آخر العلاج الثورة
كانت الثورة، ولم تزل، الحلّ ما بعد الأخير. وآخر العلاج الكيّ، كما تقول العرب، نظراً إلى ارتفاع كلفة الثورات، حال نجاحها أو فشلها، ولا يمكن الانحياز للثورة في حال وجود حلولٍ بديلة، وإنْ كانت أبطأ وأعقد. ولن تجد الثورة، في هذه الحالة، انحيازاً جماهيرياً، أو حشوداً بالملايين، فلن تدفع الشعوب من دمائها وحرّياتها ثمناً لما يمكن تحصيله بأقل من ذلك. من هنا، الثورة إجبار لا اختيار. ولا يمكن لوم الشعوب على الثورة واستهداف الأنظمة وإسقاطها، ولو بالحرب، من أجل تحصيل أبسط حقوقها، فالفاعل الحقيقي والمسؤول الحقيقي هو من سلبها هذه الحقوق، وحرَمها حق الاعتراض على ذلك، ومسارات التغيير السلمي، أو الإصلاح من الداخل أو الخارج، أو مجرّد الكلام. الانفجار الثوري هنا ردّ فعل، لا فعل. يبدأ تفاديه، وينتهي عند الأنظمة الحاكمة.
أثارت تصريحات الباحث الكويتي طارق السويدان عن موقفه من الثورة، موجة من الانزعاج، نظراً إلى جماهيرية صاحبها وتأثيره في قطاعات واسعة من الشباب، وطوفان من المزايدات، بطبيعة الحال العربي، خصوصاً في مرحلة ما بعد الانقلابات والحروب على ثورات الشعوب، وبحث الأطراف كافة عن فرصٍ لـ"فشّ الغلّ". خلاصة تصريحات السويدان، في أكثر من لقاء، أنّه ضد الثورات، من حيث المبدأ، نظراً إلى كلفتها العالية، وأنّه مع الإصلاح من الداخل، وأنّ ذلك لا يتعارض مع دعمه حق الشعوب في الحرية والعيش الكريم، وأنّ الإصلاح من الداخل أفضل من الثورات، كما أنّ الثورات أفضل من الاستبداد. وعلى الرغم من "بداهة" ما يقوله السويدان، فإنّ معسكر مناهضي الرجل اعتبره "ردّة" سياسية، وتناقضاً أخلاقياً، كما عدّه خصوم الثورات، في تشفٍّ، قفزاً من مركب الثورات العربية بعد هزيمتها المفترضة، والتي يتصوّرونها نهائية.
كان من "جرائم" الخطاب السياسي، منذ اشتعال الثورات العربية، تصوير الثورة فعلاً مثالياً، طهرانياً، سماوياً. والثوار، جميعهم، بوصفهم أبطالاً أحراراً أنقياء، تحسم السياسة من بطولتهم، والمناصب من طهرانيتهم، والتفاوض من ثوريتهم، والواقعية السياسية، أو حتى البراغماتية في حدودها المطلوبة والمسموح بها، من شرعيتهم. حتى تحوّل العمل الثوري، وسط هذا الكم من المزايدات، (كان بعضه مقصودا وموجّها) إلى "عُصاب" جماعي، لا هدف من ورائه سوى تسجيل المواقف المجانية، من دون تحقيق هدفٍ أو "مصلحة" واحدة للثوار، أو من خلفهم من الجماهير التي وثقت بهم وساندتهم ونزلت معهم. وصار الأكثر ثوريةً هو الأكثر صراخا ومزايدةً وقدرةً على حشد الجموع من أجل "لا شيء"، وتوجيه بوصلتهم إلى "سرابٍ" يحسبه الظمآن ماء. ما يعني أنّ الأكثر ثوريةً هو الأكثر خدمة للثورات المضادّة، سواء وعى ذلك وقصده واستفاد منه، أم لم يعِه وجرى استخدامه مثل غيره.
من هنا، تصريحات السويدان "فرصة" حقيقية، خصوصا بالنسبة لتيار السويدان ودوائر تأثيره. وأتمنى أن يشاركه فيها رموز هذا التيار ونخبه بمزيد من التوعية والتفهيم، بطبيعة العمل الثوري، السياسي بالضرورة، وممكناته وإكراهاته، وبطبيعة المرحلة ومدى ملاءمة خيار الثورة، هنا والآن، في 2022. وبعد 11 سنة من ثوراتٍ غير مكتملة. وفي تقديري، نقاشاتٌ كثيرة، جادّة وصادمة، يجب أن تدور حول السؤالين: لماذا فشلنا وما الحلّ؟ واللذيْن لم يجدا، بعد عقد من الإخفاقات والإحباطات، من يجيب عنهما، إجابةً واقعية، تتجاوز التبرير إلى التفسير.
فشلت الثورات العربية، وتيارها الواسع، متعدّد الأطياف، لغياب البدائل السياسية لدى أصحابها، وعدم استعدادهم، على الرغم من ذلك، إلى التفاوض مع الأنظمة الاستبدادية، وإمكانية الوصول إلى "نقطة اتفاق". ما زالت أسباب الثورة قائمة، وما زال بالإمكان (وليس المطلوب) انفجارها، غير المحسوب وغير المدروس وغير المتوقع وغير القابل للسيطرة، ما يعني حاجة الجميع إلى "تفاهم"، مهما بدا غير ضروري لدى الطرف المنتصر، والذي يتوهّم أن انتصاره نهائي، أو موجع، وغير عادل، لدى الطرف المهزوم، الذي يتطلع إلى انتصار، يشفي صدور قوم "مغدورين"، ويتوهم أصحابه، بدورهم، أنّ "القاضية ممكنة"... شكراً طارق السويدان.