أبعد من انقلاب السودان

28 أكتوبر 2021
+ الخط -

يؤكّد الانقلاب العسكري في السودان أن القوى المناهضة للتغيير في المنطقة مصرّة على المضي في استراتيجيتها بشأن الإغلاق النهائي لقوس الربيع العربي الذي انطلق من تونس، قبل أن ينتكس، وتنزلق معظم ثوراته إلى العنف والدمار والاحتراب الأهلي. ولا يدع إقدامُ رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، عبد الفتاح البرهان، على حل مجلسيْ السيادة والوزراء، وإعلانِ حالة الطوارئ، وتعليقِ العمل ببعض المقتضيات الدستورية، وإقالة حكام الولايات، وتجميدِ أشغال لجنة تفكيك نظام عمر البشير، وإحكام قبضة الجيش على البلاد، لا يدع مجالا للشك بأن الاستبداد العربي الجديد، المسنود بقوى الثورة المضادّة، يخوض معركة حياة أو موت من أجل ضرب محاولات التغيير السلمي وإقبار مشاريع الإصلاح الديمقراطي في المنطقة.

مؤشّراتٌ كثيرةٌ كانت توحي أن توقيع المجلس العسكري على اتفاق تقاسم السلطة مع قوى الحرية والتغيير لم يكن أكثر من تكتيكٍ فرضه الحراك الشعبي الذي انطلق في ديسمبر/ كانون الأول 2018 ضمن الموجة الثانية من الربيع العربي. ولم يكن التحوّل الديمقراطي يقع ضمن أولويات المجلس الذي ينتمي لأحد أكثر الجيوش تسيُّسا ومحافظةً في المنطقة. ولذلك حرص قادته، طوال السنتين المنصرمتين، على الإمساك بخيوط اللعبة السياسية، من خلال تضييق هامش الحركة أمام حكومة عبد الله حمدوك، وإيجاد رأي عام معادٍ لها على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد، والبحثِ عن تحالفاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تعزّز موقع العسكر في معادلة توزيع السلطة والنفوذ. وقد توازت النزعة السلطوية للمجلس مع فشل حكومة حمدوك في تفكيك الإرث السياسي لنظام البشير، وإطلاق ديناميةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ تعزّز المسار الانتقالي، وتدفع به نحو إقامة حكومةٍ مدنيةٍ منتخبة، يكون من أولوياتها الرئيسة إعادة بناء الاندماج الوطني والاجتماعي، بعد عقود من الحروب والنزاعات الأهلية التي كلفت السودان كثيرا.

يعكس انقلاب السودان قضايا التحوّل الديمقراطي ومخاضاته في المنطقة، وبالأخص فيما يتعلق بدور الجيوش في تعطيل هذا التحوّل، والانعطافِ بمساراته بعيدا عن مقاصده التي تتمثل في إقامة أنظمة ديمقراطية منتخبة، من دون وصاية الجيوش عليها. فعلى الرغم من التنازلات التي قدّمتها "قوى الحرية والتغيير" لإنجاح المسار الانتقالي، وإقامة نظام ديمقراطي يقطع مع إرث الانقلابات العسكرية في السودان، إلا أن ذلك لم يكن كافيا، على ما يبدو، لإقناع المجلس العسكري بالحدّ من نزوعه إلى الاستئثار بالسلطة، ومساعدةِ شريكه المدني على تذليل العقبات أمام تحقيق الديمقراطية. وفي الوقت ذاته، كان لانقسام مكوّنات المعارضة، وعدم وقوفها على أرضية سياسية مشتركة، دور في التعجيل بإنهاء هذا المسار والانقلاب على مقتضياته.

يُبرز الحدث السوداني هشاشة البنيات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وعجزها عن تحمّل تكاليف التحول نحو الديمقراطية. وتتحمّل المعارضات العربية مسؤوليةً جسيمةً في هذا الصدد، من خلال إخفاقها في بناء برنامج سياسي واقعي متكامل، ينبع من مقتضيات الواقع، ويستوعب الانقسامات الكامنة في المجتمعات، ويدمجها في دينامية التعبئة الاجتماعية، بما يمكّن من تأطير الرأي العام، وتوجيهه بكيفيةٍ متوازنة، بحيث لا تُسعفها ثقافتها السياسية التقليدية في تأجيل خلافاتها الأيديولوجية إلى ما بعد تأمين هذا التحوّل، ما يلقي بظلاله على الانقسامات المجتمعية ويغذّيها أكثر، سيما في وجود قوى محافظةٍ ترى في الحكم الديمقراطي تهديدا لمصالحها التي يشكّل الفسادُ محركَها الأساسي. وإذا أضفنا إلى ذلك هشاشة الاندماج الوطني وغلبة النزعات القبلية والعشائرية والطائفية والجهوية في بناء المواقف وكيفيات تصريفها، فإن ذلك يجعل من تحقيق الديمقراطية أمرا يكاد يكون مستحيلا.

على الرغم من الخصوصية التي تطبع المشهد السوداني، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إنه يعكس عينةً من مشهد عربي عام، سيظلّ في حاجةٍ، دائما، إلى قطيعة ثقافية وسياسية متوافَقٍ عليها، يتطلبها التحولُ نحو الديمقراطية.