عن العيد الذي يصنعه المساكين

05 أكتوبر 2014
سوق في مدينة حلب عشية عيد الأضحى (getty)
+ الخط -

تتصدّر أخبار الضربات الجويّة على داعش الصحف. يبدو مقدّم نشرة الأخبار قلقاً قبل عرض شريط فيديو يظهر فيه نحر رأس جديد. يجلس يساريّ قدّم استقالته من صحيفته أخيراً في المقهى. يسأل في قصيدته الجديدة عن الفقراء في العيد. يكتب شابّ لم يتخطَّ العشرين من عمره على صفحة الفايسبوك "عيدٌ بأيّة حال عدت يا عيد". يؤكد خطيب المسجد مجدداً، في صلاة الجمعة، وجوب إيلاء المساكين واليتامى الحصة الأكبر من الصدقة. يكتمل المشهد الأكثر سواداً ليطبق على الناس مساء العيد.

قبيل ساعات من إطلاق الأطفال للمفرقعات النارية المزعجة، تبثّ الإذاعة الرسمية أغنية "العيد ما بيمرق ع المساكين". على الضفة الأخرى من المشهد أعلاه، يعيش المساكين، أو أصل الحكاية. المساكين هم مَن يجب أن يكونوا قتلى الحروب، وفقراء العيد، ومنتظري الصدقة. العيد الذي لا يمرّ عليهم، يبدو صاخباً في حارات يسميها صحافيو الاستقصاء حارات البؤس. صخبٌ يكمن في مكبّرات صوتٍ تتعالى منها أغاني الأطفال.

قرّر صاحب أحد محلات الألبسة الرخيصة أن يجلب الزبائن بأغاني الأطفال. ففي حارات البؤس يستأنس الأطفال بأهازيج العيد. يتمايلون بين أذرع أهاليهم ويشيرون إلى واجهة محل الألبسة التي تكاد لا تُرى من زحمة لائحة الأسعار الهزيلة. يعرف الأطفال تماماً كيف ينتزعون العيد من البؤس. حتى بتلك الأسعار، يعجز بعض الأهل عن الشراء، لكنهم، الأطفال، لا يعجزون عن البهجة. أغاني الاطفال عيد سعيد.

مشهدٌ آخر تشكو فيه زوجة لزوجها الحرّ الشديد في سيارة بلا مكيّف. سيارة الزوج المهترئة تكاد تخلع آذان المارة بأصواتها. يأخذ الزوج قنينة مياه من داخل السيارة. يمد يده خارج النافذة، يسكب الماء على يديه، ثم يداعب زوجته بفرك وجهها بالماء. تضحك الزوجة عالياً، يبلّل الماء مقعدهما، حجاب الزوجة وقميص الزوج المكوي. يمضي الزوجان والضحك لا يفارقهما.

في حارات البؤس تلك، ينتزع الأزواج العيد بالحبّ. قد يعجز الزوج عن إصلاح سيارته. لكن حبّه لا يعجز عن صناعة عيد آخر لزوجته.

تصطدم سيارة حديثة الطراز بدراجة نارية صغيرة. يسقط رجل عنها، يبدأ بالسباب والشتم فيما يمضي سائق السيارة قدماً ليعلق في زحمة سير. يحاول الرجل، صاحب الدراجة، أن يلمّ بعض حبات الطماطم التي سقطت منه. يهرول مع عدد من الذين شهدوا الحادثة ليرشقوا السيارة الجديدة بالطماطم. يمضي السائق مسرعاً بعدها، فيضحك الحي كله: "الله بِعوّض".. يهمس أحدهم في أذن صاحب الدراجة. يعاود الأخير الضحك محاولاً أن يصف السائق الذي نال اللون الأحمر من وجهه ومن سيارته إثر قذف الطماطم. يمضي لينتزع العيد بالضحك. قد يفسد مخططه لطهو صينية من البطاطس والطماطم، لكن العيد لن يفسد. الضحك قرار بالعيد.

يتصاعد الشرر من مسنّنات آلة اللحام. يحاول عجوز إصلاح مقاعد أرجوحة ضخمة يجهّزها للعيد. يمسك ابنه الشاب بالمقعد المكسور ويكمل العجوز، حاجباً وجهه بقناع خاص كي لا يطال الشرر العينين الغائرتين إثر التعب. ينجز الأب وابنه عملهما. يجرّبان مجدداً أرجوحتهما التي ينتظران أن تدرّ عليهما بعضاً من الرزق. يرفع الشاب إبهامه ويصرخ: "كبير يا حاج... معلّم و الله". تطير الأرجوحة عرضاً مغرياً في وجه أولاد الحي. يهرولون نحوها وبيدهم بعض النقود المعدنية. يجمع العجوز النقود ويصرخ في ابنه: "طيّرْ يا صبي". يدفع الابن الارجوحة بكلتا يديه. يصرخ الاولاد منشدين الأهزوجة الشعبية: "يا ولاد الحارة، يويو..". يمضي الرجل وولده لينتزعا العيد من عملهما. قد يفسد الإرهاق بعضاً من فرحهم بالرزق، لكن العيد لا يفسد. أرجوحتهما الطائرة تبعث هواءً منعشاً على جبينيهما. الأرجوحة هواء العيد المنعش.

مثلما في يوم الحشر، يقف الناس بانتظار علب الحلوى. يعلو صراخ العمال وصاحب المتجر. "كيلو معمول للحاجة، 2 بتمر لأبو راشد وعندك دزينة لأبو كمال". يأخذ الناس حصصهم من المعمول قاصدين منازلهم. في حارات البؤس تلك ألف وألف منزل ينتظر المعمول. تسكن رائحة المعمول ليلة العيد في الناس قبل تذوّقه. على مقربة من صاحب محل الحلوى، يقف صِبيةٌ صغار ووالدتهم. يتسوّلون من السيارات والناس التي تقصد المتجر. يخرج عمال المتجر إلى بيوتهم ويخرج بعدهم "المعلّم" ليوزّع المعمول على المتسولين قبل إقفال المحل. يلتهم المتسولون الصغار المعمول. يعلن أحدهم كراهيته للجوز ويفضّل أكل المعمول بالتمر. ينتزع المتسولون العيد من طعم المعمول. قد تبدو لحظة فريدة، قد تمضي سنة على التهام حلوى شهية كالمعمول. المتسولون لا يفوّتون تلك اللحظة. المعمول هو طعم العيد.

تكمل نشرات الأخبار بثّ صور الرؤوس المقطوعة. يهدر صوت سياسي يحذّر من الأيام العصيبة التي تمرّ بها الأمة. يكمل اليساري قصيدته بألف آه تنخلع من جملته الأخيرة. يرثي الفقراء في العيد. الشاب الفايسبوكي يحاكي، افتراضياً، غضب العرب ونخوتهم من أجل الأطفال. تستمر الإذاعة ببثّ أغنية "العيد ما بيمرق ع المساكين". بينهم جميعاً، يحطم المساكين الطوق الكئيب. ينتزعون العيد من الألم، من قصائد الرثاء ومن السياسيين وداعش والإعلام. يطوّقون الحارات بالضحك والمفرقعات المزعجة. تعلق بين أصابعهم رائحة السمن المتبقية من المعمول. إنهم يصنعون عيدهم. الفقراء والمساكين هم العيد. هو لا يعرف غيرهم.

دلالات
المساهمون