المغربي عبد الرزاق بنشعبان: العطّار العالمي

26 اغسطس 2015
بين الأزهار والنباتات (العربي الجديد)
+ الخط -
عندما كان عبد الرزاق بنشعبان يخطو بين دروب مراكش الشعبية الضيقة ليجمع لوالدته أعشاباً ونباتاتٍ كانت تستخدمها لتحضير توليفة علاجية أو تجميلية، لم يكن يعلم أنّ تلك الأعشاب ستعلي من قدره وتنحت له اسماً يلج به عالم الشهرة من أبوابها الواسعة.

لم يكن دخول بنشعبان إلى عالم صناعة العطور من باب الصدفة، بل كان للوسط الذي نشأ فيه كبير الفضل في وصول عطوره للعالمية، فهو ابن سيدة اشتهرت في الحارة ببراعتها في المداواة بالأعشاب. وكان لأعمامه أيضاً نصيب في تشكل هويته.

إذ كان يقضي أيّام عطله المدرسية وسط حقولهم الممتدّة في ضواحي المدينة. أمران ساعداه على الاقتراب من أنواع النباتات وطبيعة العلاج الذي تصلح له. وعمره حينها لم يكن قد تجاوز الخمس سنوات.

اقرأ أيضاً: زيت أرغان: للتجميل والطبخ والضيافة المغربية

يقول بنشعبان إنّ أمّه "كانت تداوي كلّ أفراد الأسرة والحيّ بالأعشاب، كان منزلنا يمتلئ بصنوف وأنواع الأعشاب والنباتات، وكنت شخصيا مكلّفاً باقتنائها من سوق العطارين الشهير في مراكش لتهتم والدتي بعد ذلك بتحضيرها وتهيئتها حتّى تصلح لأغراض علاجية أو تجميلية، وفي تلك الفترة نشأت علاقتي بالروائح وجذبني شذى العطور".

عالم النباتات
استثمر بنشعبان افتتانه بعالم النباتات واستعمالاتها المختلفة، ليتخصّص في علوم الأحياء والنباتات. وهناك سبر أغوارها وحياتها الإيكولوجية، فزاد التصاقه بالأرض وما عليها من نبات مختلف ألوانه، وراح يستخرج عطوراً بتركيبات مختلفة.

وكان للجولات التي قام بها في دول عربية وأجنبية، كبير الفضل في نجاح المهمة التي كلّف بإنجازها، منذ العام 1998، من طرف "إيف سان لوران"، أحد أشهر مصممي الأزياء الفرنسية، ومالك حدائق ماجوريل. فقد عاد بعث هذه الحدائق وإحيائها وتصنيف نباتاتها، التي كانت تشهد حينها تردّياً كبيراً، قبل أن تتحوّل إلى أحد أهم معالم مراكش السياحية.

اقرأ أيضاً: بيوت دمشق العتيقة: كأنّك تعيش في زجاجة عطر

لم يكن نجاح بنشعبان في ترميم "حدائق ماجوريل" ليقف عند هذا الحدّ. فطموح الرجل وإصرار "إيف سان لورون" على صناعة عطر جديد يحمل اسم هذا الفضاء الساحر، دفع بنشعبان، وبإلحاح من صديقه "لوران"، إلى ابتكار أوّل عطر. وقد استغرقت مدّة دراسته وتحضيره ثلاث سنوات، مستلهماً فكرته من الخيمياء المغربية - الشرقية.

إيف سان لوران
طوّر بنشعبان فكرة عطر "حدائق ماجوريل" داخل مختبره، وخرج بتحفة ذوقية أبهرت إيف سان لوران لعطر استوحى فكرته من "حلو" الليمون بالقرفة الذي كانت تعدّه والدة بنشعبان كطبق مرطّب بعد الأكل, فكان هذا العطر، الذي رأى النور العام 2002، فأل خير على بنشعبان الذي بات واحداً من أشهر صنّاع العطور في مدينة مراكش.

