التغريبة العربية..تغيرات ديموغرافية عززت الوحدة الوطنية السورية

16 أكتوبر 2014
اللاجئون السوريون يبحثون عن الأماكن الآمنة داخل بلدهم(فرنس برس)
+ الخط -
مشهد النساء الأربعينيات، اللواتي ينمن على الأرصفة وسط مدينة اللاذقية، أمام أبواب الجمعيات الخيرية، في انتظار افتتاحها للحصول على حصة غذائية، صار جزءاً مألوفا من سيناريو الحياة اليومي للمدينة وأهلها ونازحيها البالغ عددهم نصف مليون مهجر من مناطق حلب وإدلب خلال العامين الأخيرين.

الصورة السابقة لم تكن موجودة قبل اندلاع الثورة السورية ضد بشار الأسد، غير أنها تخفي الكثير من الأمل وسط كآبة حياة النزوح الداخلي في سورية التي يعاني منها 4 ملايين مهجر وفق ما يؤكده مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة.

خريطة النزوح

تبدأ خريطة النزوح الداخلي السوري من مدينة اللاذقية - الحاضنة الأكبر لمؤيدي النظام السوري - التي أصبحت أكبر المدن السورية جذباً للنازحين، الذين هربوا من الاشتباكات والقصف الذي تشهده مناطقهم شمال سوريا، وبالقرب منها وعلى الشريط الساحلي تقع طرطوس، المدينة الصغيرة التي تعتبر مركز المحافظة السورية الوحيدة التي شكل العلويون أغلبية سكانية فيها.

ورغم ذلك، استقبلت طرطوس أكثر من 300 ألف نازح جاءوا بشكل رئيسي من مدينة حمص القريبة منها، والتي هجرها أكثر من ثلثي سكانها بسبب المعارك الطاحنة والقصف العنيف لجيش النظام منذ 3 أعوام.

على الخريطة نفسها نجد مدن دمشق وحماة وإدلب الواقعة تحت سيطرة النظام، وأحياء وسط وغرب مدينة حلب التي يبسط النظام سيطرته عليها، والتي استقر فيها مئات آلاف النازحين، ممن فروا من بلداتهم وقراهم التي شهدت خلال الأعوام الماضية قصفاً عنيفاً بالأسلحة الثقيلة واشتباكات بين قوات النظام السوري وكتائب الثوار.

النزوح الداخلي في سورية لم يقتصر على الانتقال من مناطق سيطرة المعارضة السورية نحو مناطق النظام، بل امتد أيضاً إلى عمليات نزوح جماعي من المناطق التي تتعرض للقصف بوتيرة عالية، إلى المناطق التي تسيطر عليها كتائب الثوار وتعتبر بصورة أو بأخرى أكثر أمناً.

يعد السبب الرئيسي للنزوح وفقاً لما رصدته "العربي الجديد" نحو المدن التي يسيطر عليها النظام السوري، هو الأمان النسبي المتوافر في هذه الأماكن الذي يعود بشكل رئيسي إلى عدم تعرضها للقصف بالطيران الحربي وأسلحة الصواريخ والمدفعية التي يستخدمها الجيش السوري في قصف المدن، والبلدات التي تسيطر عليها كتائب الثوار، وهو ما أدى إلى حصول تغيرات في التركيبة السكانية والواقع الديمغرافي في المدن التي قصدها النازحون، كما أدى أيضاً إلى نشوء أزمات سكانية واجتماعية في هذه المدن.



تغيرات ديموغرافية

مع ارتفاع وتيرة الصدام المسلح بين كتائب الثوار وقوات النظام في مدينة حمص نهاية عام 2011 بدأ سكان الأحياء الواقعة تحت سيطرة الثوار وسط وشرق وشمال المدينة في النزوح بشكل جماعي نحو منطقة "الوعر" الواقعة إلى الغرب من مدينة حمص التي كانت تعتبر هادئة نسبيّاً، قبل أن يضطرهم حصار قوات النظام السوري للمنطقة وتضييقها عليهم إلى النزوح التدريجي نحو مدينة طرطوس القريبة غرباً، ونحو العاصمة دمشق الأمر الذي جعل الأغلبية في المدينة من العلويين المقيمين جنوب ووسط المدينة في أحياء النزهة والزهرة وعكرمة.

