صحافة مصرية محاصرة تعكس توجهات النظام

09 مايو 2019
يسمح التعديل ببقاء السيسي للعام 2030 (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -
جاءت التعديلات الدستورية التي جرت في مصر في الفترة ما بين 19 حتى 22 إبريل/ نيسان الماضي في ظلّ مرور الصحافة بوضع حرج وحالة حصار واسعة من قبل السلطة التنفيذية، عن طريق عدد من القوانين والتشريعات المقيّدة للعمل الصحافي، بالإضافة إلى تبني سياسات مربكة لدحض الصحافة المهنية وتأميمها. هذا بالإضافة إلى اتباع الدولة استراتيجية تهدف إلى تأميم العمل الصحافي عن طريق ملكية المنابع، بالتوازي مع قيام الجهات الحكومية المصرية بعرقلة الانتفاع بالإنترنت عن طريق حجب عدد من المواقع الإلكترونية. 

تلك الحالة التي وثّقها المرصد المصري للصحافة والإعلام (منظمة مجتمع مدني مصرية) في ورقة بحثية بعنوان "صحافة محاصرة في سياق انتخابي"، تتقاطع مع مصادر "العربي الجديد" التي أوضحت سابقاً منهاجاً فرضته الأجهزة الأمنية والسيادية على وسائل الإعلام المصرية في تغطية حيثيات تعديل الدستور. وركزت الوسائل حينها على أمرين: أولهما تأكيد "نسب المشاركة العالية"، على حد زعمها، والثاني هو مشاركة رموز من المحسوبين على المعارضة في الاستفتاء، بصرف النظر عن رفضهم للتعديلات، فيما أمرتها أجهزة الاستخبارات ورئاسة الجمهورية بتجاهل "الكراتين" الغذائية التي تم توزيعها على الناخبين.

تسمح التعديلات بتمديد حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي حتى عام 2030. وساهمت شبكات التواصل الاجتماعي وصحافة المواطن في فضح السياسة التحريرية للصحف والقنوات المصرية، إذ تمّ توثيق انتهاكات لم ترصدها وسائل الإعلام التقليدية.

وفي السياق، تناول المرصد في ورقته البحثية ملخص تقييم لعملية الرصد الكمّي لخمس شبكات إخبارية، وهي "الهلال اليوم"، "اليوم السابع"، "مصراوي"، "المشهد"، "الأهالي"، بهدف الوصول إلى مؤشرات أولية تتسم بالتنوع، ويتم من خلالها رسم صورة عامة وشاملة للاتجاه الرئيسي الذي طغى على التغطية الصحافية خلال فترة استفتاء تعديل الدستور. واختار المرصد الموقع الإلكتروني لكل من الهلال اليوم (قومية)، واليوم السابع ومصراوي (خاصة)، والمشهد (خاصة محجوبة)، والأهالي (حزبية)، باستخدام موقع "أليكسا" المعني بترتيب المواقع الإلكترونية طبقًا لعدد الزيارات، باستخدام متغيرات رئيسة ثابتة، هي: اتجاه التصويت بالموافقة، واتجاه التصويت بالرفض، واتجاه محايد، واتجاه المشاركة، واتجاه المقاطعة، فضلًا عن اتجاه عام: تتناول المادة الصحافية المرصودة المعلومات والبيانات العامة التي تخص الاستفتاء، مثل عدد اللجان وعدد القضاة.

وقام البحث بفحص 468 مادة صحافية تم نشرها عن الانتخابات في الصحف المشار إليها، كان نصيب "اليوم السابع" منها عدد 214 مادة بنسبة 45.5%، تلاها "الهلال اليوم" بإجمالي 135 مادة صحافية بنسبة 29%، بينما تم رصد وتحليل 50 مادة صحافية في المشهد بنسبة 10.5% و40 في مصراوي بنسبة 9.5%، كما تم رصد عدد 29 مادة صحافية نشرت في جريدة الأهالي الحزبية بنسبة 5.5%.

