"التوأم الجيوستراتيجي" الإسباني المغربي يرى النور
خصّ القصرُ الملكي في المغرب ضيفَه رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، مساء يوم السابع من أبريل/ نيسان الجاري، باستقبال فريد على مائدة الفطور، لم يسبقه إليه سوى عاهل إسبانيا، فيليب السادس. وكان اللقاء إيذانا بمرحلة جديدة في العلاقات بين جارين في غرب المتوسط، ضبطت ساعاتِها في حالات عديدة فتراتٌ من التوتر، وصلت منذ قرابة سنة وعلى طول شهورها إلى حد القطيعة الشاملة. وقد رأت النخبة الإيبيرية قبل غيرها، في الدعوة الملكية وطريقة الاستقبال، وما رافقها من رمزيات، قطيعة مع البروتوكول الذي اعتادته الدولة المغربية في أنشطة العاهل المغربي، وتغييرات في البروتوكول التقليدي لنظام السلطة فيها، ليس في الجانب الاحتفائي وحده، بل أيضا على مستوى الأداء المباشر في ملف أزمة العلاقات بين الجارين، وأيضا لمخرجات حلها وترتيبات تبعاتها من بعد على المنطقة برمتها، وعلى البلدين بالأساس، فقد كان متوقعا أن تسير التطورات وفق البروتوكول التقليدي الذي يقتضي مجيء وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل أَلْباريس، إلى الرباط، يوم الخامس من أبريل/ نيسان نفسه، للقاء نظيره المغربي، والإعداد للجنة العليا المغربية الإسبانية، لكن دقة المرحلة وطبيعة المصالحة الإسبانية المغربية اقتضتا أن يباشر ملك المغرب، محمد السادس، وممثلها الدستوري في إسبانيا الحوار بشأن الأزمة، ومن ثمة توضب المستقبل بما يليق من أفق جديد.
وبهذا التقدير، كان اللقاء في الواقع تتويجا لمسار دقيق، هادئ وغير مسبوق، بدأه العاهل المغربي في أغسطس/ آب 2021، عندما أعلن في خطاب "ثورة الملك والشعب" عن وجود حوار صريح وناضج مع بيدرو سانشيز، يتابعه العاهل المغربي مباشرة، وتكللت خطواته برسالة رئيس الحكومة الإسبانية، سانشيز، في 14 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، يعلن فيه عن التحول الكبير في الموقف الإسباني، لصالح المقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء. وهو ما رد عليه العاهل المغربي بمكالمة، أجراها مع رئيس الحكومة، تلاها بلاغ (بيان) من الديوان الملكي يعلن عن تغيير في طبيعة المصالحة، والأفق المنتظر منها، ثم دعوة الرئيس سانشيز إلى لقاء عمل مع ملك المغرب وأمير المؤمنين فيها.
تناولت الصحافة بعض هذه التفاصيل، كما عولجت نتائجها حيث عودة المياه إلى مجاريها، أو بالأحرى إلى مضيقها! لقد استطاع البلدان المتوسطيان أن يتجاوزا إحدى أصعب الأزمات، في إحدى أصعب المراحل، تخيم فيها على المتوسط كل أشباح الحروب في العالم (ظلال الحرب الروسية الأوكرانية، نزاعات الشرق الأوسط، الحرب الليبية، ارتفاع منسوب العنف في شريط الساحل جنوب الصحراء،…)، وكل التقاطبات الحادّة في شرق المتوسط وغربه. قرأ الطرفان صفحة الأزمة، واختارت إسبانيا أن تغير منطق التعامل مع المغرب، بناء على إقرار نهائي وسيادي بمركزية قضيته الوطنية الأولى و"أهميتها" في بناء ذاته وشراكاته، وخرجت من "طمأنينة الالتباس" التي عاشتها، في رحلة الشتاء والصيف بين الرباط والجزائر، وحسمت لفائدة توأمة استراتيجية مع المغرب، امتدادا لأوروبا جنوبا، ولصالح نفسها امتدادا لأفريقيا شمالا.
إسبانيا هي الدولة التي كانت تحتل المغرب جنوبا وشمالا، ومنه الصحراء، 90 سنة، وهي التي سلّمت مفاتيح الصحراء للمغرب في 1975
ويمكن قراءة ما حصل من زاوية دلالات الصورة التي قدّمها الطرفان، أن المصالحة هي رسالة سلم وطمأنينة لشركاء كثيرين، ليس فقط في المنطقة، بل أيضا في المحيط الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي.
