أبعد من تأبين جنديٍّ... طائفةٌ في مأزق

17 يناير 2024
+ الخط -

تُحيل ما سمّاها الكاتب معن البياري "أحجية سليمان دغش"، في مقاله في "العربي الجديد" (12/1/2023)، متناولاً واقعة تأبين الأخير، وهو شاعر من أبناء فلسطين 1948، حفيده الجندي الذي سقط في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزّة،  فيما سبق للشاعر خلال مسيرة غير قصيرة أن أشهر هويّته الوطنية الفلسطينية، تحيل إلى الإطار الأكبر لهذه الأحجية، فدغش ابن بلدة المغار في شمال فلسطين، ولديه تجربةٌ حزبيةٌ قصيرة، إذ سبق أن أنشأ حزبا باسم "الحزب التقدمي الاشتراكي" (على غرار الذي أسّسه كمال جنبلاط في لبنان)، كما انتسب فترة إلى "التجمّع الوطني الديمقراطي" الذي يقوده حاليا سامي أبو شحادة، والمعلومتان من بطاقة شخصية للتعريف بنفسه يقع عليها متصفح "غوغل"، وقد عُرف بنيله جائزةً صار يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب لمثقفٍ من فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948، وكان الأوّل الذي تُعطى له (2017)، وجائزةً تكريميةً أخرى من وزارة الثقافة الفلسطينية، وقد بادرت الوزارة، كما فعل الاتحاد تاليا، إلى اعتبار الجائزتين لاغيتين، بعد تأبينه الجندي الحفيد. ويضاف إلى تعريفه أنه سبق أن رفض أداء الخدمة العسكرية، ما أدّى إلى أن تسجنه السلطات الإسرائيلية أربع سنوات، علاوة على أن ابنيه رفضا الالتحاق بخدمة جيش الاحتلال، وهو مما يُحسَب له في سجلّه الشخصي والسياسي، ويجب أن يُؤخَذ في الاعتبار عند الحكم عليه، غير أن ما أثار الاستغراب أن ينزلق الشاعر إلى تأبين حفيده الجندي، وكان الأحرى به أن يضع الاعتبارات الوطنية المبدئية فوق اعتبارات السلالة، وأن يعمد إلى مقاطعته، وهو ما اعتبره البياري أحجيةً، بناء على ما يظهر من  تناقضٍ في السلوك لدى الرجل، وهو انطباعٌ لا يجانب الصواب، ما يستحقّ الأمر معه محاولة تقصّي هذه المسألة بربطها بإطار أوسع يتعلّق بظاهرة تجنيد فلسطينيين في الجيش الإسرائيلي.
لا تعدّ هذه الخدمة إلزامية لدى عرب العام 1948، غير أن عدم أدائها قد يعيق المتخلّف في حياته المهنية، ويجعله محلّ شكوك وتربّص من الأجهزة الأمنية، غير أن ما ينطبق على العرب الفلسطينيين عموما لا يسري على طائفة الموحدين الدروز التي ينتسب إليها سليمان دغش. إذ إن أداء الخدمة إجباري لأبناء الطائفة، فقد نجحت سلطات الاحتلال، وبالتدرّج، في جعل الدروز مكوّنا قائما بذاته، وذلك ضمن سياستِها لتمزيق عُرى المجتمع العربي، وقد نشطت هذه السلطات في السنوات الأخيرة في اجتذاب المسيحيين للانضمام إلى الجيش والأجهزة الأمنية، وفشلت. كما دأبت هذه السلطات على اجتذاب فئةٍ من البدو لأداء الخدمة والانضمام إلى الجيش، غير أن الأكثرية العربية الفلسطينية ترفض هذه المسألة من حيث المبدأ، وتراها غير قابلة للمساومة، ولا تبذل السلطات من جانبها جهدا لاستمالة الأكثرية لأداء الخدمة، لكونهم، وكما يتبدّى في سلوكهم  وخطابهم، غير موالين للدولة.