غياب الحيادية والتوازن
جاءت الأرقام لتؤكد تبعية وسائل الإعلام للأجهزة الأمنية، وحملت مؤشرات متناقضة وغير جيدة من حيث التوازن والحيادية في تغطية الاستفتاء الدستوري. فقد قامت الصحف بنشر 182 مادة صحافية تحثّ فيها المواطنين على المشاركة في التصويت بنسبة 39% من إجمالي المواد الصحافية المرصودة. كما تم رصد 79 مادة صحافية تتناول وجهة النظر الداعمة للتعديلات الدستورية بنسبة تقارب 17% من إجمالي المواد الصحافية المرصودة، في مقابل 5 مواد صحافية تناولت وجهة النظر الرافضة للتعديلات الدستورية، وذلك بنسبة 1% من إجمالي المواد الصحافية المرصودة. وجميع تلك المواد الصحافية "الرافضة" تم نشرها فقط على موقع المشهد، وهو أحد المواقع المحجوبة في مصر، ويجد المواطن صعوبة في الوصول إليها.

في المقابل، لم تتناول أي مادة صحافية اتجاه مقاطعة الاستفتاء. وينمّ هذا المؤشر عن تجنُّب الصحف تناول وجهة النظر التي تتبنى مقاطعة الاستفتاء، بالمخالفة مع مبادئ حرية الرأي والتعبير، ومبادئ المهنية والحيادية التي يجب على الصحافة التحلي بها.
وبحسب مؤسسة "المرصد المصري للصحافة والإعلام"، تشير تلك البيانات إلى أن الصحف "قامت عن عمد بتجاهل خيار مقاطعة الاستفتاء، وافتقرت إلى المهنية في تناول هذا الخيار وتوضيح أسبابه، وقامت بالتركيز على حث المواطنين على المشاركة في التصويت، وهو أمر جيد ولكن تشوبه بعض التخوفات حول ما إذا أصبحت الصحف منبرًا للفصيل السياسي الحاكم وذلك بسبب دعمها الاتجاه ذاته الذي تدعمه السلطة التنفيذية في الاستفتاء".

وتغذّي البيانات الإحصائية هذا التخوف، فتشير إلى أن اتجاهي المقاطعة والرفض لم تتم الإشارة إليهما بشكل مهني وحيادي، ولم يتم إفراد المساحات المناسبة لهما، وبالأخص الاتجاه الرافض لتلك التعديلات، كونه حصل على 11% في نتيجة الاستفتاء، بعد رصد 10 مواد صحافية محايدة تتناول اتجاهي الموافقة والرفض. فيما تمّ رصد 192 مادة تهدف إلى تعريف المواطنين بالبيانات والمعلومات العامة وإجراءات وقواعد عملية الاستفتاء بنسبة 41% من إجمالي المواد الصحافية.

وحصدت "اليوم السابع" المرتبة الأولى من حيث عدم المهنية والحيادية في تناول الأخبار المتعلقة بالاستفتاء الدستوري، إذ إنّ 25% من إجمالي المواد المرصودة فيها تتبنى اتجاه الموافقة على التعديلات الدستورية، في مقابل عدم وجود أي خبر يتناول رفض التعديلات الدستورية. وكذلك لم ترصد المؤسسة أي خبر يمتاز بالحيادية في طرح كلا الموقفين، وفي المرتبة الثانية جاءت صحيفة مصراوي الخاصة بنسبة 15% بمحتوى ينم عن الحث على الموافقة على التعديلات الدستورية، في مقابل عدم نشرها أي خبر يتناول رفض الاستفتاء، وحصدت جريدة الأهالي المرتبة الثالثة، حيث تناول 7% من إجمالي المواد الصحافية المرصودة خيار الموافقة على تعديلات الدستور، في مقابل عدم تناول المواد الصحافية المنشورة على "الأهالي" أي مواد صحافية تتبنى وجهة نظر الرفض.

