"كتالوغ" مصري للانقلابات العربية
عشية الانقلاب الذي نفذه الفريق أول عبد الفتاح البرهان في الخامس والعشرين من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) في السودان، عبّرت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، عن صدمتها وخيبة أملها في نظيرها المصري، سامح شكري، الذي لم يردّ على اتصالاتها الهاتفية. كما أنه لم يتصل بها كي يعبّر عن تضامنه معها ومع زملائها، من الوزراء والمسؤولين المدنيين، الذين احتجزهم البرهان عشية تنفيذ انقلابه، وذلك على غرار ما فعل وزراء خارجية ومسؤولون آخرون تواصلوا معها، وعبّروا عن تضامنهم معها ومع زملائها، ورفضهم ما جرى. وبقدر ما يعكس حديث الوزيرة السودانية، والذي أدلت به هاتفياً لقناة الجزيرة، قدراً عالياً من حُسن النية يصل إلى حد السذاجة السياسية، فإنه يكشف عن الدور الكبير والمؤثر الذي لعبه، ولا يزال، نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي في وقوع انقلاب البرهان. ولا تعرف مريم المهدي، وربما تعرف ولكن لا تريد أن تصدّق، أن نظيرها المصري وبقية مؤسسات دولته، ليسوا بعيدين عما يجري في بلدها، بل لا يُستبعد أن يكون شكري نفسه ممن يسوّقون حالياً انقلاب البرهان خارجياً خلف الأبواب المغلقة. هذا هو منطق الأشياء في منطقتنا، وما عداها تفكير بالأماني، فالوزراء والمسؤولون في بلادنا لا يقدحون من رؤوسهم، ولا يتصرّفون من تلقاء أنفسهم. ولِمَ لا وقد لعب الوزير شكري نفسه هذا الدور ببراعة على مدار السنوات السبع الماضية، بعد أن تم تعيينه وزيراً للخارجية في مصر من أجل تسويق انقلاب الجنرال السيسي إقليمياً ودولياً.
مصر هي الدولة الوحيدة التي رفضت البيان الرباعي الذي أصدره حلفاء السيسي الإقليميون والدوليون
لسنا في حاجة، إذاً، لعبقرية أو ذكاء استثنائي، لاستنتاج طبيعة الدور المصري في وقوع انقلاب البرهان، تماماً كما أننا لم نكن في حاجةٍ كي "نضرب الودع" أو "نقرأ الفنجان" كي نعرف، بل ونتوقع، أن انقلاب عسكر السودان على شريكهم المدني لم يكن سوى مسألة وقت، خصوصا في ظل عدم وجود سلطة حقيقية في يد الحكومة التي كان يقودها رئيس الوزراء المعزول، عبد الله حمدوك. وقد كتبْتُ عن هذا الأمر على صفحات "العربي الجديد" وغيرها، كذلك كتبَ وتحدّث باحثون ومراقبون آخرون كُثر، من أبرزهم عبد الوهاب الأفندي، الذي كتب محذّراً الفريق المدني في السودان من مخاطر الانسياق وراء العسكر. ففي مقال له بعنوان "في جنازة الديمقراطية والدولة السودانية" كتبه الأفندي قبل عام بالتمام من وقوع الانقلاب، كتب فيه بوضوح إن "الحكومة المسمّاة مدنية تأتمر بأمر العسكر، الذين سلمت رقابها لهم لأنها لم تكن تريد الحوار مع بقية الشركاء في الوطن. العسكر بدورهم يأتمرون بأمر آخرين من خارج الوطن، وينتظرون كذلك سراباً، ويبيعون الشرف والوطن والقرار بيع الغرر. وستكون نتيجة الصفقة الحالية، كما هو الحال في مصر وغيرها، تعزيز وضع العسكر، وتأجيل الديمقراطية إلى أجلٍ غير مسمّى".