كانت الحركة الصهيونية تعمل على الاستيلاء على أراض للدروز ودفع  أصحابها للهجرة إلى جبل العرب في السويداء في سورية

تشرح دراسةٌ قيّمة للأكاديمي الباحث أمل جمّال بعنوان "عقليّة البقاء والقطيعة الأخلاقيّة في سلوكيّات المجموعات الصغيرة ... الدروز في إسرائيل مثالاً" ظاهرة القبول الواسع في صفوف الطائفة بالتجنّد في صفوف الجيش والشرطة، وتتقصّى جذوره وبداياته، وما انتهى إليه من تسويغاتٍ ذاتيةٍ وجمعية للظاهرة، مع بقاء نسبة من الرافضين ممن يؤيدون "المبادرة العربية الدرزية" و"جمعية المعروفين الأحرار". ومع أهمية وجود هاتيْن الهيئتين رمزيا وسياسيا ووطنيا، إلا أن تأثيرهما يبقى محدودا، وسط القبول الواسع للتجنيد، إذ إن تأييد هاتين الهيئتين يثير مشكلات أمنية، والأسوأ أنه يتسبّب بالعزلة وسط الطائفة. ومعلومٌ أن لطائفة الموحدين قيادة روحية يدين لها أبناء الطائفة بالتوقير والإخلاص، وتعين السلطات قائد الطائفة وفقا لمبدأ التوارث في العائلة (عائلة طريف).

ما قبل النكبة وبعدها
يتتبع الباحث حالة الطائفة منذ ما قبل النكبة وحتى بعد قيام الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين بعقدين. ويفيد في دراسته المنشورة ضمن كتاب "العرب الدروز في إسرائيل ... مقاربات وقراءات نظرية وسياسية ناقدة" تحرير يسري خيزران، والصادر عن "مدى الكرمل"، المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة (2018) بأن الفترة السابقة على النكبة شهدت احتكاكاتٍ بين جيش الإنقاذ وقرى درزية، فيما كانت الحركة الصهيونية تعمل على الاستيلاء على أراض للدروز ودفع  أصحابها للهجرة إلى جبل العرب في السويداء في سورية. وأمام ذلك، كان الاتجاه الغالب يبلور موقفا يقوم على أن العصابات الصهيونية في طريقها إلى تحقيق الغلبة، ما جعل المزاج العام يقوم على الكُمون وعدم التحرّك في أي اتجاه، وذلك إدراكا لضعف الطائفة الاقتصادي والاجتماعي، ولضآلة عديدها (نحو 12 ألف نسمة)، وبمعنى آخر التزام موقفٍ أقرب إلى الحياد.

كانت الخطّة الإسرائيلية تقوم على فصل الدروز عن محيطهم (شعبهم الفلسطيني العربي) وابتداع هوية درزية، وحتى قومية درزية، وهو ما تحقق في النهاية

ويكتب الباحث إن الدعاية الصهيونيّة استعملت، على نحوٍ انتقائيّ، بعضَ الوقائع التاريخيّة التي تصادمت فيها قوى فلسطينيّة إسلاميّة في الأساس مع قرى درزيّة، ثمّ الاعتداء على حرمة بيوت وأشخاص ونساء في بعض القرى، مثلما كان الحال خلال ثورة الأعوام 1936 - 1939، ومن ثَمّ لاحقًا في أعوام نكبة فلسطين، من أجل تعميق الهوّة بين طوائف الشعب الواحد. وبرأيه، كان للاعتداءات على حرمة القرى الدرزيّة ومقتل قياديّين دروز جرّاء خلافاتٍ داخليّةٍ دَوْر مهمّ في النأي بالنفس عن الانخراط في الصدام الكبير بين المجتمع الفلسطينيّ والمستوطنات اليهوديّة. غذّت هذه الاعتداءات العقليّة الدعائيّة، وأتاحت الفرصةَ للذين يحبّذون التعاون مع الحركة الصهيونيّة، وفي مقدمتهم من دفع في اتّجاه الحياد في الفترة بين العامين 1947 و1949، ومن ثَمّ الانخراط في الخدمة العسكريّة لاحقًا، لتحقيق مآربهم وصنع واقع مأزوم سياسياً وأخلاقياً.
ويرى الباحث أمل جمّال أن التاريخ ينبئ عن تعاون بعض الأطراف الدرزية مع الحركة الصهيونية قبل النكبة، وأن الخدمة العسكريّة فرضتها الدولة على أبناء الطائفة الدرزيّة بالقوّة المادّيّة وتلك المعرفيّة على حدّ سواء، من خلال المراوغة والاستدراج والإغراء، وذلك بتعاون من بعض القيادات المنتفعة. فلما وقعت النكبة، شعر أعيان الطائفة أن تقديرهم الأمور كان صائبا، وسرعان ما فرضت السلطات الجديدة حالة الطوارئ على سائر المناطق والتجمّعات العربية، بما فيها مناطق الدروز (18 قرية في الجليل). غير أن أعيانا من الطائفة استشعروا ميلا لدى السلطات بالتقرّب منهم فبادلوها الرغبة ذاتها. وقد كانت الخطّة الإسرائيلية تقوم على فصل الدروز عن محيطهم (شعبهم الفلسطيني العربي) وابتداع هوية درزية، وحتى قومية درزية، وهو ما تحقق في النهاية، وبات يجري تصويره أنه يحقق مصلحة الطائفة، أي أن ما تم فرضه فرضاً جرى  الارتضاء به وتصويره خيارا ذاتيا طوعيا.

