تجوب تظاهراتٌ ضخمةٌ ضدّ الحرب على غزّة شوارع العالم. من الجنوب العالمي الذي تعرف شعوبه طعم الاستعمار والتحرر منه، حتّى شماله في دول مارست الاستعمار وانتهت منه؛ بنمطه التقليدي على الأقلّ. الخروج من أجل غزّة يحمل معاني أكبر من التظاهر للمطالبة بوقف إطلاق النار، فالقضية ليست غزّة وحدها، والأحداث لم تبدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل تعود إلى عقودٍ من النكبة المستمرّة، والتطهير العرقي، والفصل العنصري. هذا ما تعكسه أجواء وخطابات التظاهرات في الشهر والنصف الأخيرين، التي شكّلت موجةً عالميّةً غير مسبوقةٍ من التضامن مع فلسطين.
على الرغم من أنّ ما حصل في السابع من أكتوبر من أحداثٍ بحقّ مدنيين ليس محل ترحيبٍ للكثير من المتظاهرين، بل ومُدانٍ، وعلى الرغم من الدعاية الإسرائيليّة الدؤوبة لربط النضال الفلسطيني بالإرهاب، وحماس بداعش، والسابع من أكتوبر بالحادي عشر من سبتمبر والهولوكوست، والتي تبنّتها دولٌ عظمى، ووسائل إعلامٍ، إلّا أنّ بوادر هذه الموجة العالمية التاريخيّة من التضامن قد بدأت في التشكل منذ الأيّام الأولى لردة الفعل الإسرائيليّة على السابع من أكتوبر، ولم تهضم البروبوغندا الإسرائيليّة، التي أصبحت فعلًا يوميًا لتبرير هذه الحرب على المدنيين.
إذ تمعنّا في فسيفساء المشاركين في موجة التضامن والتظاهر الحالية، نجد حضور عددٍ كبيرٍ من حركات العدالة الاجتماعيّة المحليّة والعالميّة، مشاركةً وتنظيمًا، التي ترى في التحرر الفلسطيني تقاطعًا مع نضالها لتحقيق العدالة من أجل القضايا التي تنشط وتعمل لأجلها، ولتلتقي جميعها مع فلسطين على مبدأٍ واحدٍ وهو العدالة.
يُحسب لموجة التضامن هذه تأسيس وعيٍ عالميٍ جديدٍ، خصوصًا لدى الأجيال الشابة، نحو قضية فلسطين وعدالتها ومركزيتها بالنسبة لشعوب العالم
تعد حركة "حياة السود مهمّة"؛ التي انطلقت في الولايات المتّحدة قبل عشرة سنواتٍ، واحدةً من هذه الحركات المهمّة، التي ترى تقاطعًا في نضالها مع نضال الشعب الفلسطيني، وأصدرت بيانًا في العاشر من أكتوبر قالت فيه: "بينما يواصل السود النضال من أجل إنهاء النزعة العسكريّة، والسجن الجماعي في مجتمعاتنا، دعونا نفهم المقاومة في فلسطين على أنّها محاولةٌ لهدم أبواب أكبر سجن مفتوح في العالم. باعتبارنا منظّمةً سوداء راديكاليّةً، ترتكز على مُثُل إلغاء عقوبة الإعدام، فإنّنا نرى أوجه تشابهٍ واضحةً بين الشعب الأسود والشعب الفلسطيني. ومن أجل تحقيق السلام الدائم، يجب تفكيك نظام الفصل العنصري بأكمله".
في الحراك النسوي العربي والعالمي، دعا العديد من الحراكات والمؤسسات النسويّة لوقف إطلاق النار في غزّة والمشاركة في نشاطاتٍ عدّةٍ. وأصدرت منظماتٌ نسويّةٌ عربيّةٌ عدّةٌ في أكثر من دولةٍ عربيّةٍ (تقاطعات، نحو وعي نسوي، المسيرة العالمية للنساء لبنان وامرأة) بيانًا في الرابع عشر من أكتوبر، اعتبروا فيه مناهضة الاستعمار قضيّةً نسويةً مؤكّدة على مساندتها المقاومة الفلسطينيّة في أشكالها كافّةً، قائلين "نرفض كنسويات كما غيرنا من ملايين النساء حول المنطقة، أيّ شيطنةٍ أو تشكيكٍ في فعل هذه المقاومة كفعلٍ تحرريٍ خالص، لن ينتهي إلّا بتحرير، واستعادة ملكية جميع الأراضي، والأجساد الفلسطينيّة الواقعة تحت الاستبداد العسكري، والأيديولوجي للاستعمار الاستيطاني الغربي في فلسطين". ودعا البيان إلى عدم الانجرار وراء سرديّات النسويّات الليبراليّة البيضاء، التي انحازت بعض أصواتها لإسرائيل ودعت لإدانة حماس و"قمعها للمرأة الفلسطينيّة في غزّة، وقتلها واغتصابها للنساء الإسرائيليات" على حدّ تعبيرهن.
