مسارات انحدار الأغنية العربية

18 مايو 2016
وردة والملحن صلاح الشرنوبي (Getty)
+ الخط -
هناك إجماعٌ على أن مستوى الموسيقى العربية تراجع كثيراً عما كان سائدًا أواسط القرن العشرين، أو ما يسمى "العصر الذهبي للأغنية العربية". وقد يتفق الجميع، بشكل أو بآخر، على أن السبب الرئيسي لهذا التدني هو السوق الاستهلاكي وطبيعة الحياة العصرية والإعلام التجاري والغزو الثقافي... ما جعل الشكل يطغى على المضمون والكم على النوع... وهذا صحيح إلى حد بعيد، إنما، دعنا ننظر بروية وموضوعية إلى المشهد العام لنرى من الأكثر مساهمة في تدني المستوى الموسيقي؛ هل هي الأغنية الشعبية التي طالما انتقدناها ونعتناها بالهابطة والسوقية؟ أم الكم الهائل من الأغنيات الهادفة التي "نُقْصَف" بها يومياً تحت عناوين نخبوية، خصوصاً الأغنيات التي تستجدي نصوصاً لشعراء كبار ولقصائد موجودة في وجدان الناس.

حتى لا ندخل في الأسماء من المكان السلبي فلنضئ، إيجابيا، على هذا الانفصام الذي دفع الكثيرين من الدخلاء إلى التطاول على قصائد قيّمة كي يسوِّقوا أنفسهم كموسيقيين ومطربين جادين، أو هادفين. والغريب أن معظم النقاد الذين يتعاطون الشأن الموسيقي في الدوريات والصفحات الثقافية، ممن يدّعون "النخبوية" غالباً، يتناولون أعمال أولئك الدخلاء بناءً على "انتقاءاتهم" الشعرية وليس على إبداعهم أو أدائهم أو الموسيقى، وغالباً لأسباب شخصية أو أيديولوجية تتعلق بفحوى النص بعيدًا عن المضامين الموسيقية.

بداية الثمانينيات، أي بعد نصف قرن ونيّف من التألق والتوهج، اصطدمت الأغنية "الطربية" بتبدلات الزمن، فخبا وهجها، وذلك بعد نهضة عامرة بالتحديث والتنوع والإبداع وبأسماء لامعة جعلت من تلك الحقبة حقبة ذهبية بكل ما للكلمة من معنى. نهضة كان محورها القاهرة، تحديداً، ولأكثر من سبب تاريخي وثقافي واجتماعي وسياسي. فحين نقول الأغنية الطربية نقصد، بشكل أو بآخر، الأغنية المصرية... أو ما يدور في فلكها. وأبسط دليل على ذلك أن معظم الغناء الطربي، ويكاد يكون كله، ينطق باللهجة المصرية. بالطبع كان لباقي العرب مساهمة في هذه النهضة، إن على مستوى المادة "الأولية"، أي الموروث التراثي من حلب وبغداد ودمشق وفلسطين والمغرب... أو من خلال رفد عاصمة الفن العربي، حينها، بملحنين ومطربين من كافة البلدان والعواصم، كمحمد محسن وفريد الأطرش وأسمهان وفايزة أحمد ووردة الجزائرية وصباح... وقد ساهمت هذه الأسماء، لا بل كانت أساساً، في ذلك الصعود.





وإنما استعرضت هذه الوقائع والأسماء بعجالة فقط للتمييز بين الغناء الطربي، مقصدنا، وباقي أشكال الغناء في لبنان وسورية والعراق والخليج والمغرب العربي، وهي أنماط تتشارك كما تتمايز في ما بينها بعناصر تختلف مقاديرها طبقا لاختلاف الموقع الجغرافي أو التفاعل التراثي.

في تلك الفترة، أوائل العقد الثامن، كان معظم الملحنين والمطربين الكبار قد رحلوا، أو اعتزلوا أو قل نتاجهم، ولعل وردة الجزائرية وميادة الحناوي كانتا آخر النجوم الذين غنوا هذا النوع من الغناء في أيام ألقه، وقد تنافستا على "قطف" معظم الألحان النوعية التي ختم بها كبار الملحنين حياتهم الفنية، كرياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وسيد مكاوي.