تم فرض الخدمة العسكرية في العام 1956 على  الدروز، ولوحظ أن نفراً قليلاً اتجه إلى الخدمة من تلقائه

سياسة الاستدراج
ويمضي بالشرح: توضحت سياسة الاستدراج، على نحوٍ قاطع مع قضيّة الخدمة العسكريّة التي استغلّت فيها السلطات الخلافات داخل القيادات، من أجل استفراد بعضها ببعض، وزجّها في ملابساتٍ لم تكن هيّنة، مثلما هو حال الشيخ أمين طريف الذي أبدى موقفًا متحفّظًا تجاه تطبيق الخدمة العسكريّة الإلزاميّة على أبناء الطائفة، إلّا أنّه تراجع عن هذا الموقف بسبب تخوّفه من أن تفقد عائلته دَوْرها الرياديّ في قيادة الطائفة على المستوى الديني، وهو الأهمّ في كلّ ما يتعلّق بمستقبل الطائفة.
ومستشهدا بمراجع إسرائيلية، يشير الباحث إلى أن سياسة الاستدراج ترافقت بسياسة ابتزاز أخلاقيّ ومادّي، رافقتها ممارسة ضغوط سياسيّة ومادّيّة قصوى، على كلّ من حاول مواجهة سياسة الدولة العامّة. وعند التحدّث عن مجتمعٍ درزيّ مهلهَل الاقتصاد والثقافة، وفي حالة لقي فيها مئات الآلاف من الفلسطينيّين أنفسهم خارج وطنهم، أو منفيّين من قراهم وبيوتهم، يبدو أنّ سياسة الإغراء المادّي والسياسي لم تكن عاملاً يمكن التقليل من شأنه في تبديل مواقف أبناء الطائفة وتحديد مواقفهم. بالتزامن مع توفير المُغريات للقيادات، وفّرت السلطات الإسرائيليّة مغرياتٍ اقتصاديّة لا يُستهان بها في الفترة العصيبة ما بعد النكبة، وفي مقدّمتها مسألة المقابل المادّيّ.

