"العدالة والتنمية" المغربي .. سؤال الذات والمخزن
برز خطاب التقريع العربي والإسلامي، بعد اتفاق واشنطن ــ تل أبيب ــ الرباط، ووُجّه إلى رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، بسبب تبنّي قرار التطبيع الذي اتخذه الملك محمد السادس، ضمن القافلة العربية التي استُدعيَت، في حقبة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الأخيرة، للحصول على صفقة دعم لصالح الكيان الإسرائيلي، وهي مسيرةٌ لا يُعتقد مطلقاً أن تتخلّى عنها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وإن خفّ زخم اليمين وحضور شخصية رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي اتحدت مع لوبي عربي حينها، في دعم ترامب ورحلة اليمين المتطرّف في واشنطن. وكان أحد أبرز دوافع الحملة أنّ العثماني، وهو مفكّر معروف، وأمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي، يُمثّل مشروع الحركة الإسلامية في المغرب، والتي اختلفت عن نموذج الإخوان المسلمين التربوي في مصر، وإن بقيت روابط الجمع الفكرية، والدعوية، بين المغرب والحركات القُطرية في الوطن العربي، مع الاستقلال التنظيمي، وافتراق نموذج التدافع السياسي والفكري الذي اكتسب خصوصية في المغرب، كما هو في تونس.
لكنّ الحملة على "العدالة والتنمية" تصاعدت، خصوصاً أنّ البيان الذي أصدره كان ضعيفاً وتبريرياً، أمام الشق الذي يخصّ التطبيع مع تل أبيب، مع التغطية على الجانب المختص بالصحراء الغربية وموقف الرباط في السيادة عليها. وبالتالي، جاء موقف العثماني في سياق المحصلة النهائية لحالة الحزب وواقعه، تحت سلطة المخزن المغربي (النخبة الحاكمة) وهي مرجعية الملك العليا الحاسمة. وهي التي في الشقّ الثاني من الملف احتج بها العثماني بأنّها تساعد في إنهاء ملف الصحراء لصالح المغرب، وهو أمرٌ يحظى بدعم شعبي واسع، ومن الشريحة الشعبية المؤيدة للرباط في الصحراء، لإنهاء الأزمة تحت ظل فيدرالية ذات مساحة تساعد في تحقيق نهضة للشعب في الصحراء، ضمن الحدود السيادية للمملكة المغربية. وهي قضيةٌ لا يمكن أن نُحدّد فيها مرجعية عربية مبدئية، سوى الأمل بأن يكون الحلّ سلمياً، وأن يجمع بين وحدة الأرض المغربية والحق السياسي والاقتصادي للشعب في الصحراء، وأن تطوى هذه الصفحة بسلامٍ تضمنه روح المسؤولية والإخاء قبل الرعاية الدولية.
احتقن الشارع مرات عدة، وإن كان هناك من يقول إنّ الحزب دعم بعض الشؤون التنموية وعجلة العمل الحياتية في المغرب
وهنا تبرز القضية المركزية، أنّ المشاركة الإسلامية في الحكم، وهي تحت سلطة الملك وقيادته السياسة الخارجية، والوزارات السيادية، لن تُغيّر كثيراً من واقع تجربة حكومات الأحزاب العلمانية، ربما يختلف الوضع، حين يتمكّن حزب العدالة والتنمية من تحسين الواقع المعيشي والاقتصادي، والدفع بالتأمين الحقوقي للمواطن، وضمانٍ أكبر لحرية النقد السياسي، غير أنّ تجربة الحزب لم تنتقل إلى تغييرٍ مشهود في هذه الملفات، بل احتقن الشارع مرات عدة، وإن كان هناك من يقول إنّ الحزب دعم بعض الشؤون التنموية وعجلة العمل الحياتية في المغرب، فهو تفصيل يحسمه الشارع المغربي. والسؤال هنا الذي قد يؤخذ مركزياً أمام تاريخ المشاركات الإسلامية في حكومات الوطن العربي، النسبية