لا يغيب عن البلدين، في القمة أو في النخبة، أن هناك "منازعات" ترابية تطلبت الخطوة الأكثر جرأة فيها إعلان إسبانيا دعم مقترح الحكم الذاتي على ما عداه، وليس باعتباره إحدى القواعد الأكثر جدّية ومصداقية، بل باعتباره "القاعدة" الأكثر جدّية، أي بتعريف شرطي، يفيد بأن الحكم الذاتي هو القاعدة الوحيدة للحل في الصحراء. ولعل ما أزعج الجارة الجزائر التي دافعت دوما عن استقلالٍ يتوج استفتاء تقرير المصير أن إسبانيا طالما لعبت دورها بالوكالة، وآخر مرّة وقع ذلك كان عند استقبال زعيم الانفصاليين الصحراويين في مستشفياتها، باسم مستعار وجواز سفر مزوّر. كما أن إسبانيا ليست أية دولة، بل هي الدولة التي كانت تحتل المغرب جنوبا وشمالا، ومنه الصحراء، 90 سنة، وهي التي سلّمت مفاتيح الصحراء للمغرب في 1975، كما أنها وقعت معه، ومع موريتانيا، اتفاقا ثلاثيا حولها، وعارضته جزائر الراحل هواري بومدين، وهي دولة نشيطة في "مجموعة أصدقاء الصحراء" التي تُستشار في كل ما يتعلق بالقرارات الخاصة بالصحراء، إضافة إلى اعتبارها الدولة الحاضنة لنشاط مدني وحزبي يفوق منسوبه كل ما يشابهه في الدول الأوروبية جمعاء، ان لم نَقُلْ دول العالم. علاوة على أنها تعرف تفاصيل كثيرة عن ساكنة الصحراء الحقيقيين، وما له علاقة بعناصر ميلاد الحركات الانفصالية.
ولعل من دلالات القوة التي تمثلها الصحراء سياسيا وتاريخيا في الوسط الإسباني ما تركه قرار بيدرو سانشيز التاريخي من تفاعلاتٍ ما زالت تتوالى لاعتباراتٍ يطول شرحها، ولكن أساسها يكمن في وجود تقاطبات تاريخية ونفسية وأيديولوجية، يلتقي فيها الراديكالي اليساري في بوديموس والحزب الشيوعي الإسباني مع الفرانكاوي الحاكم بقوة اليمين عند الحزب الشعبي اليميني المعارض بالسياسي المتربص بإسبانيا التي حرّرته من حركته الانفصالية في إقليم الباسك وعاصمته كاتالونيا!
وفي مرفقة وصفة المصالحة، كان هناك أفق انتظار، يتمثل في كيفية ترصيد (و"رسملة") أجواء التحول التاريخي وما يرافقها من "مزاج استراتيجي" محسوب إذا صح التعبير، إلى معادلات استقرار وأمن وازدهار.
في أجندة المستقبلين، القريب والبعيد، قضايا الهجرة غير النظامية التي صارت تفرض مقاربات جديدة ومندمجة، تتجاوز اعتبارها أزمة دول الجنوب، بل حركية عالمية
ومن شبه المحسوم، في العاصمتين الرباط ومدريد، أن المرحلة الجديدة ستغير معادلات جيوستراتيجية كثيرة، ومن معطيات الوضع السياسي في منطقة الغرب المتوسطي، وفي قضاياها الأمنية والعسكرية والاقتصادية، بل والترابية أيضا. ويعرف البلدان أن قضايا ترابية أخرى ما زالت على طاولة التاريخ، وتستوجب مدونة سلوكٍ سياسيٍّ جدية وحاسمة، قوامها الشفافية والاحترام المتبادل، وعدم اللجوء إلى الأمر الواقع .. إلخ. ومنها ما يتعلق بالنزاعات الترابية الموروثة عن التاريخ. ولعل في كلمة العاهل الإسباني، في يناير/ كانون الثاني الماضي، عند استقبال السلك الديبلوماسي في بلاده، شيفرة حل (code) يفيد بأن العلاقات القادمة يجب أن تكون "علاقات شراكة تليق بالقرن الواحد والعشرين"، وأول ما يتطلبه القرن المقبل هو الحسم مع الماضي الاستعماري الذي طبع القرون الماضية، وفي صلبها القضايا الترابية العالقة. وما يستوجبه ذلك من مقارباتٍ تدرجية رصينة، تستحضر المستقبل المشرق أكثر من الماضي .. المفترق!
