أبعد من صورة
ليست موجة الغضب العالية التي نشطت أخيرا ضد نشر صورةٍ للفنانة ميرفت أمين، أسيفة، تبدّى على تقاسيمها مرورُ الزمن والعمر، وهي في نحو السادسة والسبعين عاما، ليست على هذا التصرّف فحسب، وإنما هي أيضا تعبيرٌ عن ضيقٍ ذائعٍ وشائعٍ من "السوشيال ميديا" برمتها، ذلك أنه، في واحدٍ من وجوه المسألة، ليس نشر الصورة الملتقطة في مجلس عزاء المخرج علي عبد الخالق، بحد ذاته، أمرا مستنكَرا، فصاحبة الصورة نجمةٌ شهيرة، ومن طبيعيّ الأمور وعاديّها أن تُلتقط لها صور في أماكن عامة ومناسبات مختلفة وفي جميع الأحوال. وإذا كان الغضب انصبّ تاليا على من زاولوا قلّة الأدب، وتمادوا في التعليقات قليلة الحياء التي تنمرّت على تقدّم الممثلة القديرة في السن، فإن من النباهة ألّا يجري التغافُل عن تعليقاتٍ طيّبةٍ أحسنت الكلام في هذا الشأن، ورفضت التمادي السيئ في السخرية التافهة من ميرفت أمين في سبعينياتها، وهي التي كانت وجهاً ينطق بالحياة والجمال والشقاوة.
تجاوزاً لهذه الواقعة، تتكرّر في صفحات التواصل الاجتماعي لكثيرين تعبيرات الاستياء مما تحفل به ملاعب "السوشيال ميديا" في غير أمر وأمر، شخصيّ وعام، سيما من الاستعراضيات المنفرّة، ومن اعتبار بعضهم شؤونهم الخاصة شوؤناً عامة، على الجميع أن يدري بتفاصيلها، وسيما أيضاً من لغة التكارُه والتجرّؤ والتنمّر والتطاول من دون أدنى اكتراثٍ بأخلاقٍ ومشاعر. ومع غزارة ما صار ملحوظاً من تعبيرات الاستياء المشار إليها، فإنّ ظنّاً قد يتسرّب إلى بعضنا، كثيرين كنّا أو غير كثيرين، أن ضجرا ربما صار يحدُث من النشطين في "السوشيال ميديا"، وتحسبُهم منقطعين لها، ومقيمين فيها، يجعلهم يتخفّفون مما هم فيه، بل ومنهم من صار يجهر بنيّته الإقلاع عما يفعل، وإقفال حساباته أسابيع، تدرّبا على مغادرتها نهائيا.
إنه شيءٌ من السأم، إذن، يعكس مزاجاً ربما بدأ يتّسع، وإنْ بشكلٍ محدود، ربما من المبكّر أن يُسأل في صدِده ما إذا كان سينتهي إلى شيءٍ من "الاعتدال" في همّة من يُواظبون على الحكي في كلّ شأنٍ وشأنٍ، وبكلّ ما يعنّ على خواطرهم من مُرسل الكلام والهذر والثرثرة. والحقّ أنّ ثمّة حاجةٌ ملحّةٌ إلى أن تنضبط صلاتنا بصفحات "السوشيال ميديا"، وأن تحتكم إلى ما يحسّن المزاج، ولا يتسبّب بالتوتر والانفعال والزعل، وقبل هذا كله وبعده، إلى ما لا يذهب بالوقت ويضيّعه، فبالقدر الذي تأتي بها متابعة ما على صفحات التواصل الاجتماعي من منافع غير قليلة، أقلّه التواصُل نفسه، والوقوع على أخبار المعارف والزملاء والأصدقاء، عدا عن تيسير المعلومات من وسائل الإعلام ووسائطه من صحافات عديدة، فإنّ ثمّة وقتاً غزيراً يتبدّد إذا ما أسلم واحدُنا نفسَه إلى غواية شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، سيّما إذا استحكمت في الجوانح شهوة التلصّص على الآخرين وتقصّي أخبارهم وتفاصيل ما هم عليه في حلهم وترحالهم، سيما وأن عديدين يكادون ينقطعون إلى "إعلام" الناس بهذه وتلك من حوادث نافلة وقليلة الشأن تخصّهم.
إنّها عاداتٌ استجدّت على الإنسان المعاصر، المُحوسب في توصيفٍ ربما يجوز، على نحوٍ أو آخر، أن يكون لصفحات التواصل الاجتماعي حيّزها من وقته، فضلا عن التجوال في شبكة الإنترنت، حيث المواقع الإلكترونية التي يلبّي بعضُها حاجات مطروحةً ومطلوبة، في شؤونٍ متنوعة، تتجاوز أنباء السياسة إلى جديد العلوم إلى أخبار النجوم وجديد الفنون إلى غير ذلك كله. ولا تزيّد في القول إن تأثيراتٍ ظاهرة صارت لهذه العادات على الأفراد وطبائعهم، من قبيل استسهال الكلام في أي شأن، والتعجّل في كل شيء، وانسراق الذهن وتعدّد مشاغلة في وقت واحد. وقد صار من مباحث أهل علم النفس وعلم النفس الاجتماعي أن ينصرف كثيرٌ من جهدهم إلى درس هذا كله وغيره .. وربما كانت حدّوتة صورة ميرفت أمين وتداعيات نشرها وما واكبه من تخاصمٍ وسجالٍ من موضوعاتٍ تستحق مقارباتٍ من هؤلاء الخبيرين والعارفين.