في السياق نفسه، جاءت صحيفة الهلال اليوم في المرتبة الأولى من حيث الحيادية والتوازن في تغطية الاستفتاء الدستوري، حيث جاءت الأخبار التي تتسم بالحياد بنسبة تقارب 6% من إجمالي المواد الصحافية المرصودة، في مقابل 6.5% من إجمالي المواد الصحافية تتناول خيار الموافقة على التعديلات الدستورية، في حين لم تتناول أي مادة صحافية في الهلال اليوم خيار الرفض الذي تبنته عدد من الأحزاب السياسية المصرية. وجدير بالذكر أن صحيفة الهلال اليوم صحيفة قومية مملوكة للدولة، وتتبع دار الهلال، ويستوجب ذلك عليها تناول جميع وجهات النظر التي تمثل جميع المصريين بكل مهنية وحيادية.
وجاءت صحيفة المشهد في المرتبة الثانية من حيث الحيادية في تغطية الاستفتاء الدستوري، حيث رصدت الإحصائيات الكمية نسبة 16% من إجمالي المواد الصحافية المنشورة تتناول خيار الموافقة على التعديلات الدستورية، ولكن في المقابل تم رصد 10% من إجمالي المواد الصحافية المنشورة تتناول خيار رفض التعديلات، كما غلب على 2% من المواد الصحافية طابع الحيادية في تناول خيار الموافقة والرفض.

وغلب على المواد الصحافية المرصودة والتي تدعو إلى المشاركة أو الموافقة على التعديلات عدد من الأنماط، والتي تشابهت إلى حد التطابق والتجانس في عدد كبير من المواد الصحافية والصحف، أهمها: التركيز على استخدام فزّاعة "الإخوان المسلمين" بأنهم معارضون للاستفتاء، واستخدام الرموز الدينية في الدعاية للاستفتاء، ووصف الممتنعين عن التصويت بالآثمين، كما تم كذلك استخدام الأطفال وكبار السن، بحسب التقرير، والذي أشار أيضاً إلى أنّه غلبت على عدد كبير من عناوين المواد الصحافية ومضمونها المشاركة في الاستفتاء على التعديلات، ولكن تم استخدام الصور التي تدعو إلى الموافقة على الدستور في متن النص. وخلص التقرير أيضًا إلى أنه "تم استخدام مصطلح (الوطنية) بكثرة في الترويج للتعديلات الدستورية. وتم إغفال عدم نشر التعديات والرشاوى الانتخابية أمام اللجان. وغلبت على عدد من المضامين الصحافية صورة تحمل تشويه المعارضين والرافضين للتعديلات الدستورية".

ملكية تهدد الاستقلالية
وتهدد خارطة مالكي وسائل الإعلام استقلالية العمل الصحافي. إذ إنه بعد أحداث 30 يونيو/ حزيران من العام 2013، حين أدرك النظام السياسي المصري خطورة انفتاح المجال الإعلامي، عمد منذ اللحظة الأولى إلى إزاحة كل خصومه الإعلاميين؛ حيث بدأت الحكومة المصرية بغلق جميع قنوات التيار الإسلامي والقنوات المؤيدة له، وتبع ذلك ظهور استراتيجية جديدة تمثلت في استحواذ رجال الأعمال القريبين من الأجهزة الأمنية على القنوات الخاصة عن طريق صفقات مشبوهة.

وبحسب تقرير المرصد المصري، فقد كانت أولى الصفقات في مايو/ أيار من العام 2016، حين استحوذ رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة على مجموعة قنوات "أون تي في" المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس، وامتازت تلك القنوات بسياسة تحريرية متوازنة وموضوعية في نقل الأحداث السياسية، ولكن سرعان ما تبددت تلك السياسة بعد عملية البيع وتحولت إلى سياسة تحريرية لا تلتزم بالمهنية والحياد في نقل الأحداث.

وفي ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، أُعلن عن استحواذ شركة "إيجل كابيتال" التابعة للمخابرات العامة المصرية، على مجموعة إعلام المصريين التي تمتلك عدداً من المواقع الصحافية، أبرزها: اليوم السابع، صوت الأمة، مجلة عين، مجلة Egypt today، موقع انفراد، موقع دوت مصر، وجميعها من أهم المواقع الإخبارية. واستنتج التقرير أن "الدولة المصرية ممثلة في الأجهزة السيادية الكبرى وتحديدًا المخابرات العامة والحربية، تتحكم في السواد الأعظم من المنافذ الإعلامية المقروءة والمرئية، ما يؤثر بالطبع على مبدأ الحيادية والموضوعية في تغطية التعديلات الدستورية الأخرى، وهو ما سوف نتعرض له بشيء من التفصيل في تحليل المحتوى الذي نقدمه في هذه الورقة على تلك التغطية".

