أحمد قعبور و"أناديكم"... نشيد الجرح الفلسطيني

07 يوليو 2024
جاء لحن قعبور للأغنية بصورة من الإخلاص الفني (مهرجان كرامة)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **قصيدة "أشدّ على أياديكم" وانتشارها**: كتبها توفيق زياد عام 1966، وانتشرت بعد تلحينها وغنائها من قبل أحمد قعبور عام 1975، لتصبح رمزاً للمأساة والصمود الفلسطيني.

- **توفيق زياد ونضاله المتنوع**: كان شاعراً ومناضلاً، شارك في التظاهرات، كتب في الصحف، انضم للحزب الشيوعي، وترأس مدينة الناصرة. توفي عام 1994، لكن كلماته بقيت خالدة.

- **أحمد قعبور والفن الملتزم**: نشأ في بيروت، ولحن وغنى "أشدّ على أياديكم" خلال الحرب الأهلية اللبنانية، مما جعله مرتبطاً بقضية فلسطين.

حين كتب الشاعر الفلسطيني توفيق زياد (1929 - 1994) قصيدته "أشدّ على أياديكم" في عام 1966، ضمن ديوان يحمل العنوان نفسه، لم يخطر في باله ولا في بال المهتمين بشعره أن تحقّق تلك القصيدة كل هذا الانتشار الجماهيري. فلنحو عشر سنوات، كان الاهتمام بالديوان قاصراً على النخبة المحدودة من هواة الشعر والأدب، لكن القدر الفني ادّخر لقصيدة زيّاد شاباً لبنانياً هو أحمد قعبور ولم يكن قد تجاوز العشرين عاماً، ليستخرجها عام 1975، ويجعلها أولى تجاربه التلحينية، ويسجّلها بصحبة كورال لم يمارس الغناء يوماً.

لحّن الشاب أحمد قعبور، وغنّى، ثم أطلق أغنيته لتدوي في كل شبر من أرض فلسطين، ولتنتشر كما لم تنتشر أغنية فلسطينية من قبل، ولتصبح عنواناً على المأساة الفلسطينية، والجرح الفلسطيني، والصمود المتواصل لشعب فلسطين. 

مثّلت قصيدة "أشد على أياديكم" خطوة مهمة في حياة زيّاد الأدبية، فبها أصبح ضلعاً في مثلث مهم أطلق عليه غسان كنفاني وصف "شعراء الرفض"، كانت قصيدته الثالثة زمنياً بعد "سجّل أنا عربي" لمحمود درويش عام 1964، و"لن أساوم" لسميح القاسم عام 1965. كانت حلقة من حلقات النضال المتنوع الذي يحيا به الرجل، ويلهث الباحث في محاولة تتبعه والإحاطة به.

كان زيّاد يناضل بالشعر والأدب، بالتظاهر، بالكتابة في الصحف، بالانضمام إلى الحزب الشيوعي، بدخول السجن، ذاق الرجل قسوة سجون طبريا والدامون والجلمة والرملة. بالإقامة الجبرية والسجن المنزلي، وبخوض الانتخابات البلدية، وبرئاسة مدينة الناصرة العريقة، وصولاً إلى عضوية الكنيست في ست دورات متتالية.

كان أحد مقرري يوم الأرض في 30 مارس/أذار عام 1976. كتب: "ادفنوا موتاكم وانهضوا"، فمنعت الرقابة الإسرائيلية نشرها، وكتب "سجناء الحرية" فكانت قوات الاحتلال تعتقل من يُضبط بتوزيعها. وفقاً لغسان كنفاني، فإن الحكومة الإسرائيلية ضغطت على الشركة التي يعمل بها زيّاد لتطرده بسبب شعره ونشاطه السياسي.

لكن كفة هذا النضال الثقيل تطيش حين يقول زياد: "أناديكم.. أشد على أياديكم.. أبوس الأرض تحت نعالكم.. وأقول أفديكم.. وأهديكم ضيا عيني.. ودفء القلب أعطيكم.. فمأساتي التي أحيا.. نصيبي من مآسيكم". يوم 5 يوليو/تموز 1994، خرج توفيق زياد لاستقبال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات العائد إلى أريحا بعد اتفاقات أوسلو، لكنه تعرض إلى حادث سير مؤلم أودى بحياته. لكنّ كلماته بقيت: "أنا ما هنت في وطني.. ولا صغرت أكتافي.. وقفت بوجه ظلامي.. يتيما عاريا حافي.. حملت دمي على كفي.. وما نكست أعلامي.. وصنت العشب الأخضر.. فوق قبور أسلافي".

أحب الصبي البيروتي أحمد قعبور الاستماع إلى غناء المطربين الشهيرين، وكان يفخر حينما يرى والده عازف الكمان المعروف محمود الرشيدي وهو يعزف خلف بعض الفنانين الكبار. لكن الأمر لم يكن أكثر من هواية، ولم يفكر قعبور يوماً لا في غناء ولا في تلحين، بل كان اهتمامه الفعلي بالتمثيل والمسرح، لكن حين دخل الصبي في طور الشباب، تفتح وعيه السياسي على الأسئلة التي تثيرها المعاناة الفلسطينية في المخيمات.

في عام 1975، اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان وتركت في نفسه آثاراً عميقة. وفي أجواء القصف وانقطاع الكهرباء وصوت رصاص الاشتباكات، أخرج قعبور قصيدة توفيق زياد "أناديكم"، ولحّنها، فكانت أولى ممارساته مع التلحين، وغنّاها فكانت أول اختبار غنائي يخوضه. كانت مجرد تعبير عما يجيش في نفسه من ضرورة تقديم الدعم المعنوي للمقاتلين في مختلف جبهات النضال.