مفهوم "حفظ الإخوان"
ويبقى أن مفتاح الموقف الدرزي  يجد تفسيره (وليس تبريره كما يكتب المؤلف) في مفهوم حفظ البقاء في الوطن الراسخ لدى أبناء الطائفة، وتجري تسمية هذا المفهوم "حفظ الإخوان"، وهو ما استشعرته الدوائر الإسرائيلية، وبالذات فريق المستشرقين. وعليه، تم فرض الخدمة العسكرية في العام 1956 على  الدروز، ولوحظ أن نفراً قليلاً اتجه إلى الخدمة من تلقائه. ومن أجل تكريس هذه الحالة، اتبعت السلطات الإسرائيلية سلوكا يقوم على العنف المعرفي بتصنيع الوعي الزائف حول الانتماء والهوية والقومية الدرزية، وحتى الادّعاء بأن اليهود والدروز كانوا على وفاق منذ فجر التاريخ، وقد نجحت السلطات في ذلك، إذ بات هناك خطابٌ متجذّرٌ ومركزيٌّ في المجتمع الدرزيّ يُشَرْعِن الخدمة في سلك الأمن الإسرائيلي، ويراه سلوكا طبيعياً وشرعياً بالرغم من سياسات التمييز والعنصريّة الإسرائيليّة تجاه المجتمع الدرزيّ في كلّ مجالات الحياة، وفي مقدمتها كلّ ما يتعلّق بالتخطيط والبناء ودعم التعليم والبنى التحتيّة واستمرار سياسات المراقبة والتحكّم واستغلال الخلافات العائلية في القرى الدرزيّة المختلفة لصالح السلطة وأعوانها.

النظريّات السيكولوجيّة عن الذات الأخلاقيّة تفترض أنّ الأشخاص لا يدخلون في عمليّة لوم ذاتيّة، إلّا بعد أن يكونوا قد شرعنوا سلوكهم لأنفسهم على أنّه صحيح

القطيعة الأخلاقية
وإلى جانب العنف المعرفي، غذّت السلطات ما يسميه الباحث، استنادا إلى الأدبيات السيكولوجية "القطيعةَ الأخلاقيّة (Moral  Disengagement)" التي تسهّل على الشباب الدروز الخدمة في قِطاعات الأمن، من دون أن يواجهوا أزمة أخلاقيّة تنبع من التصادم بين انتمائهم أو هامشيّتهم أو التمييز ضدّهم والسياسات الأمنيّة التي عليهم تطبيقها تجاه محيطهم، وذلك باللجوء إلى تسويغات غير دينيّة، في مقدمتها العقيدة المنفعيّة (Utilitarianism) التي تدحض الاعتبارات الأخلاقيّة، من أجل توفير مسوّغاتٍ مقْنعة تتصدّرها مسوِّغات مادّيّة من شأنها شَرْعَنة سلوكيّات يمكن اعتبارها من الناحية الأخلاقيّة غير مقبولة. تنعكس العقيدة المنفعيّة في توفير أماكن عمل ومستويات مدخول عالية نسبيًّا لقِطاع واسعٍ من الشبّان غير المتعلّمين، والذين تمنحهم السلطة فرصًا مادّيّة لا يمكن أن تتوفّر لهم في سوق العمل المدنيّ. ويتوسّع الباحث في الإضاءة على مفهوم القطيعة الأخلاقية الذي يعني إحداث حالة قطيعة بين السلوك ومسوِّغاته، واعتبارَ أنّ الحالة المطروحة لا تكتنفها تناقضات، إذ إنّ التعامل مع السلوك المطروح من وجهة نظر أخلاقيّة غير وارد، أو إنّ السلوك الذي يمكن أن نعتبره غيرَ أخلاقيٍّ مبرَّرٌ أو حتّى شرعيّ.
ويكتُب المؤلف أمل جمّال إن القطيعة الأخلاقيّة عمليّة تُشَرْعِنُ سلوكيّاتٍ معيّنةً تجاه أشخاص آخرين أو مجموعات، من دون أن يُرى في هذا السلوك تناقضا أو نفيا لرؤية الذات الأخلاقيّة أو الاعتقاد بأنّ السلوك الذاتيّ هذا يتماشى مع المعايير الأخلاقيّة الذاتيّة؛ وذلك أنّ النظريّات السيكولوجيّة عن الذات الأخلاقيّة تفترض أنّ الأشخاص لا يدخلون في عمليّة لوم ذاتيّة، إلّا بعد أن يكونوا قد شرعنوا سلوكهم لأنفسهم على أنّه صحيح.

