"العربي الجديد" بعد سنتها الثامنة

28 ابريل 2022
+ الخط -

حَقَّقت صحيفة العربي الجديد حضوراً نوعياً في المشهد الإعلامي العربي، الورقي منه والرقمي. انخرطت في سوق الإعلام المُتعدِّد والمُركَّب والصّانع للأحداث والوقائع، وتواصل المساهمة في إضاءة كثير من أوجه الصراع السائدة اليوم في عالمنا. وأذكر أن ما لفت انتباهي الى الجريدة في بداياتها، العنوان الذي تحمله، ويشير إلى أفقٍ أفترض أن عمل الصحيفة يتجه إلى رسم ملامحه، لعلها تتمكّن في المدى المتوسط من المساهمة في بناء عروبة أخرى بديلة لعروبةٍ لم يعد لها صوت، في عالم عربي يتحرّك اليوم من دون أفق سياسي واضح. وأتصور أن للعروبة في مواد الصحيفة معاني تختلف عن الأدبيات التي سادت منذ ستينيات القرن الماضي.

تتّجه "العربي الجديد" بخطوات واضحة إلى تركيب أفق في النظر إلى مختلف الأحداث الجارية في العالم العربي وفي العالم. وهي تروم المساهمة في رسم بعض طموحات عرب اليوم، في عالم ساد فيه أغلب المجتمعات العربية تراجع كثير عن القيم التي حملتها الأجيال العربية التي واجهت الاستعمار في منتصف القرن الماضي، وواجهتها، قبل ذلك، الأجيال التي تَغَنَّت بمشروع النهضة العربية.

لم تكن مهمة "العربي الجديد" سنة صدور أعدادها الأولى إلكترونيا (30 مارس/ آذار 2014) سهلة، وتضاعفت صعوبتها وهي تواجه أحداثاً لم تكن متوقعة في المحيط العربي. واجهت إيقاع الانفجارات الاجتماعية والسياسية التي كانت تقف وراء الثورات العربية وتداعياتها. كما واجهت الخلافات العربية العربية، وواجهت عودة الاستعمار إلى بلدان عربية كثيرة، في سياق ما أفرزته تداعيات ما بعد الثورات. ولم تتوقف رياح الثورات العربية، وقد عمّت في النهاية أغلب البلدان العربية، وترتَّب عن ذلك نشوء ثورات مضادّة، عمل أصحابها على مواجهة المد الثوري العربي، وحاولوا التصدّي لكل ما يؤجّج أشكال مقاومة الاستبداد داخل المجتمعات العربية.

خيارات واضحة، وحرفية في المقاربة والتحليل والرأي

واجهت الصحيفة ما أشير إليه أعلاه بخيارات واضحة، وبحرفية في المقاربة والتحليل والرأي. كما واجهت جنينية مشروع الانتقال من دولة الاستبداد إلى الدولة العربية الديمقراطية، في البلدان التي نجحت فيها الثورات، بمختلف ما تَرَتَّب عن ذلك من استقطابات سياسية ومعارك جديدة، وبكل صور العنف والتناقض التي حملتها وما زالت تحملها الأوضاع العربية، منذ حراكها الثوري سنة 2011.

كانت لا تتردّد في الإعداد للأحداث الكبرى عن طريق إنشاء ملحقات وملفات تمكِّنها من مواكبة أهم الأحداث القومية والدولية وبصورة متتابعة، تقترب منها من زوايا مُتعدّدة، وتفتح المجال أمام مختلف التناقضات المؤسّسة لأبعادها المختلفة. نقف ونحن نتابع عمل الصحيفة على جوانب من الجهود التي ركَّبت، وتواصل اليوم تركيبها في ملحق فلسطين، حيث تقدّم مواد الملحق مواقف متعدّدة من تناقضات المشروع التحرّري الفلسطيني وتحولاته، في زمن يتسم بكثير من التراجع عن القيم والشعارات التي ارتبطت بمشروع التحرير في ستينيات القرن الماضي.

احتضنت صحيفة العربي الجديد المواقف المختلفة والمتناقضة أحياناً، وسعت إلى تحويل المقالة الصحافية من مقالة تقرير ووصف إلى مقالة إبداع ورسم وتوقُّع

نُعاين، أيضاً، ونحن نفتح ملحقها عن وباء كورونا، وأشكال غزوه المجتمعات البشرية، والإشكالات الطبية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية المترتِّبة عنه، فنقف على كيفيات في مقاربة الوباء تتسم بكثير من التنوع. وتواجه الصحيفة اليوم حرب أوكرانيا بالروح نفسها وبالأفق نفسه اللذين تتعامل بهما مع القضايا العربية والعالمية، حيث يحضر الرأي العربي والموقف العربي وزاوية النظر العربية، كما تحضر الملامح العامة لآفاق التغيير الجارية، والتي يُنْتظر منها أن تساهم في تعديل كثير من أسس العلاقات الدولية في عالم جديد.

