"شالوا" العمق

19 يوليو 2022

(آرام جوغيان)

+ الخط -

واحدةٌ من نكات الوسط الثقافي العراقي التي كانت شائعة في عقد التسعينيات، أن أحد الشباب العاشقين للشعر وكتابته دخل إلى مقهى حسن عجمي، المقهى الثقافي الأشهر في بغداد آنذاك، وشاهد أحد الشعراء "الصعاليك" الذين يتقصّدون الظهور بمظهر بوهيمي وعبثي. سلّم عليه وجلس بجواره، وتجاذب معه أطراف الكلام، وكشف الشاب الصغير عن أنه يسعى إلى أن يكون شاعراً، ولكنه لا يعرف القوافي ولا الأوزان، فردّ الشاعر البوهيمي عليه بثقة:
ـ أنت لم تعرف التطوّرات إذن !.. لقد شالوا [رفعوا] القوافي.. أكتب بدون قافية.
تقبل الشاب هذه النصيحة بامتنانٍ شديد وغادر، ثم بعد مدّة عاد وصادف شاعرنا البوهيمي مرّة أخرى، وعرض عليه بحماسٍ قصيدة من كتابته، وحين طالعها الشاعر البوهيمي اعترض عليه:
ـ أنت على ما يبدو لم تعرف بالتطوّرات.. لقد شالوا [رفعوا] الوزن.. أذا أردت أن تكتب شعراً حديثاً فاكتب بدون وزن.. ولكن اجعل كتابتك عميقة.
ذهب هذا الشاب وطبّق نصائح الشاعر البوهيمي، ومضى زمنٌ ثم التقى به، وعرض عليه ما كتبه على ضوء نصائحه، فقرأ الشاعر البوهيمي قصائد الشاعر الشاب، ثم أعادها إليه وهو غير مقتنع، وقال له:
ـ لقد شالوا العمق أيضاً .. لا تكتب بعمق بعد اليوم.
تؤرّخ هذه النكتة، أو الحكاية الطريفة، في واقع الحال، لجانب من الحياة الثقافية العراقية في تلك الأوقات، وإن لم تكن تقصد ذلك، حيث الاندفاع والحماسة عند قطاع واسع من الشباب المتعلّم إلى مزاولة الأدب، والشعر بالذات، وكمّ المفارقات التي تحصل مع المتحمّسين لاختصار الطرق، أو محاولة القفز على الحواجز للوصول إلى شهرة سريعة ما من وراء الكتابة الإبداعية.
كان عدد الشعراء حتى أواخر عقد التسعينيات مبالغاً به في العراق، بالقياس إلى أعداد المزاولين المهارات الأدبية والفنية الأخرى، يتوزّعون على تياراتٍ واتجاهاتٍ أدبية مختلفة، ما بين الشعر الكلاسيكي والحرّ وقصيدة النثر أو "الكتابة ما وراء الأجناس الأدبية".
المثير أن هذا المشهد الضاجّ بالشعراء تبخّر بعد إبريل/ نيسان 2003. وتوجّه جزء مهم من هؤلاء الشعراء إلى العمل الصحافي. وذهب آخرون إلى إكمال دراساتهم الجامعية، وصار بعضهم أساتذة ومدرّسين في الجامعات والكليّات، ثم مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، صارت الأجيال الجديدة تجد متنفّساً لها في التدوين اليومي على حساباتها الشخصية، وتحصيل المردود المعنوي على هذه المنشورات بشكل سريع من خلال الإعجاب والتعليق. وهذا الواقع الجديد يمنحنا منظوراً لفهم ضجّة الشعراء في عقود سابقة على عصر المعلوماتية ومواقع التواصل.
كان جزءٌ كبير من هؤلاء الشعراء المتحمّسين، الذين يتأبطون نصوصهم ويطرقون المقاهي الثقافية والكافيهات والأقسام الثقافية في الجرائد والمجلّات، يستمتعون بعيش التجربة، ويبحثون، كما في القصّة الطريفة للشاب التي تطرّقنا لها، عن "لايكات" من هذا الشاعر المكرّس أو ذاك الناقد الجهبذ المعروف.
إنهم لا يهتمّون إن قلت لهم إن الكتابة الإبداعية، حتى تؤتي أُكلها، تحتاج إلى صبر وزمن وجهد طويل، وإنما هم ينتظرون من حديثك تلك اللحظة التي ستذكر فيها، عن عمد أو من دون قصد، "وصفة" ما للكتابة الجيّدة.
أؤلئك هم أسلاف هؤلاء الذين يرسلون لك اليوم، من دون كلل أو ملل، عبر تطبيقات مواقع التواصل، أسئلةً عن وصفات سريعة لكتابة رواية جيّدة، أو قصيدة أو حتى بحث جامعي. بل لا يملك أحدهم صبراً، حتى لاستكشاف طريقٍ يستغرق عقداً من السنوات مع الكاتب الموهوب والمبدع الحقيقي، فيسألك عن الطريقة التي تمكن بها كتابة رواية تحقق الانتشار وتنال الجوائز ثم تُترجم، وما هي دور النشر الأجنبية التي يُنصح بمراسلتها.! هذا وهو لم يكتب بعد حرفاً واحداً، ولا يعرف الطريق لكتابة هذا الحرف.
بسبب هذا المناخ، هناك جوّ عام صار يتخلّق، يتّخذ نجاح المنشورات الفيسبوكية وحصدها مئات الإعجابات معياراً للحكم على الأعمال الأدبية، فيتأفّف من تشابك بنائها ومن عمقها الذي يستوجب خيالاً خصباً من القارئ للاستمتاع بها، وبدل أن يواجِه حقيقة أنه مدمن منشورات فيسبوكية، وليس قارئاً محترفاً، فإنه يتهم الأدب الجيد والرصين، ولسان حاله يتمنّى لو أن تهكّم الشاعر البوهيمي الذي بدأنا به هذه المقالة كان حقيقياً، وأن هناك من "شال" العمق من الأدب، ومن كلّ شيء.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي