"القاهرة كابول"
لا أحد ينكر أن العنوان جاذب، وأن العنوان يلعب دورا في نجاح العمل الأدبي أو الفني، وقد جذبني عنوان المسلسل في اليوم الأول لعرضه، واعتقدت أن معارك طاحنة تنتظرني على الشاشة، ودماء وأشلاء وصراخ وخطب رنانة، ولكني وجدت نفسي أمام حكاياتٍ صغيرةٍ داخل قصة رئيسية تطرح قضية مهمة، وتحاول الإجابة عن سؤال ملحّ: كيف يتغير هؤلاء ويكبرون ويصبحون متناقضين، بل أعداء، وقد يُقدم أحدهم على قتل الآخر؟
أصدقاء أربعة يحلمون ويتمنون وهم صغار، وقد قرّروا أن يبذلوا جهدهم للوفاء بالقسم الذي قطعوه تحت ظل طفولتهم وبطانية مهترئة تمت سرقتها خلسة، وناموا تحتها ورؤوسهم إلى السماء، وكل واحد يحلم ويتخيل سرّ القوة في منظوره سيكون في الاتجاه الذي يراه، ولا اتجاه غيره. وبين هؤلاء هناك فتاة رقيقة اسمها منال، كانت لها الحظوة بينهم، هذه الفتاة يخطب ودها الأطفال الأربعة في مرحلة ما من حياتهم، فهي قد داعبت خيال كل واحد في لحظة ما على الأقل، لكن مشاعرها الغضة تفتحت مع ابن عمتها، الطفل رمزي الذي أصبح يقود جماعة متطرّفة، ويغادر الحي ذي الصبغة الروحانية، إلى كابول.
الحكاية التي سرقتني نحو الماضي هي حكاية كل البنات وكل الأولاد الذين تربوا في بيت واحد أو بيئة واحدة من ناحية الظروف الاقتصادية والاجتماعية، فالأصدقاء في المسلسل سكنوا البناية نفسها وعاشوا الظروف نفسها، بدءا من سبعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت طفولتي المبكرة في بيت الجد والجدّة، وحيث كان اللقاء كل صيف مع أبناء الأقارب الوافدين من بلاد الغربة إلى الوطن، وحيث تفتحت مشاعري الطفولية آنذاك نحو أحدهم، وصرت أدافع عنه، وأنا أكتشف، عاما بعد عام، أنه ينحى منحى لا يعجبني في أفكاره، وخصوصا نظرته إلى المرأة.
الحكاية الصغيرة الخطيرة التي يهملها الآباء والأمهات، ويلفتنا إليها المسلسل، وهي نقطة التحول المهمة في حياة الإنسان، والتي تناولها ضمن زخم أحداثه، أو السؤال الذي يطرحه: كيف يتغير أولادنا الذين تربوا في المكان نفسه وبالأسلوب نفسه، وأحيانا يكونون إخوة، وأحيانا ذوي قرابة من الدرجة الأولى، وقد كانت معظم البيوت العربية في ذلك الوقت تعتمد نظام الأسرة الممتدة، وحيث يعيش الجميع في بيت واسع، يأتمر بأمر الجد، وتسير أموره برضا الجدّة.
في مسلسل "القاهرة كابول" حكاية أخرى لافتة، وهي عن حياة كبار السن، وكيف تمر وتستمر بعد فقدان شريك الحياة. ولذلك نموذجان، أحدهما الخال حسن، مدرّس التاريخ المتقاعد الذي لم يتردّد في اتخاذ قرار الزواج ثانية، على الرغم من سنه المتقدمة بامرأةٍ دقّ لها قلبه، وتلك المرأة اتخذت قرارا بعيدا عن عقلها، واستمعت لنصيحته إن العقل قد خلق ليبتكر ويتعلم ويصل إلى الفضاء. أما القلب فعندما يدقّ فهو يصحبك إلى عشّ صغير فوق سطح بيت قديم في حي السيدة زينب، لتمضي أجمل أيام حياتك التي بدأت تتآكل، وتمضي بك سريعا إلى النهاية.
وبلمحةٍ عامة، يطرح "القاهرة كابول" أسئلة عن مصدر الإرهاب والتطرّف في العالم العربي مثلاً، ويفتح قضايا كثيرة عن علاقة المال والسلطة والإعلام، وكيف تؤثر في بعضها بعضا، فالمسلسل وضع نماذج أربعة أصدقاء أحبوا بعضهم ببراءة الطفولة، وأصبحوا أعداء حين كبروا وتفتحت عيونهم على مطامع الحياة التي يمكن الوصول إليها بشتى الطرق، فهناك الإعلامي الانتهازي الذي لا انتماء لديه لأي جهة بقدر انتمائه للمال والشهرة، ويدوس على أقرب المقرّبين على حساب ذلك. وهناك المتطرّف الذي يكفّر الجميع، ويحلم بأن يسيطر على العالم. وهناك رجل الأمن الذي يرى أنه يقوم بواجبه، ويبدو زوجا محبا ومخلصا وإنسانا عاديا، وعلى عكس ما صورته أعمال فنية يصرخ على الدوام، ويدمن التدخين أو حتى مقارعة الكأس. أما الصديق الرابع الذي قتل مع بداية الأحداث، فهو الفنان الذي تمسّك بحلم الفن والسينما رسالة، حتى اغتاله صديق طفولته الذي لم يعد صديقه.