اقرأ ايضاً:عودة البدينات: موضة الألفية الثالثة

سنتين فقط بعد "حدائق ماجوريل"، في العام 2004 بالتحديد، أطلق بنشعبان أوّل مؤسسة عطور حملت اسم "عطور الشمس". وكان "مساء مراكش" دافئا على مسيرة بنشعبان. ذاك العطر أدخله إلى خانة العالمية لينافس أكثر من 1500 نوع من العطر المصنّفة داخل مكتبة "أوزموتيك" بفرساي الفرنسية. لتتوالى بعدها سلسلة عطور بلغ عددها 15، اختار لها جميعاً أسماءً عربية إسلامية، مثل "موكادور"، و"حدائق شهرزاد"...

"صانع عطور الأميرات "، هذا هو لقب بنشعبان الذي تحوّل منزله إلى متحف عطور تقصده أميرات القصر المغربي وأميرات عربيات وعلية القوم من شخصيات تنتمي إلى عالم الفنّ والسياسة والموضة، كما يكشف بنشعبان خلال استضافته لنا داخل بيته.

القصر الملكي
لا يُخفي بنشعبان فخره باتّصال تلقّاه من القصر الملكي بالمغرب العام 2004: "عبّر لي القصر عن مفاجأته الكبيرة والسارة بجودة عطوري.. هذا الاتصال أعطاني دفعة قوية للاستمرار"، يقول لـ"العربي الجديد". وهو تحفّظ عن ذكر أسماء "عشّاق عطره"، كما يحبّ أن يسمّيهم. لكن هذا لم يمنعه من الإفصاح عن عدد العائلات "الثرية" التي تزوره سنوياً والتي يتراوح عددها ما بين خمسين إلى ستين عائلة من جنسيات مختلفة.

اقرأ أيضاً: حرفيو الذهب يتحولون لمهن أخرى بالمغرب

"لا أريد استغلال أسماء مرموقة في مجال السياسة أو الفنون أو الموضة في الدعاية التجارية لعطوري، وحتّى الصور التي ألتقطها معهم أفضّل عدم نشرها "، يقول. فعشقه لعمله وشغفه بالعطر جرّده من حبّ الشهرة. هو يكتفي بقناعة الوصول إلى عشّاق يتذوّقون فنّه من حول العالم. بل إنّه يحرص على تنظيم ورشات ولقاءات لتنمية الذوق الفني والجمالي لدى الأطفال، ويركّز اهتمامه على تعليمهم الفنون والرياضيات واللغات مجّاناً.

إيمان بنشعبان برسالته فاح كما تفوح رائحة عطوره، وعدم طمعه في الثروة دفع الرجل إلى أن يهب، قيد حياته، كلّ ما يملك، في سبيل استمرار مسيرته بصناعة العطور: "أعتقد أنّ عطّاراً مثلي وجب عليه أن يكون حاملاً لرسالة اجتماعية وتربوية وليست تجارية محضة. لهذا أحرص أن تكون عطوري في متناول الجميع وبالجودة نفسها". إذ إنّ ثمن عطوره يتراوح بين 300 و1000 درهم مغربي، (بين 30 و100 دولار أميركي).

السوق السوداء
تخوّف بنشعبان من السوق السوداء ومن تزوير العطور، جعله حريصاً على جودة ما يقدّمه، مقتدياَ بالصناعة الأوروبية التي تحترم معايير الجودة، عكس فوضى التزوير التي تغرق بها السوق المغربية، والتي تسبّب السرطان أحياناً.

وإذا كان شغف الروائي الألماني باتريك زوسكيند بالعطر جعله يُشبّه صناعة العطر بـ"سمفونية موسيقية تعزف على النوتات السبع"، ضمن روايته الشهيرة "العطر"، فإنّ شغف بنشعبان جعله يختار "بيانو العطر"، فضاءً شبه صوفيّ يقرّبه من نشوة الوصال من خلال العطور، وساقيه هو القرنقل والورد والصندل.. وكأسه هي التجارب.

مرّت أكثر من 20 عاماً على ابتكار "حدائق ماجوريل"، أوّل عطر فتح أمام بنشعبان طريق العالمية، وبعد انجذابه صغيرا لتقطير الورد والزهر على يد أمه، كبر الرجل وكبر معه حلمه، وأحد أهدافه أن يصبح المغرب قبلة تسويق العطور في المستقبل.

اقرأ ايضاً: معرض "الأمازيغيات المغربيات" يختتم تواجده في البحرين
دلالات
المساهمون