والكليّة، هو مواجهتها أزمة البرنامج، لا منصّة الصوت الخطابي، وما هو الفارق الذي تستطيع تقديمه لصالح المواطن المغربي. والحقيقة أنّ هذا النموذج ونماذج عدة قد تُحال إلى مسؤولية الاستبداد العربي، من دون أن يُبرّئ الإسلاميين من أخطاء تجاربهم، إذ تنخرط هذه الجماعات في دولاب مركزية النظام السياسي، ويتم استيعابها، بغض النظر عمّا إذا كان هذا الاستيعاب سيكشف دلالة فشل سياسي للأداء، فالسؤال هنا: لماذا إذاً توقد الحروب من المستبد العربي، ولا تترك هذه الجماعات لتفشل، وأين هي مصداقية تلك التبريرات الضخمة التي أُشعلت على الإسلاميين، وها هم في عجلة الدولاب، لا تكاد تسمع لهم رِكزاً؟
بالطبع، هذا فشل أخلاقي وفكري، لكنّه جزءٌ من المدافعة السياسية، واختبارها الصارم، والإسلام، بوصفه رسالة، لا يجوز مطلقاً أن يُستخدم في التحشيد الجماهيري للتغطية على الفشل. والمحصّلة وجبة حكومة أو وزارات. وهذا كلّه لا يلغي أهمية حالة الفساد أو الخلل الإداري الذي قد يتورّط فيه بعض الإسلاميين، لكنّ المهم أن تكون محاسبةً شفافة، لا شوفينية علمانية متطرّفة.
مع مشكلة خطاب الإسلاميين وتأسيس المشروع للمشاركة، هناك أزمة قرار يقف عنده رئيس الحكومة، باعتباره موظفاً لا شخصية تحت المسؤولية
يقوم سؤال المغرب اليوم على الفكرة نفسها التي تحفّظ عليها اليسار الحقوقي السياسي، وليس اليسار الأيديولوجي المُعاد تصنيعه لهدم قيم الوطن العربي، فهذا اليسار الوظيفي مجرّد ترسٍ للرأسمالية، لا قيمة فكرية له. وقد اتحدت مع اليسار السياسي الذي رفض مبادرة الملك، لاحتواء ربيع المغرب، جماعة العدل والإحسان، وهي القضية التي أشار إليها الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، بنفسه، قبيل الضغط عليه، ثم استبداله من حزبه، بعدما نجح في حينها بتشكيل قاعدة أوسع من جمهور الإسلاميين، حين طالب بالحصول على ضماناتٍ تسمح للحكومة بصلاحيات قادرة، على التغيير النوعي لصالح المواطن، ونزاهة أكبر في مساحة التشكلات السياسية خلال الانتخابات، وبعدها تعالج نموذج الملكية الدستورية. وهذا المصطلح (أو الإمارة الدستورية) بات اليوم يحتاج إلى تحريرٍ واضح، فهو لا يُمثّل فصلاً تنفيذياً للسلطات، يعطي مساحة استقلال للحكومة المنتخبة، في إدارة موارد الدولة وفي السياسة الخارجية، وبالتالي هذا التمركز الأخير للسلطات، وإن كان يُخفّف من بأس الأنظمة الشمولية، ويُعطي مساحة حرّيات تشكيل أحزاب وجمعيات أفضل بكثير من الملكية الشمولية، لكنّه، في النهاية، يُعيد الخيوط إلى الفردية الملكية، ويتحوّل الاحترام الأخلاقي لسلطة الملك، سواء في المغرب أو غيره، إلى تشريع ضمني، ينزع حق السيادة الدستورية من الشعب وتقاسم الثروة، الذي يفترض أن تنفّذه حكومة الحزب الناجح في انتخابات ديمقراطية.
هنا قصة المغرب تُسفر عن أزمتها، فمع مشكلة خطاب الإسلاميين وتأسيس المشروع للمشاركة، هناك أزمة قرار يقف عنده رئيس الحكومة، باعتباره موظفاً لا شخصية تحت المسؤولية. وعليه، يُعاد سؤال التجربة المهم هنا: ما هو حجم التغيير الذي يمكن للحركة الإسلامية أن تحقّقه، في ظل عجلةٍ تطويها وتطوي غيرها؟ فالعبرة في نجاح ديمقراطية الغرب، على الرغم من ظلمه الجنوب، في الصلاحيات لا المسميات.