حَرِصَت "العربي الجديد" خلال السنوات الماضية على تجديد طرقها في العمل، سواء في شبكة الملاحق التي تصدرها، أو في موقعها الرقمي وكذا في نسختها الورقية. واستوعبت بنيتها كثيراً من التجديد، وكثيراً من الفنية العالية في بناء موادها وتقديم هذه المواد. وعندما نقف، على سبيل التمثيل، أمام باب المنوعات أو المرايا أو الكاريكاتور في باب المقالات ونقرأ بعض مدوّنات المدوّنين، نكتشف أننا أمام صحافة جديدة، تعكس جوانب من الثورة الإعلامية المتواصلة في عالمنا. أما أبوابها العادية في السياسة والمجتمع والاقتصاد، فإنها تساهم في الاقتراب من القضايا التي تنظر فيها، مستفيدةً من كل الخِبرات والمعارف الجديدة. ومن الأمور المهمة، في هذا السياق، المكاسب العديدة التي بلورتها الصحيفة في صفحاتها الثقافية اليومية، وفي موقع ضفة ثالثة الرقمي الصانع بدوره جهودا مهمة في الكتابة العربية والثقافة العربية الجديدة.

لا نتردَّد في القول إن من أهم مزايا "العربي الجديد" احتضانها المواقف المختلفة والمتناقضة أحياناً، وسعيها إلى تحويل المقالة الصحافية من مقالة تقرير ووصف إلى مقالة إبداع ورسم وتوقُّع، وتحويل بلاغة الكاريكاتور إلى رأي قادر على الإثارة والفعل. وبهذه الطريقة، نسجت لنفسها وسط خريطة الإعلامين، العربي والعالمي، موقعاً وموقفاً، فظلت صحيفة التفاعل اليقظ مع مختلف التحولات الجارية في العالم. وقدّمت شهادات وآراء وزوايا نظر، اشتبك فيها محرّروها ومختلف الساهرين على مختبرها الكبير مع متغيراتٍ كثيرة تبلورت في الفضاءين السياسيين، العربي والعالمي.

فتحت صفحاتها وموقعها الرقمي المتعدّد الأجنحة للجدل الجادّ في مختلف قضايا الراهن العربي والدولي

يُحْسَب لصحيفة العربي الجديد في الذكرى الثامنة لانطلاقها، أنها تمكّنت وسط التنوّع السائد اليوم في الإعلامين، الرقمي والورقي، أن تصنع لنفسها مكانة وموقعاً في زمن قصير، يعود ذلك إلى أنها فتحت صفحاتها وموقعها الرقمي المتعدّد الأجنحة للجدل الجادّ في مختلف قضايا الراهن العربي والدولي. كما فتحت مختلف أبوابها للتطلّعات والتوقعات والأحلام، في عالم يتشكل من جديد على أنقاض عالم يختفي. وقد تحلَّت منذ انطلاقها بفضيلة الاستماع والمتابعة لمختلف التفاعلات المترتِّبة عن التغيرات والتحولات المتواصلة في العالم، في السياسة والاقتصاد والفكر والإعلام، حرصت على أن يكون لها أكثر من رأي في كل قضية، إيماناً من القائمين على ما ينشر فيها بلزوم اليقظة ولزوم التحفظ على المواقف القطعية والقاطعة، ومن دون التفريط، في الوقت ذاته، في المبادئ والمقدّمات الكبرى، التي تحملها تسميتها.. ويحملها مشروعها الإعلامي.

كانت "العربي الجديد" وما تزال، منذ أعدادها الأولى، لا تتخلَّى عن شروط الممكن في السياسة، ولا تتردّد في الدفاع عن مختلف القضايا التي تملأ الواقع العربي والعالمي. وقد عاينّا ذلك، ونحن نتابع مواقفها وآراء المساهمين في تحرير أبوابها، حيث تقدّم الصحيفة والموقع الرقمي مواقف تمتاز بالتعدّد والتنوع، كما تقدّم آراء متناقضة وهي تقترب من أسئلة وقضايا سياسية معقَّدة، إلا أنها لا تتردّد، في الوقت نفسه، في تركيب ما يوضح أفقها السياسي العام، الأفق الذي يتجه العربي الجديد إلى بنائه، في عالم يمتلك صفة التلاشي، وآخر يحدّد الملامح الكبرى لعالم آخر في طور النشوء والتكوين.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".