أسواق حمص القديمة: طوق المدينة الأثري يتداعى

26 مايو 2015
أحد أسواق حمص القديمة عشية 2011 (Getty)
+ الخط -
كلّ ما في سورية ينطق بالتاريخ والعراقة، وهذا لم يعد مصدر سعادة ورضا للسوريين ومن يقدّر حضارة بلادهم، بل صار وجعاً عميقاً بسبب الدمار الذي تخلّفه الحرب القاسية هناك، سواء بأيدي النظام السوري أو تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ "داعش"، الأيدي التي تتعاون في تدمير ماضي سورية ومستقبلها.

ولعل احتراق وتدمير أسواق حمص الأثرية بعد قصف طائرات النظام لها، من أكثر هذه الحوادث وجعاً وغصّة، إذ تشكّل هذه الأسواق تاريخاً حقيقياً طاعناً في القدم والجمال، يستحق أن يعيش وأن يُذكر كي نبقي ما تبقى منه على قيد المعرفة.

تتميز أسواق حمص القديمة بوقوعها على أطراف المدينة وليس في وسطها، بعكس أسواق المدن السورية الكبرى مثل دمشق وحلب. ويعود سبب ذلك إلى وجود جامع النوري الشهير عند أطراف المدينة. وهي أسواق ذات أهمية مميزة، إذ ارتادها السوريون من كلّ حدب، نظراً لموقع مدينة حمص في منتصف المدن السورية، واحتفاظ أسواقها بطابعها الأصيل واتساعها.

التميّز المعماري
تتميز أسواق حمص القديمة بجمال عمارتها الإسلامية، إذ تغطّيها السقوف الأسطوانية، بالإضافة إلى ما يسمى العقود الحجرية، والتي تحمي الزائر من حرّ الصيف وبرد الشتاء وتعطي الأبنية روحاً خاصّة.

وتعطي العقود الحجرية المقببة والواجهات الضخمة والأقواس الرشيقة إحساساً بالهيبة، وبلمسة التاريخ العتيقة فوق الأزقة المرصوفة، وتحت أشعة الشمس الخجولة القادمة من فتحات قليلة في السقف. فعند التقاء سوقين أو أكثر ترتفع قبّة كبيرة، فيها مربعات تجعل أشعة الشمس تدخل كأعمدة صغيرة من نور، تنير الأرض البازلتية الجميلة.


هناك، كانت حياة كاملة، قبل قصف النظام لها، حياة صنعتها أنامل الصناع المهرة والتجار والباعة، ورسمتها عيون الزائرين القادمين لشراء ما يشتهون من صناعات يدوية تقليدية. فقد كنت تجد فيها كل ما تطلب من كل أنواع المنسوجات مثل البروكار والدمسكينو والحقائب والحلي الذهبية والفضيات والأحذية والعطور...

أسماء على مسمّيات
لعل سوق النوري، أو سوق القوافي، هو أشهر أسواق حمص القديمة، وهو يقع جوار مدخل جامع النوري، أو جامع نور الدين الزنكي، ويعود بناؤه إلى الفترة الواقعة بين 1743 و1756، ولكن أضيفت إليه بعض التجديدات المعمارية في عهد الباشا عبد الحميد الدروبي، إذ جعل أرضيته من الحجارة المرصوفة الملساء. وقد عرف السوق قديما باسم سوق السلحفاة، وذلك بسبب سقفه الذي يشبه ظهر السلحفاة. واشتهر بوجود العديد من المقاهي، مثل الزرابلية والفاخورة، واشتهر بوفرة صناع الأحذية فيه.

كما يتميز سوق البازرباشي، شيخ الأسواق، وهو سوق مكشوف يحدّه من الشرق حمام البازرشي، وفي نهايته توجد ساحة كبيرة فيها عدد كبير من المحلات التي تتصل بدورها بالحمام العثماني القديم. وإلى جانب قيمته التاريخية، يتميز سوق البازرباشي بازدحامه بالزائرات، إذ كان يسمى سوق النسوان، لوجود كلّ ما تطلبه المرأة فيه، ولأنّ النساء كن يبعن فيه الأشياء القديمة والمستعملة.

وعُرف سوق المعصرة بهذا الاسم نسبة إلى معصرة الدبس القديمة الموجودة فيه، وهي معصرة حجرية أثرية. وقد تحوّل إلى سوق لبيع المنسوجات وأغراض "النوفوتيه"، وهو عبارة عن طابقين، تم تجديد سقفه العلوي في عام 1956. وهناك "سوق المنسوجات والصناعة"، وهو من أطول الأسواق المكشوفة، ويوازي سوق البازرباشي. أما سوق القيساوية فهو سوق آخر مسقوف يوازي أيضا سوق المنسوجات وخان القيساوية.

ويبلغ طول سوق المعرض نحو 80 متراً، ويسمّى أيضاً سوق العطّارين، بسبب تجارة العطور فيه. وقد تميز بالمنحوتات ذات الأشكال الزخرفية، وقد بني في العهد العثماني. ويجاوره سوق الحرير، والذي يعتقد أن بناءه يعود للعهد المملوكي، وفيه سبيل ماء له أرضية مرصوفة بالموزاييك.

أما سوق العرب، الذي بني من قبل الوالي أسعد باشا، فقد أصبح مكاناً لبيع الفرو والخيطان.
كما يوجد أيضا سوق العبي، أو سوق آغا خان سويدان، الذي تجد فيه شكلاً مدهشاً للعمارة الإسلامية، وقد كان أيام الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال العثماني ملجأ للثوار ومكاناً لإدارة عملياتهم، أما الآن ففيه تكثر المهن اليدوية مثل صناعة البسط والتنجيد وصناعة العبي.
أما "سوق قيسارية الحرير"، الذي بناه أسعد باشا ليكون مكاناً لاستقبال الزائرين والحجاج، فيأتي اسمه من كلمة يونانية تعني البناء الضخم الملكي، أو البناء الإمبراطوري، وهو يتميّز بعدد من الدكاكين على الجوانب الأربعة، ولها مدخل يبتدئ بمصراع كبير جداً مصنوع من الخشب، وفي وسطه ما يسمى "الخوخة"، وهي باب صغير عليه قفل يسمّى سكرة، يوجد بعده بهو مسقوف، يوصلنا إلى درج حجري ثم إلى الطابق الثاني، الذي يحتوي على 27 محلاً، لها طابع جميل، إذ تحدّ بالمحلات أعمدة بيضاء تحمل سقوفها الخشبية.

كما توجد آثار لمعصرة حجرية في هذا السوق أيضاً، والذي يعتقد أنها كانت تستعمل لعصر الزيتون، وذلك ما جعل هذا السوق يستعمل لمائة عام كمخزن للزيوت تمتد بين 1800 - 1900 ، لكنه بعد ذلك عاد وتحول إلى سوق لبيع بضائع مختلفة.
إن كل هذه الأسواق بجمالها ورشاقتها ونبض الحياة الذي كان يسكنها، تؤكد أي جوهرة هي حمص، وأنّ استهدافها ليس عشوائياً، بل هو جزء من مشروع سلب روحها وتاريخها.

إقرأ أيضاً: "آثار تدمر ليست أهم من أرواح ناسها"
المساهمون