة. علينا أن نمتلك شجاعة الاعتراف بأن هذه الأفكار والطرق التي سلكنا ساهمت في إيصالنا إلى ما نرقد فيه، ما يستدعي رؤيةً مركبةً تعرف كيف تواجه الاستبداد، باعتباره سلطة غاشمة، بالتوازي مع مواجهة سلطة تلك الأفكار التي نحملها في رؤوسنا وضديتها، وهي الأفكار التي تشكل عائقا أمامنا، فالمعركة ليست ضد المستبد وعلى المستوى السياسي فحسب، بل أيضا على مستوى الوعي والقيم والتنوير، أي على مستوى المجتمع، وبالتوازي أيضا.