"حماس" بين المبدئية وإكراهات الواقع
عبثاً تحاول حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أن توازن بين حسابات الضرورة والمصالح الضاغطة، من ناحية، وبين المبادئ والمثل، من ناحية ثانية، وبين المزاج العام لأبنائها وأنصارها، وكثير من قاعدتها الشعبية الأوسع عربياً وإسلامياً، من ناحية ثالثة. جذر المعضلة هنا واحد بالأساس، العلاقة بإيران وحلفائها الدائرين في فلكها إقليمياً. وكلما وجدت "حماس" نفسها مضطرّة إلى كيل المديح والتقريظ لهذا المحور، أو أحد أطرافه، ثارت ردود الأفعال في معسكر خصومها، عبر محاولة توصيفها أداة إيرانية، وكذلك في صفوف مؤيديها الذين يعتبرون ذلك مساومة على الدماء السورية والعراقية واليمنية. في حين يسارع آخرون بين أنصارها إلى الدفاع عنها، بذريعة رفع الحرج عنها بوصفها حركة مقاومة، فيزداد الاستياء بين الناقمين. تتضاعف مشكلة "حماس" حينما يخرج عدد من قادتها عن الموقف الرسميِّ الأكثر اتزاناً في مقاربة العلاقة النفعية المتبادلة مع المحور الإيراني، ومستوى التحالف معه ومدى هذا التحاف، وكيفية التعبير عنه. بعض هؤلاء القادة إما أنهم يفتقدون الحنكة السياسية أو الإعلامية، أو كلتيهما، أو أنهم يقدّمون حسابات ساحات وجودهم على السياق الأعم والأشمل لوجود الحركة في ساحات متعدّدة، وحساباتها الكلية المعقدة التي لا يمكن لها أن تَسْتَغْرِقَ أو تُسْتَغْرَقَ في حسابات ساحة واحدة فقط، وبالتالي يصبح ذلك عبئاً على الموقف من القضية الفلسطينية برمتها.
تتضاعف مشكلة "حماس" حينما يخرج عدد من قادتها عن الموقف الرسميِّ الأكثر اتزاناً في مقاربة العلاقة النفعية المتبادلة مع المحور الإيراني
منذ عام 2011، على الأقل، و"حماس" تجد نفسها بين فكّي هذه الكماشة، وتحديداً مع انطلاق الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد الذي كان يحتضن قيادة الحركة وكثيرا من قواعدها ومؤسساتها، ويقدم لها دعماً لا يمكن نكرانه، وتسهيلات كبيرة لم تحظ بنظير لها إلى اليوم. في 2012 غادرت الحركة سورية مرغمة، حتى لا تجد نفسها مضطرّة للاختيار بين النظام والشعب، فكان أن رفضت الانحياز إلى النظام وقمعه، مفضلةً خسارة الامتيازات القَيِّمَةِ التي كان يوفرها لها على أن تخسر صورتها النضالية فلسطينياً، والتي تحرص على عدم التورّط في أي شأن داخلي غير فلسطيني، فضلاً عن التواطؤ في سفك دماء أي شعب عربي.
طبعاً، لم يُرض هذا الموقف إيران ونظام الأسد، وبقية أضلاع ذلك المحور، وتحديداً حزب الله، الذين اعتبروا ذلك خيانة من "حماس" سنوات طويلة من الدعم الذي قدموه لها، فكانت هناك العقوبات والتوتر في العلاقات والتشنيع عليها. الكارثة بالنسبة للحركة أن الأطراف المتنفذة في النظام الرسمي العربي لم تقبل بها ولم تحتضنها، بل إنها نبذتها وأعلنت عداءها لها، منضوية هذه الأطراف بذلك في الخندق الأميركي - الإسرائيلي. أما ثالثة الأثافي، فكانت في الثورات العربية المضادّة التي أجهضت تجارب أَمِلَتْ منها "حماس" خيراً، كما في مصر، فكان أن وجدت نفسها معزولة، إلى حد كبير، من دون عمق حقيقي يحتضنها، خصوصاً أن قطر وتركيا ليستا في وارد دعمها عسكرياً ولوجستياً، واضطرها ذلك كله إلى مدِّ الجسور من جديد مع إيران، وتحديداً مع تغيير قيادتها عام 2017، وانتقالها من رئيس المكتب السياسي السابق، خالد مشعل، إلى الرئيس الحالي، إسماعيل هنية. لم تتردّد إيران، وكذا حزب الله، في التجاوب مع هذه المساعي، في حين لا يزال نظام الأسد يكِنُّ الضغينة لها. إلا أن الاقتراب كثيراً من إيران أوجد المعضلة الحالية التي تعيشها "حماس" ونقمة كثير من حاضنتها عليها.
تجد "حماس" نفسها أسيرة الحسابات المتناقضة بين المبادئ والضرورات، وبين المصالح والإكراهات
في الأسابيع الثلاثة التي تلت العدوان الإسرائيلي أخيرا على قطاع غزة، انفجرت هذه القضية في وجه "حماس" مرات عدة، كان جديدها تكريم ممثلها في اليمن، معاذ أبو شمالة، القيادي في جماعة الحوثي، محمد علي الحوثي، في صنعاء. قبل ذلك، كان القيادي في الحركة، المقيم في لبنان، أسامة حمدان، يقول إن "موقف الأسد الداعم للمقاومة ليس غريباً ولا مفاجئاً، ومن يُحَيِّنا بتحية نَرُدَّ بخير منها". مؤكدا أن "من الطبيعي أن تعود العلاقات بدمشق إلى وضعها السابق". سبق هذا وذاك مديح كاله رئيس "حماس" في قطاع غزة، يحيى السنوار، لإيران وحزب الله، مشيراً إلى أنهما لم يبخلا على الحركة خلال العدوان أخيرا. لكن، ولاستيعاب الجانب الآخر من المشهد، فإن "حماس" جدّدت، يوم الثلاثاء الماضي، مطالبها للسعودية بالإفراج العاجل عن القيادي فيها، محمد الخضري، ونحو ستين آخرين من أعضائها ومناصريها، تعتقلهم السلطات هناك منذ أبريل/ نيسان 2019. المفارقة هنا أن الإعلام السعودي شنَّ هجوماً لاذعاً على "حماس"، بسبب تكريم القيادي الحوثي، واعتبر ذلك طعنة في خاصرة الشعب اليميني، من دون أن يتحلى ذلك الإعلام ببعض النزاهة المهنية ليتحدث عن دور المملكة في الدفع بـ"حماس" إلى الاقتراب من إيران ومحورها. ومنذ 2015 تحاول "حماس"، عبثاً، ترميم علاقتها بالسعودية، إلا أن الأخيرة ترفض ذلك. وكان وزير الخارجية السعودي السابق، عادل الجبير، وصف الحركة، عام 2018، بالمتطرّفة. وقبل ذلك، عام 2017، حاول تحريض الغرب على قطر عبر مطالبتها بـ "التوقف عن دعم جماعات مثل الإخوان المسلمين وحماس".
كل هذه التعقيدات التي تعيشها "حماس"، بدءاً من العدوان والحصار الوحشي الإسرائيلي، خصوصاً على قطاع غزة، مروراً بتواطؤ السلطة الفلسطينية في رام الله والنظام المصري ضدها، ورفض النظام الرسميِّ العربيِّ المهيمن اليوم لها، وتآمره مع الولايات المتحدة وإسرائيل عليها، لا يعني كثيراً من أنصارها. هم يطالبونها بأخذ موقفٍ حازم من الاعتداءات الإيرانية على العرب، وكذلك من كل من يدور في فلكها، كحزب الله ونظام الأسد والحوثيين. هذا الفريق أشد وطأة على "حماس"، لأنه جزء من حاضنتها الشعبية الحقيقية، ورأيه ليس امتداداً للمواقف الرسمية العربية السالف ذكرها، بل إنه منطلقٌ من غيرةٍ عليها بناء على موقف أخلاقي مبدئي يتوقعه منها. ولأن توصيف المعضلة ليس كاختبارها ومعايشتها، فإن "حماس" تسقط في الحفر الكثيرة المتناثرة في مسارها السياسي المعقد.
كثيرون من مسؤولي الحركة ومتحدّثيها لا يجيدون اللغة الدبلوماسية والتعبير عن المواقف أمام الإعلام بأسلوبٍ مرن
مثلاً، عندما يصف هنية القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي اغتالته الولايات المتحدة مطلع العام الماضي في بغداد، بـ"شهيد القدس"، يثور عليه، محقين، كثيرون من السوريين واليمنيين والعراقيين واللبنانيين، وكثيرون من الفلسطينيين والعرب الآخرين كذلك. يدا سليماني ملطختان، لا شك، بكثير من دمائهم. ثمَّ تجد "حماس" نفسها مضطرّة للتوضيح، إلا أن هذا بدوره، في الغالب، لا يقنع الناقمين، ولا يرضي الإيرانيين ومن معهم. هذا بالضبط، ما حصل أيضاً في مسألة تكريم القيادي الحوثي، إذ إن بيان "حماس" التالي الذي حرص على تأكيد "وقوفنا مع كل أبناء الشعب اليمني الشقيق"، لم ينجز الكثير. أضف إلى ذلك أن بعض المسؤولين فيها (حماس)، الذين لا يراعون إلا ضرورات ساحاتهم، وتحديداً في قطاع غزة، لا يبالون بمن يغضب وبمن يرضى، وهم لهم في الحاضنة مؤيدون، يرون ضمنياً، أن مقاومة إسرائيل أولوية مقدّمة على أي هَمٍّ وجرح آخر، مهما كان غائراً، وهذا ما يغذّي الغضب عند الرافضين لهذا المنطق ضمن ذات الحاضنة ويستفزهم.
باختصار، تجد "حماس" نفسها أسيرة الحسابات المتناقضة بين المبادئ والضرورات، وبين المصالح والإكراهات. وفي الحقيقة، ليست هذه الوضعية حكراً عليها وعلى تيارات ما يوصف بـ"الإسلام السياسي" دون غيرهم، بل هي في صميم العمل السياسي وجوهره. المشكلة أن الإسلاميين، كما التيارات التي تتبنّى إيديولوجيات شمولية، كالشيوعيين مثلاً، أسسوا لنظريات ورؤى سياسية طهورية، ما لبثت أن اصطدمت ببشاعة الواقع، وإلا فكيف لنا أن نفسّر علاقة "حماس" ونظام عبد الفتاح السيسي، إذ يكِنُّ كلاهما عداء باطناً للآخر، خصوصاً أن "حماس" امتداد لجماعة الإخوان المسلمين التي انقلب عليها السيسي وبطش بها. هذا لا ينفي أن كثيراً من مسؤولي الحركة ومتحدّثيها لا يجيدون اللغة الدبلوماسية والتعبير عن المواقف أمام الإعلام بأسلوبٍ مرن، لا يستفز الأنصار، ولا يستعدي حلفاء الضرورة، ولكن الحقيقة هي الحقيقة. تعقيدات الواقع بالنسبة للمنخرطين في العمل السياسي المباشر أكبر من الفذلكات، وهذا حق ينبغي أن يُعطى للآخرين، كالسوريين واليمنيين والعراقيين، فهو ليس حكراً على الفلسطينيين. ومن المهم جداً أن ندرك هنا أن ما قد يعتبره بعضهم "ضرورات مشروعة" لطرفٍ ما، لا ينسحب على خيارات الأنصار والمؤيدين له. هذا يصبح تواطؤاً، والاعتذاريون عن الأخطاء، مهما كان حجمها، لا يفيدون بل يخرّبون. أما المصيبة، فهي عندما يلجأ غير المضطرين إلى محاولة تبرير قبيح أفعالهم ومواقفهم وتسويغها بذرائع غير قائمة. هذا موضوع آخر.