العاصفة مجنونة في الخارج، وأنا أقلب صفحات الفيسبوك. يطالعني وجه عجوز في التسعين، تقول: "اخرجوا. يحصل دائماً شيء عظيم في الخارج". لم أكن بانتظار شيء عظيم، ولكنني خرجت.
تُمطر السماء بغزارة، ولكنها لا تبدو كئيبةً أبداً. لا أعرف من أطلق عليها هذه الصفة، لكنها لا تلائمها. أعرف أنّها تغرق كثيرين، وتميت الأطفال حتى، ولكنها ليست كئيبة. أعرف أصدقاء مصابين بالاكتئاب. لا أفهم قصدهم تماماً، ولكنهم يبدون في مشكلة. أما هذه السماء فلا.
رفاقي المكتئبون لا يشعر بهم أحد. يحملون هموم الكون علی أكتافهم. يقاتلون من أجل الحزن ولا يقبلون التفريط فيه، وكأنه خلق من أجلهم فقط. أما هذه السماء فتفرح وحدها بجنون، وتغرق جميع من حولها، وقد تميتهم. لا تهتم. السماء معذورة أيضاً، وعذرها المسافة بيننا وبينها. قد يبدو لها الموت من هناك كسبات طويل، لا أكثر. معذورة السماء.
شتَّ انتباهي عن الموضوع، فلنعد. إذاً، أنا في السيارة مع صديقي. تمطر في الخارج، والشبابيك نصف مفتوحة، ثمّ أشتهي سيجارة. أنا لا أدخن أصلاً، ولكن ماذا يعني هذا؟ سأبدأ الآن. قد تكون هذه السيجارة الأولى والأخيرة، ولكن المشهد الآن يستوجب وجود سيجارة. إذ بعد عدة سنوات، سأتذكر هذه الليلة، وسأخبر الآخرين عنها. سترد جملة "فأشعلت سيجارة" في منتصف الحديث. ستكون الجملة مثالية، لذا فلتكن.
شتَّ انتباهي مرة أخری. سأعود الآن. أنا في السيارة مع صديقي، مطر، شبابيك نصف مفتوحة، سيجارة، وصوت أم كلثوم ينبعث من "سي دي" سجلناه سابقاً. تغني "لسه فاكر". فيحصل "خطأ تقني"، وبسبب هذا الخطأ تمر حوالى الساعة، والمقطع نفسه يتكرر. "لسه فاكر قلبي يديلك أمان.. ولا فاكر كلمة ح تعيد اللي كان".
أفكر بيني وبين نفسي إن كانت كلمة "خطأ" مناسبة هنا. الراديو يكرر الجملة نفسها لمدة ساعة، وأنا أعاتب نفسي على كلمة "خطأ". هذا لا يحصل كل يوم. لو كرّر أبي اسمي أكثر من مرتين، لشعرت أن هذا خطأ.
ولكن الست لا تخطئ أبداً. وإن أخطأت، فالأفضل ألّا يقاطعها أحد، وهي ترتكب مثل هذه الأخطاء. هذا النوع من الأخطاء هو الوحيد الذي لا يُعاتب عليه صاحبه إذا كرره. أستمع، وأتذكر أشخاصاً كثراً خاصمتهم، وصالحتهم. لا أصحح خطأ الست بالضغط على أحد الأزرار مثلاً، بل أجبر نفسي علی الخيال إكراماً للخطأ.
أخترع ذكريات تليق به، وتحملني الذكريات إلی عمر العاشرة. هل كان زميلي في الصف رومانسياً في عمر العاشرة؟ لا أعرف. أتذكر فقط أنه أرسل لي ورقة في وسطها دائرة كبيرة فارغة. قال رسمتك. هذه أنت. أنت قمر. هل هذه ذكری أم خيال؟ لا أعرف.
يضغط رفيقي على أحد الأزرار، فتُمحى مقاطع كاملة من الأغنية، وتقول الست "كان زماااان". هذا خطأ أيضاً، لكن الذكريات كلها توقفت فجأة. الخطأ الذي أخذنا إلى زمان بعيد من قبل، يعيدنا الآن. يعيدنا إلى الآن. وعندما تقول كوكب الشرق "كان زمان"، يبقی ده كان زمان فعلاً.
