أبا مازن .. لا تترشّح رجاء
أما وأن الرئيس محمود عباس لم يعلن موقفه بعد من مسألة ترشّحه أو عدم ترشّحه لرئاسة دولة فلسطين في انتخابات يوليو/ تموز المقبل، فهذا مما قد يسوّغ مناداته، في هذه السطور، إلى أن يُبعد عن جوانحه وحواشيه وأخيلته ومداركه أي نيةٍ قد تغشاه لأن يبقى رئيسا بعد الاقتراع المرتقب. وعندما تصمت اللجنة المركزية لحركة فتح، وأبو مازن رئيسُها كما هو معلوم، عن إشهار إعلانٍ واضحٍ في هذا الشأن، فهذا يعود، ربما، إلى أن الوقت مبكّر بعض الشيء، لكنه، على أي حال، يشجّع على المناداة المبكّرة هذه. غير أن أوساطا إعلامية فلسطينية تشيع أن الحركة ستذهب إلى خيار محمود عباس مرشّحا، أي رئيسا بداهةً. كما أن أسماءً فتحاويةً تأتي، ولو عَرضا، على أن هذا الخيار مؤكّد. وكان رئيس الحكومة الفلسطينية، محمد اشتية، وهو عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح، قد قالها، قبل أزيد من أسبوعين، على شاشة تلفزيون العربي، إن أبو مازن مرشّح الحركة، وإنه (اشتية) يعتقد أن لدى كل "إخوانه" في اللجنة المركزية الرأي نفسه، "غير أن الأمر، في النهاية، يعود إلى الرئيس نفسه". وبتراكم هذا كله، وغيره ربما، وبقياس محكّاتٍ مجرّبة، أو بلغةٍ أوضح، بقياس اللاحق على السابق، من المرجّح أن ينعقد القرار عند أصحابه، وبدفعٍ مصري وأردني، على أن يترشّح محمود عباس، في الواقعة الانتخابية المرتقبة، والتي مضى استحقاقان مثلها في السنوات العشر الماضية، ولم يتمّا، فتمدّدت رئاسة الرجل، فقيل إن هذا أحدث نقصانا في شرعيتها.
ليست النصيحة، ولا الإنشاء الرتيب إياه عن "ضخّ دماءٍ جديدة"، ولا الكلام عن التجديد وما شابهه، وإنما الضرورة شديدة الإلحاح هي ما توجِب على الرئيس محمود عباس أن يسلّم رئاسة دولة فلسطين لفائزٍ غيره في انتخابات الصيف المقبل. لو قلنا إن عمره، متّعه الله بالصحة، 85 عاما (وثلاثة أشهر) سببٌ لهذه الضرورة، فهذا صحيح، لكنه ليس سببا وحيدا، فثمّة تطلّع فلسطيني وفير، وكثير، إلى أن يرتاح أبو مازن، وزملاء له غير قليلين، منهم سبعينيون في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. هناك حاجةٌ قصوى لأن يتقدّم شبابٌ من أهل الكفاءة والمقدرة، وممن تعلّموا وعرفوا العالم وشروطه وتفاصيله، إلى دواليب المسؤوليات وصناعة القرار في مختلف وجوهه، سيما السياسي المتّصل لزوما بالموضوعة الوطنية. وإذ يشيع في أجواء الكلام الفلسطيني المعوّم، والمسترسل، والمكرور المضجر، حديثٌ عن إحياء منظمة التحرير وتفعيلها، فإن الثقة في الذين يردّدونه مفقودةٌ إلى حد بعيد، ليس فقط لأن ياسر عبد ربه مكث عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير 48 عاما، ممثلا عن الجبهة الديمقراطية أزيد من عقدين، ثم ممثلا عن منشقّين عنها نحو ثلاثة عقود، بل أيضا لأن محمود عباس نفسه يقيم في اللجنة نفسها، عضوا ثم رئيسا، منذ 38 عاما، ولأن راهنين فيها مستمرّون أعضاء منذ أكثر من 25 عاما. وأيضا وأيضا، لأن 70 عاما هو متوسط أعمار جميع الأعضاء، أما الشاب بينهم، صائب عريقات، فقد رحل إلى رحمه الله، بعد رئاسته دائرة المفاوضات مع إسرائيل 25 عاما.
لا يُؤتى، هنا، على قصة الأعمار والأجيال، للتبخيس من حكمة العتاقى، وللتعظيم من شأن الشباب والمُحدثين، ولا للتطيّر من نموذج سوفياتي في الحالة الفلسطينية، وإنما للتذكير بأن أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد (وغيرهم) كانوا ثلاثينيين، أو أقل، لمّا قادوا الحركة الوطنية الفلسطينية في طورها البيروتي وقبله الأردني، وعندما كانوا يجالسون الزعيم جمال عبد الناصر (مات عن 52 عاما بالمناسبة). ولذلك يصير من طبائع الأمور أن تتدافع الأجيال وتتزاحم، فمن الكاريكاتورية أن يبقى نايف حواتمة أمينا عاما للجبهة الديمقراطية منذ 51 عاما (هل أخطأتُ في العدّ؟).
أما ما أنجزه محمود عباس وأعطاه، فلكل مقامٍ مقال، والمقام هنا أن يُطلب منه أن يرتاح، أن يترك مطرَحه لشابٍّ ينتخبه الفلسطينيون، صاحب رؤيةٍ وبرنامج وطني. ولا نظلم الرئيس الفلسطيني إذا قلنا له إن رهاناتٍ غير قليلة خاضها أخفقت، ليس لاختلال موازين القوى فقط، وإنما أيضا لنقصان الكفاءة والأهلية فيه، تبدّى في غير موضع وموقع. ولا يُرمى فخامته بهذا الكلام هنا، تجريحا، وإنما للقول إنه اجتهد وأصاب أحيانا، وفشل أحيانا أكثر. لقد حمى الفلسطينيين من جوائح وجرائم إسرائيلية كثيرة، وهذا مما يُحسب له، غير أنه في غير أمر وأمر لم يفلح، بل كان (وغيره)، في مرّات غير قليلة، مسؤولا عن هبوط الحال الفلسطيني إلى القاع الذي يقيم فيه.
أخانا، أبا مازن، كم ستكون حصيفا ومقدّرا لو أنك لا تترشّح لانتخابات رئاسة فلسطين. .. من أجلك، ومن أجل شعبك، لا تفعلها، رجاء.