"أحبك، وأنا لا أحبك أيضاً .."
العنوان هو لأغنية فرنسية مشهورة، ولطالما تساءلت عن معناه الدقيق، وجاءت الإجابة سياسية بامتياز.
ساهمت الولايات المتحدة، بعد طول انتظار، في الانتصار الأوروبي على النازية إبّان الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من عدم تعرّض أميركا للخطر المباشر من قوات هتلر وطموحاته، وعلى الرغم من تحالف بعض قطاعاتها الصناعية والمالية وقتياً مع تطلعاته، وعلى الرغم من أن الميل كان واضحاً لدى الأميركيين للنأي بالنفس عن الصراع مع النازية، إلا أن القرار اتُّخذ في مرحلةٍ متأخرةٍ من هذه الحرب بالتدخل في مصلحة أوروبا غير النازية، استناداً إلى مخاطر الحلف النازي/ الياباني الذي كان يلوح في أفق العلاقات الاقتصادية الدولية. أثار هذا الحلف اهتمام واشنطن أساساً، وحمّلها، على الرغم من تراجع المد الياباني، ووضوح انحساره نحو الاستسلام، إلى تجربة سلاحها النووي الحديث الذي أُنتج، بخبراتٍ ألمانية هربت من النازية، وربما تعاونت معها في مراحلها الأولى من البحث والتفكير في هذا السلاح الفتاك. وكانت النتيجة مقتل مئات الآلاف، واستسلام الإمبراطورية اليابانية.
رغم انتهاء الحرب الباردة ظلّت أميركا تُشكل في المخيال الجمعي للأوروبيين درعاً صلبة تحميها من أعداءٍ خارجيين حقيقيين أو متخيلين
وبعدما انتصر الحلفاء الغربيون على النازية بدعم أميركي مُرجِّح، احتفل أهل أوروبا، وفي مقدمتهم الفرنسيون، حيث كان الإنزال الحاسم على شواطئها الشمالية، بالقوات الأميركية. وفي المقابل، تملّكهم الحذر من دخول الجيش السوفييتي إلى برلين، ورفعه العلم الأحمر على البوندستاغ، مقر البرلمان الألماني. وكان زعيم السوفييت، جوزيف ستالين، قد خرج عن صمته ومعاهدة عدم الاعتداء مع نظام هتلر في وقت أبكر من الأميركيين، وانضم إلى الحرب ضد النازية التي قتلت من الشعوب السوفييتية الملايين. وربما كان الموقف السوفييتي مختلفاً، لو أنّ المدّ النازي لم يهدّد بنية الدولة السوفييتية الفتية في مرحلةٍ من نمو سطوته وامتداده للوصول إلى حدود الاتحاد وبدء هجومه تجاهه من دون احترام للمعاهدة. مال الأوروبيون إذاً إلى الحليف الأميركي على حساب السوفييت، بالاستناد إلى خيار أيديولوجي للحكومات الأوروبية، ابتعد عن النظام الشيوعي، مع وجود أحزاب شيوعية قوية حينذاك في الدول الغربية كفرنسا وإيطاليا.
بعد انتصار الحلفاء، أقرّت واشنطن أيضاً خطة اقتصادية هائلة الحجم، سمّيت مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا. وقد ساهمت هذه الخطة في تعزيز موقف العالم الجديد الأميركي في القارّة القديمة الأوروبية. وعلى هامش الخطة، انتشرت القواعد الأميركية في مختلف الدول الحليفة لواشنطن، وتأسس حلف شمال الأطلسي الذي اعتبر التهديد المتمثّل بامتدادات الاتحاد السوفييتي والشيوعية الأممية هو همّه الأول. وبالتالي، قامت الحرب الباردة اعتماداً على مجمل هذه المعطيات. وازدادت مع عملية إعادة الإعمار حظوة العم سام في عواصم أوروبا الغربية، كما في أوساط جزء لا بأس به من شعوبها. وبقيت الأحزاب الشيوعية مقاومة هذا الوجود، لكن فاعليتها تضاءلت مع ارتباطها الدائم بالغطاء السوفييتي، ما أضعف مصداقيتها الداخلية.
توضح توجهات أميركية بعيدة عن أوروبا الحليفة، جلياً، الاهتمام الأميركي بالمصالح
وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة بنهاية الاتحاد السوفييتي، إلا أن أميركا ظلّت تُشكل في المخيال الجمعي للأوروبيين درعاً صلبة تحميها من أعداءٍ خارجيين حقيقيين أو متخيلين. وفي المقابل، ظلت الانعزالية الأميركية، التي هي جزء من الثقافة السياسية المؤسسة للولايات المتحدة، مستدامة تاريخياً وفي أشكال مختلفة من الأداء الدبلوماسي. وتنوّعت اهتمامات العاصمة الأميركية لترجمة الرغبة في تجاوز الحليف الأوروبي جزئياً. وقد أدّى ذلك إلى تشكيل جماعات تبعية بعيدة عن أوروبا واختراع أعداء جدد وتهديدات نوعية مختلفة عمّا سبقها. ومع هذا التطور الجيوسياسي، ازدادت الانعزالية الأميركية غير المعلنة، وتحوّلت إلى الميل الواضح لدى مختلف الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض إلى الانفرادية في العلاقات الدولية، وإلى تفضيل المفاوضات الفردية مع دولةٍ بعينها، بعيداً عن الاتحادات الجامعة لدول تتجانس اقتصاداتها ونظمها السياسية، كالاتحاد الأوروبي مثلاً. وعلى الرغم من استمرار خطر الاتحاد الروسي الوارث للاتحاد السوفييتي، وخصوصاً مع زعيمه فلاديمير بوتين، الذي تترجمه الاعتداءات الصريحة على حلفاء أوروبا، أو تهديد مصالح بعض دولها بالامتداد أفريقياً وعربياً، فإنّ أنظار واشنطن الصلبة والقلقة تتجه شرقاً نحو الصين.
توضح توجهات أميركية بعيدة عن أوروبا الحليفة، بشكل جلي، الاهتمام الأميركي بالمصالح، بعيداً عن الرغبة في فقدان الحليف شبه التابع أوروبياً. فعلى الرغم من أن عدداً متوالياً من الأحداث أظهر بفجاجة إهمال أميركا الحلفاء الغربيين اقتصادياً وبيئياً وسياسياً وعسكرياً، إلا أن واشنطن لا تخشى ابتعادهم عنها. وهي في هذا الموقف تبدو على ثقةٍ بأنهم لن يتحوّلوا إلى البحث عن استقلالية القرار مهما فعلت. وبالتالي، فهي تفعل وتُصعّد من الفعل. وقد أظهرت في إدارتها القضيتين، العراقية والأفغانية، خلاصة هذا الاستنتاج.
وتبدو أخيراً معالجتها المنفردة لمسألة الانسحاب من أفغانستان مع المحافظة على مصالحها كما تتوضح الأمور يوماً بعد يوم، بعد أن هرف بعضهم بهزيمة مشتهاة لها، هي أوضح شرح لعنوان الأغنية: فالغرب الأوروبي سيستمر مبدئياً في التعبير المتواصل عن حبه أميركا وتبعيته لسياساتها. وهي بالمقابل، ستستمر في العمل بمفردها، من دون الأخذ بالاعتبار حبّه لها، بل هي تقول له: "وأنا لا أحبك أيضاً".