وعن عرقلة الانتفاع بالإنترنت، لفت التقرير إلى أن الحكومات تلجأ إلى قرارات حجب الروابط الإلكترونية كوسيلة للإخفاء المتعمد للبيانات، وحجب المنابر الإعلامية للتيارات التي لا تستسيغ خطابها أو تقوم بتهديد مصالحها، وهذه الوسائل من عراقيل أو قيود تؤثر بالسلب على الانتفاع بالإنترنت. وجرى ذلك في مصر عن طريق حجب عدد من المواقع الإلكترونية التي وصلت إلى 535 رابطاً إلكترونياً، من بينها ما يقرب من 100 موقع صحافي، وذلك وفقًا لإحصاءات مؤسسة حرية الفكر والتعبير.

انتهاكات وتراجع
عبّر مؤشر حرية الصحافة لعام 2019 عن تراجع جديد لمصر في حرية التعبير، وفق التصنيف السنوي لمنظمة "مراسلون بلا حدود". إذ احتلت مصر المرتبة 163 من إجمالي 180 دولة، وتراجعت مركزين عن عام 2018، وذلك بسبب القيود الواسعة المفروضة على وسائل الإعلام والتي تحُدّ من مهنيتها واستقلاليتها.

ورصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير خلال الفترة من 11 ديسمبر/كانون الأول 2018 إلى 26 مارس/آذار 2019، 9 وقائع انتهاكات بحق الصحافيين والإعلاميين شملت 17 انتهاكًا متعددًا، ما بين: إلقاء القبض على صحافيين، منع برامج أو وقف بثها، منع صحافيين من التغطية والاعتداء البدني على آخرين. بالإضافة إلى أحكام بالحبس بحق صحافيين وإعلاميين. وحسب التقرير "وبالرغم من تراجع أعداد الانتهاكات خلال الشهور الأخيرة فإن ذلك لا يُعبر مطلقًا عن تغيُّر سياسي ما في تعامل السلطات المصرية مع الصحافيين، بقدر ما يُعبِّر عن الواقع الذي آلت إليه أوضاع حرية الصحافة والإعلام في ظل سيطرة الدولة على الكثير من وسائل الإعلام، بالإضافة إلى حالة القمع التي تعرض لها الصحافيون خلال الفترات السابقة".
وقد أثبتت الوقائع التي صاحبت عملية الاستفتاء الدستوري في إبريل/نيسان تلك النتائج السلبية، إذ رصد "المرصد المصري للصحافة والإعلام" 19 انتهاكاً قامت بها وسائل صحافية محلية أثناء تغطيتها عملية الاستفتاء على الدستور.


وقام الصحافيون بالعمل على تغطية الاستفتاء الدستوري 2019، في مناخ تشريعي مضطرب يتسم بحالة من الجدل الواسعة حول دستورية تلك التشريعات ومدى تأثيرها على حرية الرأي والتعبير في مصر. وبحسب المرصد، شهد عام 2019 صدور لائحة جزاءات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والتي لاقت عددًا كبيرًا من الاعتراضات من جانب جمهور عريض من المدافعين عن حرية الصحافة في مصر، وشهد العام السابق له 2018، صدور ثلاثة قوانين رئيسة تحكم العمل الصحافي وتمثلت هذه التشريعات في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، الصادر في 18 أغسطس/آب عام 2018. وقانون رقم 178 لسنة 2018، بإصدار قانون الهيئة الوطنية للإعلام. وقانون الهيئة الوطنية رقم 179 لسنة 2018، الصادر في 27 من أغسطس عام 2018. وقانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى رقم 180 لسنة 2018، الصادر في 27 أغسطس 2018.