وإذا ما أردنا اختصار المراحل الطربية بأسماء الأغاني الأبرز، لكل حقبة، بإمكاننا تسمية "في يوم وليلة" و"قال إيه بيسألوني" لوردة الجزائرية، و"أيها الناعم في دنيا الخيال" و"نعمة النسيان" لميادة الحناوي كختام لعصر الغناء الطربي.





الفراغ المدوي الذي أحدثه ذلك الأفول كان بمثابة هدية لمؤدّي الأغنية الخفيفة، الذين طالما شكَوا وعانوا من طغيان النجوم الكبار، ولكن ذلك لم يستمر طويلا، فغياب المعايير سمح بانفلاشٍ عشوائي من جحافل الهواة والدخلاء، إذ غابت الضوابط التي كان يفرضها أداء المطربين والملحنين المرسخين... وجيش النقّاد، الجديين، الذين كانوا منتشرين في أهم الصحف والإذاعات والتلفزيونات والمجلات تلك الفترة.

أتى انحدار الأغنية الطربية حادًا وصادما وأصاب جميع العاملين في المجال بعدم التوازن، فمنهم من داهمه اليأس فانسحب، ومنهم من ركب الموجة لأعوام ثم تراجع... المهم، أن "الزقفة" الإلكترونية تزعمت الفرقة الموسيقية، فترة لا بأس بها، وفرضت "إيقاعها" على معظم النتاجات التي تلت مرحلة الكبار. (هذا الكلام ينسحب على الأغنية الطربية، بالمفهوم السائد لهذه التسمية، أما في ما خص باقي أنواع الغناء العربي، فهناك مسارات مختلفة لن تتسع هذه المقالة لاستعراضها). وهذا ما دفع بالنخب الاجتماعية والفنية والثقافية إلى الابتعاد أو التعالي عن كل جديد يقترب من اللون الطربي، وصارت الصفحات الثقافية والصالونات والمسارح والنقاد والنخب تبحث عن أشكال غنائية وموسيقية تملأ هذا الفراغ، وبالمقابل تبتعد، لا بل تخجل، من التطرق إلى النتاجات الطربية الجديدة التي عادت لتنشط تدريجيا بعد "النكسة"، وهذا أمر مجحف بحق كثير من الملحنين والمطربين الذين قدموا العديد من الألحان والأغنيات الجميلة. ونستطيع القول إنهم تابعوا مسيرة الرواد ولو بوتيرة أضعف، وذلك لأكثر من سبب أنتجته الظروف المحيطة ولا علاقة له بقدراتهم ومواهبهم الذاتية.

فهناك جيل من الملحنين الذي انتهجوا المذهب الطربي "المخفّف"، إذا جاز التعبير، كملحم بركات وشاكر الموجي وزهير العيساوي... هذه الفئة لم تأخذ حقها إنْ في الإعلام الثقافي أو في القراءة الموضوعية والنقد الفني الفعلي. وذلك بالرغم من نجاحها الجماهيري.
قد يكون ابتعاد النقاد و"النخب" المثقفة عن الغوص في هذه الأعمال سببه ابتعاد هؤلاء الفنانين، نسبياً، عن منابع الثقافة، مقارنة مع العاملين في الأنماط الموسيقية والغنائية الأخرى، كالجاز والكلاسيك والأغنية السياسية.






لا أدري لماذا يتجاهل الغيورون على "الأصالة" دور أسماء مثل صلاح الشرنوبي ونور الملاح وجورج يزبك... في إعادة تعويم الغناء الطربي، ولو بحدوده الدنيا، تعويمه بعدما سَلَّم الجميع بأن الجفاف أقوى وأن هذا النمط من الغناء قد دخل المتحف بعدما استنفد نفسه (كثيرون تبنوا وما زالوا يتبنون هذه النظرية)، فالدلائل كثيرة، وأهمها، أن ملحنين كبار ممن ساهموا في صناعة العصر الذهبي للأغنية الطربية لم يستطيعوا تقديم أي جديد، يُذكَر، بعد أفول نجمها! بالرغم من معاصرتهم للأغنية "الشبابية".




المساهمون