"سورية الصرخة المخنوقة"... عن شهادات الاغتصاب المرعبة من داخل سجون الأسد

15 ديسمبر 2017
شهادات متتالية للمعتقلات (يوتيوب)
+ الخط -

 ساعة وعشر دقائق، تبدو كأنها لا تنتهي. 70 دقيقة من الشهادات المتتالية عن اغتصاب المعتقلات في سجون نظام بشار الأسد، يقدّمها وثائقي "سورية الصرخة المخنوقة Syrie le cri étouffé" للمخرجة الفرنسية مانون لوازو، والذي عرضته قناة "فرانس 2" الفرنسية.

لا يحتوي الوثائقي على أي عنصر من عناصر الإثارة: لا موسيقى حزينة، ولا مشاهد طبيعية، ولا مؤثرات صوتية. لا يحتوي على تعليق من المخرجة، ولا على رأي رجل دين أو عالم نفس، ولا يحتوي أيضاً على تعليقات سياسية فجة ومباشرة. قصص المعتقلات السابقات في سجون الأسد، وحدها تتسلسل في الدقائق السبعين، ولا تترك للمشاهد مجالاً ليتنفّس بحرية، ولا ليرتاح. القصص المعروفة عن جحيم سجون الأسد، تأخذ أخيراً وجوهاً وأسماءً وأصواتاً: وجه للمعتقلة السابقة مريم (من مدينة حماة ــ 31 عاماً)، وجه للسيدة فوزية حسين الخلف، صوت لمعتقلة سابقة اسمها نور... لكلّ منهنّ قصة مختلفة.

مريم التي كانت تشارك في إسعاف الجرحى، أم لأربعة أطفال، اعتقلت من منزلها، دخلت السجن، واغتصبت. بهذه البساطة، بهذا التسلسل، وبهذا الوضوح. مريم الشجاعة تنظر إلى الكاميرا وتسمّي أسماء الذين تناوبوا على اغتصابها: المقدّم سليمان من طرطوس، والعميد جهاد، وغيرهما...
نور التي لا نرى وجهها تبدأ قصّتها بصوت هادئ وطفولي. تتحدّث عن طفولتها، عن دراستها، عن علاقتها بوالدها. ثمّ تسكت، يرتجف صوتها وهي تتحدّث عن اعتقالها في درعا (مسقط رأسها). ينخفض صوتها بشكل سريع. تبكي، وتتحدّث عن مشهد اغتصاب زميلتها علوى أمامها. ثمّ تبدأ تفاصيل عملية اغتصابها الجماعي ثمّ إصابتها بجلطة بعد: "آخر مرة، خمسة تناوبوا علي، من كتر مانن حاكيين عني، إجوا الخمسة تيشوفوني. (...) ما بعرف يمكن مع رابع واحد بلشت حس بآلام متل آلام الولادة (...) وواحد عمبيقول للتاني كمّل ما بيأثّر".
ومن خارج المعتقلات والأقبية، تأتي قصة فوزية حسين الخلف، من حمص. تروي كيف داهم جنود الأسد منزلها بعد قصف مدينة الحولة الحمصية في أيار/مايو 2012. كيف بدأ الجنود بخلع ملابس بناتها الثماني. "شلحت تيابي وقلتله تعى اغتصبني انا، بس بناتي لأ". اغتصبوها، ثمّ اغتصبوا بناتها واحدة واحدة أمامها، ثمّ قتلوا زوجها، وذبحوا بناتها، باستثناء ابنتها رشا التي تظهر في الوثائقي.



شهادات أخرى نسمعها، نسمع من نور تتمة قصة علوى، التي بعد خروجها من المعتقل قتلها والدها "حفاظاً على شرفه" بسبب تعرضها للاغتصاب. مريم طلّقها زوجها بسبب تعرضها للاغتصاب أيضاً. تعيش كل هؤلاء اليوم خارج سورية، في الأردن وتركيا، وبعض منهنّ في أوروبا، كما توضح مخرجة العمل في مقابلة إعلامية تلت عرض الشريط.

منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، يعلم الجميع أن في سورية عمليات اغتصاب للمعتقلات (والمعتقلين)، لكن تأتي هذه الشهادات صادمة ومرعبة بتفاصيلها، بيوميات الأسى التي تعيشها المعتقلات السابقات اليوم "روحي انفصلت عن جسمي" تقول نور، "أنا جسد بس، ما بقى فيي روح" تقول مريم.



تتنقل الكاميرا بهدوء بين وجوه السيدات المعترفات. لا تخترق خصوصيات بيوتهنّ، ولا عائلاتهنّ ولا أجسادهنّ بالتصوير. تحترم الكاميرا ومن خلفها المخرجة الفرنسية مأساة هؤلاء. تمنحهنّ هامشاً للتنفّس والخوف والارتعاش وسط الشهادات. لا تجمّل كلامهنّ. تعطي البطولة كاملة لضحايا الاغتصاب. للسيدات اللواتي شاركن بالثورة من خلال التظاهر أو مساعدة الجرحى، فاعتقلن ووصمن بالإرهاب ثمّ اغتصبن وعذّبن. بطلات الوثائقي هنّ ضحايا الاغتصاب. لكن بطل الوثائقي أيضاً بشار الأسد وجنوده، هؤلاء الذين لا يظهرون في الشريط إلا بشكل مقتضب، من خلال اقتحامات وعمليات "تشبيح" مصوّرة على عجلة. الأسد موجود في كل تفصيلة من حكايات هؤلاء السيدات. فيل كبير يصعب تجاهله، حتى وإن كانت صورته لا تظهر، ولا تسمع تصريحاته... الأسد وجنوده وكل نظامه، مع كل المفاهيم التي حكمت سورية منذ وصول حزب البعث: القمع، والدكتاتورية، المنظومة الذكورية (صفة يتشاركها النظام مع أغلب الأطراف المتحاربة في سورية)، ثمّ الخوف الذي يحكم السوريين منذ وصول آل الأسد إلى السلطة. قبل شهرين تقريباً، سحبت الجمهورية الفرنسية بطلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسام الشرف من المنتج الأميركي هارفي وينستين، بعد فضائح التحرش المتتالية من قبل نجمات عالميات، بينما لا يزال بشار الأسد يحتفظ بقصره بوسام الشرف الذي منحه إياه جاك شيراك عام 2001. هذا الانفصام الأخلاقي الغربي وحده كفيل بتفسير مأساة هؤلاء السيدات.