مأزق أخلاقي
وبهذا، فإن جهاز المفاهيم التي سوّغت التجنّد والاندراج في المؤسسات الصهيونية والتصويت للأحزاب الصهيونية في الانتخابات قام على العنف المعرفي من السلطات باصطناع الهوية الدرزية، وإنشاء قسم خاص للتعليم الدرزي، وتاليا إنشاء مدارس خاصة بأبناء الدروز منذ العام 1970، ثم شيوع حالة القطيعة الأخلاقية لدى الفئات الأوسع من الجمهور، وإلى  مقاربة مفهوم "حفظ الإخوان" بطريقة نفعية وانتهازية، وتصويرها أمام النفس وأمام الآخرين أنها سلوك عقلاني، ما أدّى، في الحصيلة، إلى نشوء مأزق أخلاقي. وفي هذا المعرض، يكتب الباحث أمل جمال أن "من الضروريّ الإشارة إلى أنّ أبحاث قيس فِرّو في كتابه "الدروز في الدولة اليهوديّة" (1999)، وتحليلات سلمان ناطور في كتابه "طائفة في بيت النار" (1995)، وتحليلات سعيد نفّاع في كتابه "العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى العام 48" (2010)، وأبحاث رباح حلبي في كتابه "مواطنون متساوو الواجبات" (2006)، بأنها تعكس المأزق الأخلاقيّ الذي تعيشه الطائفة. وتبيّن المفارقة بين الأعرافِ والانتماءِ التاريخيِّ للدروز من جهة، وسلوكِهم الحاليِّ في الدولة العبريّة من جهة أخرى، أنّ تأكيد بعضٍ على سياسات الدولة تجاه الدروز، وتأكيد آخرين على ولاء الدروز لعروبتهم، يدلّلان على المأزق الأخلاقي الذي يشغل بعض المثقّفين، وأقطابًا ليست قليلة في الطائفة.

بعد فصل التعليم الدرزيّ عن العربيّ، بدأت عمليّة ممنهَجة من العنف المعرفيّ والذهنيّ ترمي إلى صناعة هُويّة جديدة لا تواجه أيّ تساؤلاتٍ

التعاون مع الصهيونية
ويؤكد الباحث على سياسات الحكومة الإسرائيليّة التي انتقلت من الارتكاز على قمع الدروز بالعنف في الخمسينيات والستينيات حتّى بدايات السبعينيّات، حيث اعتُقل عشرات من شبّانهم لرفضهم الخدمة العسكريّة بحسب القانون المطبَّق عليهم منذ 1956، إلى العنف المعرفيّ، إذ بدأت تعتمد أكثر على سياسات الترهيب والتخويف وصناعة الهُويّة الدرزيّة الجديدة. ومنذ تلك الفترة، وبعد فصل التعليم الدرزيّ عن العربيّ، بدأت عمليّة ممنهَجة من العنف المعرفيّ والذهنيّ ترمي إلى صناعة هُويّة جديدة لا تواجه أيّ تساؤلاتٍ من شأنها إثارة أزمة أخلاقيّة عند الشباب الدروز، وخصوصا عند مواجهتهم مع المجتمع الفلسطينيّ، وهو المجتمع الأمّ الذي يجري تصنيع الاغتراب عنه ومعاداته، لمجرّد أنّه يذكِّر بالتاريخ الحقيقيّ والانتماء الثقافيّ والحضاريّ لهم.
 وحسب الباحث، لا يقتصر عدم الأخلاقيّة على التعاون مع الصهيونيّة التي تنتهك حقوق الفلسطينيين الذين يشكّل المجتمع الدرزيّ جزءًا منه، وإنّما يشمل القرار التاريخيّ المتمثّل في زجّ الدروز في صراع ليس لهم فيه حتى مصلحة طائفيّة ضيقة واضحة. وربما جاء هذا القرار التاريخي بغية تحسين الوضع الاقتصاديّ للقرى الدرزيّة، بالرغم من أنّه ليس ثمّة أيّ إثبات على ذلك، إلّا أنّه زجّهم في صراعٍ مردودُهُ العمليّ يأتي على حساب تبعاتٍ وإسقاطاتٍ تاريخيّة وأخلاقيّة لا يمكن التغاضي عنها، سيّما في ظروفٍ تثبت أنّ قرارهم ضيّق الأفق لا يثبت صحّته مادّيًّا، لأنّ مستويات الدخل في المجتمع العربيّ لا تقلّ بكثير عن التي في المجتمع الدرزيّ، ومصادرة الأراضي في القرى الدرزيّة لا تقلّ عمّا في القرى العربيّة، ولا يُثبت نفسه على المستوى الأخلاقي، حيث إنّ الحركة الصهيونيّة لم تكتفِ بنصيبها جرّاء حرب عام 1948 وإنّما استمرّت في توسُّعها وهي مستمرة حتى اليوم على حساب العرب أجمعين، بمن في ذلك الدروز أنفسهم، الواقع الذي يصارع فيه الجنديّ الدرزيّ ضدّ الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة في 1967، وأراضي أجداده تستعملها الدولة لتوطين يهود من أقاصي الأرض لا علاقة بينهم وبين المكان، والهدف الأساسيّ من قدومهم هو احتلال مكانه والتضييق عليه، ويبين هذا الواقع الحال المأساويّ الذي زَجّ الدروز أنفسهم فيه في فلسطين التاريخيّة.