وفي بيان آخرٍ صادرٍ عن حراكاتٍ نسويةٍ من "الجنوب العالمي"، صدر خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني، أكدت فيه أنّ "إسرائيل لا ترتكب تهديداتٍ ضدّ الشعب الفلسطيني فقط، بل إنّها حربٌ ضدّ الإنسانيّة، وممارساتها تهدد تحوّل المجتمعات نحو مجتمعاتٍ خاليةٍ من العنف. لن نسمح أن تكون غزّة صورةً للعالم الفقير المُستعمر والمضطهد. نحن نؤكد أنّ نساء وأطفال فلسطين ليسوا وحدهم، وأنّ النساء في الجنوب العالمي يقفن خلفهن، وسنستمر في الدفاع عنهم في وجه هذه المجزرة. فلسطين قضيةٌ نسويّةٌ".
أمّا على صعيد الحراكات الناشطة من أجل البيئة والمناخ، فأعلن عدد منها عن وقوفها مع الشعب الفلسطيني، معتبرًا أنّ الاستعمار قضيّةٌ تهدد البيئة والمناخ، وأن لا عدالةَ بيئيّةً دون العدالة للفلسطينيين. في بريطانيا، أصدرت حركة "تمرد الانقراض" (Extinction Rebellion)؛ من أكبر الحركات الشعبيّة الناشطة والبارزة، ولها امتداداتٌ في دولٍ أخرى، بيانًا في الثالث من نوفمبر قالت فيه "إذ كنا نؤمن بالعدالة المناخيّة والبيئيّة، فيتعين علينا أن نسعى إلى تحقيق العدالة بجميع أشكالها. تعود جذور حالة الطوارئ المناخيّة والبيئيّة إلى قرونٍ من العنف الاستعماري، والاستغلال والقمع، الذي تتحمّل المملكة المتّحدة نصيبًا غير متناسبٍ من المسؤولية عنه. لقد لعبت بريطانيا تاريخيًا دورًا فعالًا في القمع الوحشي لحقوق الإنسان الفلسطيني، وتواصل تقديم دعمٍ لا يتزعزع للهجوم العسكري الذي نشهده الآن".
وللحراكات الكويريّة مساهمةٌ ملموسةٌ في التنظيم والتحشيد للأنشطة التضامنيّة عربيًا وعالميًا، وأصدرت في هذا السياق مجموعةٌ كبيرةٌ من منظماتٍ ونشطاء/ناشطات كويريين من منطقة غرب آسيا، وشمال أفريقيا بيانًا في أواخر أكتوبر أكّدوا فيه "الدعم اللا مشروط للفلسطينيين/ات بتحرير أراضيهم/ن من النهر إلى البحر. لا يمكن لأيّ شخصٍ حرٍ/ة أن يتبنّى منهجيات أو نظريّات الحريّات الفرديّة والجندريّة، أن يتغافل عن حقّ الشعوب بالتخلص من الاحتلال كاملًا". وتتصدى هذه البيانات، والتضامن لمحاولات الاحتلال في الترويج للغسيل الوردي الإسرائيلي، القائم على فكرة أنّ إسرائيل هي الجنة والملاذ الآمن الوحيد للمثليين في الشرق الأوسط.
أمّا الحركات اليهوديّة المناهضة للعنصريّة، فبرز دورها بروزًا كبيرًا في عددٍ من الدول الغربيّة، حيث يعيش ملايين اليهود خارج إسرائيل، الذين لا يعتبرون أنفسهم منتمين للمشروع الصهيوني وإسرائيل، ومنهم ناجون من المحرقة، ومنهم من يحارب فكرة تمثيل إسرائيل ليهود العالم. من أبرز هذه الحركات "الصوت اليهودي من أجل السلام" في الولايات المتّحدة، التي نظّمت احتجاجاتٍ بارزةٍ خلال الشهر والنصف الأخيرين، مثل احتلال محطّات القطارات، والاعتصام أمام البيت الأبيض، والدخول إلى الكونغرس، والاعتصام أمام مكاتب نوابٍ في مجلس الشيوخ، ومجلس النواب.
فالقضية ليست غزّة وحدها، والأحداث لم تبدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل تعود إلى عقودٍ من النكبة المستمرّة، والتطهير العرقي، والفصل العنصري
إلى جانب الأمثلة السابقة، وقفت نقاباتٌ عمّاليةٌ عدّةٌ حول العالم إلى جانب الفلسطينيين، وضدّ الإبادة الجماعية، منها الذي رفض تحميل الأسلحة وشحنها من دولهم إلى إسرائيل، مثلما حصل في بلجيكا وإسبانيا. كذلك تستمر الحراكات الطلابية داخل الجامعات حول العالم في مناصرة الحقوق الفلسطينيّة، رغم كلّ التهديدات التي يتعرّضون لها في بعض الجامعات الغربيّة، من قبل الإدارة، أو كبار رجال الأعمال، مهددين بعدم توظيف من يتضامن مع فلسطين. وخرجت أيضًا بياناتٌ عديدةٌ من كتّابَ وصحافيين وفنانين تدين عدوان إسرائيل على غزّة، وتنتصر للفلسطينيين.
يبدو أنّ هذه الموجة العالميّة، التي ذكرنا عددًا ضئيلًا من أمثلتها، سوف تستمر في الاحتجاج، والتظاهر الأسابيع القادمة، مع استمرار العدوان، الذي لا يُعرف كيف سينتهي ومتى، ويُحسب لموجة التضامن هذه تأسيس وعيٍ عالميٍ جديدٍ، خصوصًا لدى الأجيال الشابة، نحو قضية فلسطين وعدالتها ومركزيتها بالنسبة لشعوب العالم، وحركاته الاجتماعيّة.