كما لا يمكن، في أي حال، أن نتخيّل أن الجار الشمالي للسودان، الذي يحكمه جنرال عسكري جاء إلى السلطة من خلال انقلاب دموي قبل ثماني سنوات، سوف يقبل أن يكون على حدود بلاده الجنوبية دولة يحكمها مدنيون، ناهيك عن أن تكون دولة ديمقراطية. والحقيقة أن القاهرة لم تُخفِ يوماً قلقها من حدوث هذا السيناريو، فقد عبّرت مراراً وتكراراً عن عدم ارتياحها للشراكة بين المدنيين والعسكريين. ويكفي هنا أن نقرأ ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مصادر مصرية أنّ مدير المخابرات العامة، اللواء عباس كامل، زار السودان قبل الانقلاب بأيام قليلة، والتقى البرهان، ورفض مقابلة حمدوك، بل قال للبرهان نصاً بأنّ "حمدوك يجب أن يرحل"! أو بما تخبرنا به الصحيفة نفسها عن زيارة سرّية قام بها البرهان للقاهرة قبل يوم فقط من القيام بانقلابه، التقى خلالها السيسي، وأطلعه فيها على التفاصيل الأخيرة للانقلاب، وذلك من أجل ضمان دعم السيسي له إقليمياً ودولياً. كذلك يكفي أن نعرف أنّ مصر هي الدولة الوحيدة التي رفضت البيان الرباعي الذي أصدره حلفاء السيسي الإقليميون والدوليون (السعودية والإمارات وأميركا وبريطانيا)، ويدعو إلى عودة الحكومة المدنية الانتقالية، وإنهاء حالة الطوارئ التي فرضها البرهان عشية الانقلاب.
كلما زاد ضغط الشارع السوداني والقوى المدنية على البرهان ورفاقه ازداد التدخل المصري لصالح الانقلابيين
الأكثر من ذلك، بتحليل بسيط لخطاب الانقلاب الذي ألقاه البرهان عشية الخامس والعشرين من أكتوبر، يكتشف المرء أن الخطاب، في ما يبدو، قد كُتب في القاهرة، وليس في الخرطوم، وأن بصمات من كتبوا بيان انقلاب السيسي في الثالث من يوليو/ تموز 2013 ظاهرة فيه، كما تنبعث منه رائحتهم بشكل لا يمكن إخفاؤه أو طمس معالمه. كما أنّ الإجراءات والخطوات التي اتخذها البرهان منذ القيام بالانقلاب تسير على الطريق نفسه والأسلوب نفسه الذي نفذ السيسي من خلاله انقلابه. وكأن البرهان يقرأ من كتاب "الانقلابات" الذي وضعه السيسي، والذي أصبح بمثابة "كتالوغ" يسير عليه كل من يرغب في الانقلاب على شركائه المدنيين. تماما كما فعل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز الماضي حين استخدم اللغة نفسها والأسلوب والمنهج نفسيهما من أجل تنفيذ انقلابه على الدستور، وعلى الحكومة، وعلى البرلمان، وتماماً مثل ما قد يحدث في ليبيا قريباً!
ما تريده القاهرة من الخرطوم، وغيرها من العواصم العربية التي تحلم بإقامة حكم مدني ديمقراطي، واضح وصريح: لن نقبل سلطة مدنية، مهما كان الثمن، ولو تطلّب الأمر التدخل المباشر لإجهاض ذلك وضمان عدم وقوعه. ولا يتعلق الأمر فقط بخوف العسكر وحلفائهم في المنطقة من انتشار عدوى الديمقراطية بين الشعوب العربية، لكن أيضاً برغبتهم في تحطيم أي نموذج مدني للحكم قد يؤثر على صورتهم وسلطتهم ونفوذهم في المنطقة.
بكلمات أخرى، يبدو أنّ الديمقراطية العربية أصبحت بمثابة الخط الأحمر الذي لن يقبل السيسي، ومعه محور الثورة المضادّة، أن تتخطّاه المجتمعات العربية. لذلك، من المتوقع أنّه كلما زاد ضغط الشارع السوداني والقوى المدنية على البرهان ورفاقه ازداد التدخل المصري لصالح الانقلابيين هناك، ما يعني أنّ السودان مقبل على أوقات عصيبة وأثمان مرتفعة سوف يدفع ثمنها المدنيون، وذلك في سبيل التصدّي لانقلاب البرهان ومن يدعمونه ويقفون خلفه.