لم يكن قد حصّل أي دراسة موسيقية نظرية، ولا أي خبرة عملية. وضع أحمد قعبور لحناً يمزج بين الحماسة والأسى، بين القوة والرقة. وتوزّع الأداء بينه وبين الكورال، وجاء صوته فتياً ناضراً. خرجت الأغنية، فدوّت في القدس، والضفة الغربية، وقطاع غزّة. في الأراضي المحتلة عام 1948... في المخيمات الفلسطينية بالأردن ولبنان وسورية واليمن. وشدا بها الفلسطينيون في الشتات المتسع باتساع العالم.

أصبحت الأغنية حاضرة في كل مكان، وفي كل نشاط فني حماسي، وصارت الخلفية الموسيقية لعشرات الأفلام التي توثق نضال الشعب الفلسطيني، لا سيما خلال مشاهد الاشتباكات مع قوات الاحتلال. صارت نشيداً عابراً للزمن، لم تزده العقود الخمسة إلا انتشاراً ورسوخاً. تجاوزت شهرتها شهرة كاتبها، رغم مكانته الكبيرة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، وتخطت كثيراً شهرة ملحنها الذي غنّاها بنفسه.

ربط أحمد قعبور نفسه بقضية فلسطين، وخصص لها جانباً كبيراً من جهده الفني تلحيناً وغناء، ومن أهم أعماله لفلسطين: "لاجئ سَمُّوني لاجئ"، و"يا نبض الضفة"، و"يا عشاق الأرض هلموا"، التي كتبها بنفسه، وتقول كلماتها: "أسمع جراحكم تنادي من بعيد.. وأراها تتسع لآلاف الفقراء.. وتكتب أياديكم على جدران مدينتنا.. كلمات تزين جدران مدينتنا.. فتعانق الأغاني الرياح.. لتقول إنكم بانتظار الصباح.. يا عشاق الأرض هلموا.. سيجوا أغانينا.. واسمعوا أمانينا". ينتمي أحمد قعبور إلى ما يعرف بالفن الملتزم، يغني لقضايا الإنسان، وللفقراء، ولضحايا الحروب والعدوان.. يغني للاجئين والمشردين.

تتميز كلمات أغنيات قعبور بجدة واختلاف عن أنماط الأناشيد الثورية السائدة، ومن أمثلة هذا النمط المختلف أغنيته "ولهذا أستقيل" التي يقول فيها: "عندما ينطفئ التصفيق في القاعة.. والظل يميل نحو صدري.. يسقط المكياج عن وجهي الجليل.. ولهذا أستقيل.. أجد الليلة نفسي عارياً كالمذبحة.. كان تمثيلي غريباً عن عصافير الجليل.. وذراعي مروحة.. ولهذا أستقيل". يظن كل من يستمع إلى غناء قعبور أنه فلسطيني، وحين جمعه لقاء بمحمود درويش، سأله الأخير: "من أي مدن فلسطين أنت؟"، وكانت المفاجأة كبيرة حين أخبره قعبور أنه لبناني من بيروت.

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أعاد الشيخ إمام عيسى تلحين القصيدة، وغناها بأسلوب مختلف، وتذكر بعض المصادر أن تلحين الشيخ للقصيدة جاء بعد لقاء الشاعر توفيق زياد في مدينة ليل الفرنسية عام 1984. كانت الجماهير تنفعل بأداء الشيخ وهو يغني القصيدة بطريقته التمثيلية الخطابية المعتادة. كما أن الشيخ صوّب أخطاء عروضية ولغوية وقع فيها قعبور عند تسجيله الأول، ومنها مثلا: "وأبوس الأرض" فالواو التي أضافها قعبور قبل "أبوس" تكسر الوزن الشعري، وهو ما صوّبه إمام في غنائه، كما صوّب أداء عبارة "ضيا عيني" التي جاءت في غناء قعبور بفتح الضاد، والصواب كسرها.

لكنّ أثر لحن الشيخ إمام وانتشاره لم يرقَ بأي شكل لمنافسة لحن قعبور ولا غنائه ولا تأثيره ولا استمرار هذا الأثر إلى اليوم. في لحن الشيخ، يظهر أثر الصنعة، وفي غنائه تتجلى خبرة المحترفين، وتلك عناصر قوة تبدو في النظر السريع حيثيات منطقية لتفوق لحن إمام. لكن عند إطالة التأمل، سيكتشف المستمع أن افتقاد قعبور هذه الخبرات لحظة تلحينه القصيدة، كان سر قوته، إذ خرج لحنه في صورة من "الإخلاص الفني"، الذي يتقدم فيه اللحن على الملحن، والغناء على المغني. استمع ملايين العرب إلى أغنية "أناديكم" وعرفوها جيداً، بل وربما حفظوها بإتقان، لكن نسبة ضئيلة جداً من هؤلاء المستمعين كانت تعرف من ملحن الأغنية ومغنيها.

ولعل أحمد قعبور كان دقيقاً حين عبر عن تفوق شهرة الأغنية على شهرته بقوله: "لحّنتها وغنيّتها.. وسبقتني". والحقيقة، أنها سبقته وسبقت كل الغناء الثوري، ولم يجارها في سرعتها وتحليقها إلا أرواح المستمعين الذين تنساب دموعهم وهم يستمعون إلى قعبور يشدو: "فمأساتي التي أحيا.. نصيبي من مآسيكم".

المساهمون