تُمطر السماء بغزارة، ولكنها لا تبدو كئيبةً أبداً. لا أعرف من أطلق عليها هذه الصفة، لكنها لا تلائمها. أعرف أنّها تغرق كثيرين، وتميت الأطفال حتى، ولكنها ليست كئيبة. أعرف أصدقاء مصابين بالاكتئاب. لا أفهم قصدهم تماماً، ولكنهم يبدون في مشكلة. أما هذه السماء فلا.
رفاقي المكتئبون لا يشعر بهم أحد. يحملون هموم الكون علی أكتافهم. يقاتلون من أجل الحزن ولا يقبلون التفريط فيه، وكأنه خلق من أجلهم فقط. أما هذه السماء فتفرح وحدها بجنون، وتغرق جميع من حولها، وقد تميتهم. لا تهتم. السماء معذورة أيضاً، وعذرها المسافة بيننا وبينها. قد يبدو لها الموت من هناك كسبات طويل، لا أكثر. معذورة السماء.
شتَّ انتباهي عن الموضوع، فلنعد. إذاً، أنا في السيارة مع صديقي. تمطر في الخارج، والشبابيك نصف مفتوحة، ثمّ أشتهي سيجارة. أنا لا أدخن أصلاً، ولكن ماذا يعني هذا؟ سأبدأ الآن. قد تكون هذه السيجارة الأولى والأخيرة، ولكن المشهد الآن يستوجب وجود سيجارة. إذ بعد عدة سنوات، سأتذكر هذه الليلة، وسأخبر الآخرين عنها. سترد جملة "فأشعلت سيجارة" في منتصف الحديث. ستكون الجملة مثالية، لذا فلتكن.
شتَّ انتباهي مرة أخری. سأعود الآن. أنا في السيارة مع صديقي، مطر، شبابيك نصف مفتوحة، سيجارة، وصوت أم كلثوم ينبعث من "سي دي" سجلناه سابقاً. تغني "لسه فاكر". فيحصل "خطأ تقني"، وبسبب هذا الخطأ تمر حوالى الساعة، والمقطع نفسه يتكرر. "لسه فاكر قلبي يديلك أمان.. ولا فاكر كلمة ح تعيد اللي كان".
أفكر بيني وبين نفسي إن كانت كلمة "خطأ" مناسبة هنا. الراديو يكرر الجملة نفسها لمدة ساعة، وأنا أعاتب نفسي على كلمة "خطأ". هذا لا يحصل كل يوم. لو كرّر أبي اسمي أكثر من مرتين، لشعرت أن هذا خطأ.
ولكن الست لا تخطئ أبداً. وإن أخطأت، فالأفضل ألّا يقاطعها أحد، وهي ترتكب مثل هذه الأخطاء. هذا النوع من الأخطاء هو الوحيد الذي لا يُعاتب عليه صاحبه إذا كرره. أستمع، وأتذكر أشخاصاً كثراً خاصمتهم، وصالحتهم. لا أصحح خطأ الست بالضغط على أحد الأزرار مثلاً، بل أجبر نفسي علی الخيال إكراماً للخطأ.
أخترع ذكريات تليق به، وتحملني الذكريات إلی عمر العاشرة. هل كان زميلي في الصف رومانسياً في عمر العاشرة؟ لا أعرف. أتذكر فقط أنه أرسل لي ورقة في وسطها دائرة كبيرة فارغة. قال رسمتك. هذه أنت. أنت قمر. هل هذه ذكری أم خيال؟ لا أعرف.
يضغط رفيقي على أحد الأزرار، فتُمحى مقاطع كاملة من الأغنية، وتقول الست "كان زماااان". هذا خطأ أيضاً، لكن الذكريات كلها توقفت فجأة. الخطأ الذي أخذنا إلى زمان بعيد من قبل، يعيدنا الآن. يعيدنا إلى الآن. وعندما تقول كوكب الشرق "كان زمان"، يبقی ده كان زمان فعلاً.