مأزقٌ شبيه بما لدى شخصياتٍ درزيةٍ تنخرط في المؤسّسة الصهيونية، ثم تفاخر لدى توجّهها إلى دول عربية بانتمائها العربي والتاريخي

نحو وعي جماعي بديل
وعلى الرغم من دحض ادّعاء المؤرّخين الإسرائيليّين، (والحديث بمجمله للمؤلف)، فإنّ خطابهم الذي اعتنقته المؤسّسة الإسرائيليّة وجذّرته في سلك التربية والتعليم تحوّل ليَكون الخطاب الأكثر رواجًا في المجتمع الإسرائيليّ وفي الخطاب الشعبيّ الدرزيّ، وفي تغييب التاريخ والحقائق والإرادة الدرزيّة، عبْرَ تعميمِ الموقف المتعاون مع الحركة الصهيونيّة، وتغييبِ المعسكر المعترض على ما يسمّى لاحقًا "حلف الدم". كذلك، يؤكّد هذا الخطاب على وقائع تاريخيّة دون غيرها، وعلى نصوص تعليميّة مجتزَأة ابتغاء تجذير نفسه في الوعي الدرزي العامّ وتعميق تذويت القمع إلى درجة ولادة وعي درزيٍّ بعيد كلّ البعد عن رؤية تاريخيّة أو أخلاقيّة واسعة لوضعهم ومصيرهم. لهذه الرؤية قاعدة مادّيّة عميقة لا يمكن التغاضي عن تأثيرها على سلوكيّات الدروز ومواقفهم في أيّامنا هذه. هذه القاعدة المادّيّة، إضافة إلى الصعوبة النفسيّة واضحة المعالم في الاعتراف بالقيام بسلوكيّات فيها مسٌّ بالقواعد الأخلاقيّة الأساسيّة، تُفضي إلى نشوء وضع من الصعب تفكيكه، إلّا إذا جرى بناء وضع مادّيّ مختلف وبناء وعي جماعيّ بديل. تقع هذه المهمّة، في رأي الباحث، على كاهل المثقّفين الوطنيّين الذين يجدون أنفسهم في صدام مع مجتمعهم (كما كان الحال مع عديد منهم على مرّ العقود الأخيرة) الذي يهمّشهم، بمؤازرة السلطة، أو يسحب الشرعيّة عنهم.
وبناءً على هذه المساهمة الثرية والعميقة للباحث أمل جمّال، يمكن فهم المأزق الأخلاقي لدى شخصياتٍ درزيةٍ تنخرط في المؤسّسة الصهيونية، ثم تُفاخر لدى توجّهها إلى دول عربية بانتمائها العربي والتاريخي، كما تقيم قيادات من الطائفة ملتصقة بالمؤسّسات الصهيونية علاقات وثيقة مع دروز الجولان الرافضين للهوية الإسرائيلية وبالطبع للتجنيد، من دون أن تستشعر تناقضاً. ... إنه المأزق ذاته.