وفي أجندة المستقبلين، القريب والبعيد، قضايا الهجرة غير النظامية التي صارت تفرض مقاربات جديدة ومندمجة، تتجاوز اعتبارها أزمة دول الجنوب، بل حركية عالمية، تفرض واجبا أخلاقيا وسياسيا وتنمويا على دول الشمال، وإسبانيا أولها، باعتبار أنها عتبة القارّة الأوروبية والعالم الغربي، وبلاد محاطة بمعابر وردهات بحرية متوسطية وأطلسية، تجعلها المفاوض الأوروبي في الوضوع.
ولإسبانيا، في الترتيب الدولي الجديد في غرب المتوسط، حدود تمتد إلى دول الساحل، وتلزمها الخبرة المغربية، كما شهدت هي نفسها على ذلك، عندما وشّحت مدير المخابرات المغربية الداخلية، عبد اللطيف الحموشي، بأعلى وسام لديها، كما أن الأجندة القريبة تطرح حضورها في المؤتمر العالمي المقبل في الرباط الذي سيلتئم خلاله أعضاء التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويقودانه المغرب والولايات المتحدة، في حين تحتضن مدريد في الضفة الشمالية مؤتمر حلف الناتو في يونيو/ حزيران المقبل، لوضع "المفهوم الاستراتيجي الجديد" للحلف وأدوار أوروبا الجديدة في صلبه.
نظام الجزائر الذي رفض اليد الممدودة من المغرب يسعى إلى اللعب بالنار الروسية في غرب المتوسط
على المستوى الاقتصادي، ما زالت إسبانيا الرابح الأكبر، وهي اليوم الشريك التجاري الأول للمغرب، وتجاوزت في ذلك حليفه التقليدي فرنسا. وقد ظل الاقتصاد في حالات كثيرة "وسادة امتصاص الأزمات" بين الدولتين، ويمكن أن تستفيد من تحول النسق المغربي، والذي تبنّاه منذ مدة، عند الحديث عن "السيادة قبل السياسة"، باعتبار أن إسبانيا انتصرت لسيادة المغرب على صحرائه. وهي تدرك، في المقابل بأن هذا الاعتراف يفتح طريق المستقبل أمام انتظاراتها الجيو - استراتيجية والسياسية والاقتصادية والتجارية، وما إلى ذلك مما تحدثت عنه بإسهاب صحافتها ونخبتها.
والجزائر في هذا كله؟. .. أغلقت على نفسها في متلازمة قديمة تعبيرها الجيو- استراتيجي "من يكون الأقوى في المنطقة؟".
ولا يبدو أنها ستلتحق بـ"التوأم الاستراتيجي"، المغرب وإسبانيا، بل يبدو من خلال ما تسرب من لقاء الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، مع وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن، في تزامن مع زيارة بيدرو سانشيز المغرب، استمرار معاداة المغرب قاعدة في السلوك السياسي للقيادات العسكرية وواجهتها المدنية. وليس هناك ما يفيد بأن التحولات التي حصلت في المواقف الدولية، سيما في واشنطن وبرلين ومدريد، قد تدفع العسكر إلى اختيار الانفراج، والسعي إلى تشكيل كتلة مغاربية في قلب المعادلات الغرب - متوسطية. الأنكى أن نظام الجزائر الذي رفض اليد نفسها الممدودة من المغرب يسعى إلى اللعب بالنار الروسية في غرب المتوسط، عبر مناورات على الحدود المغربية في زمنٍ تتطاير شظايا الحرب فيه، مع رياح المواجهات في أوكرانيا. وفي الوقت ذاته، أرسلت إلى جارها الشمالي رسالة من تحت الغاز، عندما أعلن مدير شركة سوناطراك العملاقة في مجال المحروقات أن بلاده قد تعيد النظر في أثمنة الغاز الذي تبيعه إلى مدريد!