دخول الثوار إلى مدينة حلب، التي تعد الأكبر في عدد السكان في سورية بأكثر من أربعة ملايين نسمة، وسيطرتهم على ثلثي مساحة المدينة مع بداية صيف 2012 ، أدى إلى موجات نزوح متتالية إذ توجه النازحون "الحلبيون" الذين لم يفضلوا الانتقال إلى تركيا أو إلى مناطق ريف حلب التي تسيطر عليها كتائب الثوار، نحو مدينتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين بشكل رئيسي، لتُسبب أعدادهم الكبيرة تغيير وجه المدينتين ديموغرافيّاً بشكل كبير.

تتحدث مصادر في منظمة الهلال الأحمر السوري لـ"العربي الجديد" عن تقديم المنظمة معونات غذائية ومعاشية لأكثر من 750 ألف نازح في محافظة اللاذقية وحدها على مدار السنين الثلاث الماضية، في مقابل تقديمها معونات لأكثر من 400 ألف نازح في مدينة طرطوس وريفها.

وبمقارنة الرقم السابق مع عدد سكان مدينة اللاذقية البالغ حوالي 900 ألف نهاية عام 2010 ثلثهم من العلويين - بحسب آخر إحصاء للمكتب المركزي للإحصاء في سوريا - فإن قدوم أكثر من 700 ألف نازح من حلب ومناطق إدلب وحمص جلهم من العرب السنة إلى المدينة أدى إلى تحويل أبناء الطائفة العلوية إلى أقلية صغيرة في المدينة لا تتجاوز 15% من سكانها.


أمر مشابه حصل في مدينة طرطوس، التي كان عدد سكانها يناهز 600 مع نهاية عام 2010 أكثر من نصفهم من أبناء الطائفة العلوية، بعد الثورة تدفق على المدينة أكثر من 400 ألف نازح سكنوا مناطق الحميدية والبرانية وسط المدينة و"بصيرة" شمالها، من أبناء المناطق المشتعلة في حلب وحمص بشكل رئيسي، وهو ما أدى إلى تغيير الواقع الديمغرافي في المدينة وتحويل أبناء الطائفة العلوية إلى أقلية لا تزيد نسبتها في أكبر التقديرات على 25% من سكان المدينة حاليّاً.

"ارتفاع الكثافة السكانية في المناطق التي توجه لها النازحون في الساحل السوري، قابله انخفاض كبير في عدد سكان مدينتي حلب الأكبر في سورية، وحمص الثالثة في سورية لجهة عدد السكان بعد دمشق، يقول مروان الياسين - ناشط في جمعية لإغاثة النازحين في مناطق سيطرة النظام السوري غرب حلب - لـ"العربي الجديد".

وينقل الياسين واقع حياة النازحين في تلك المناطق: "شهدت الأحياء الغربية من مدينة حلب قدوم موجات من النازحين، آخرها نزوح أكثر من مائة ألف من سكان الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة في المدينة نحو الأحياء الغربية شهر فبراير/شباط الماضي، إثر ارتفاع وتيرة قصف مناطق سيطرة المعارضة بالبراميل المتفجرة، وهو ما أدى إلى تفاقم مشاكل السكن وارتفاع الإيجارات".

فوائد النازحين

أدى تدفق مئات الآلاف من النازحين إلى مناطق سيطرة النظام السوري في الساحل السوري والمدن التي يسيطر عليها وسط سورية إلى تحريك الأسواق الراكدة في هذه المناطق، إذ اضطر النازحون لشراء حاجياتهم من الملابس والمستلزمات الشخصية الأخرى من أسواق هذه المناطق، فيما قام بعض ميسوري الحال منهم بافتتاح مشاريع صغيرة في مدن مثل اللاذقية وريفها، لإنتاج الملبوسات والجلود الأمر الذي ساهم في تشغيل كثير من العاطلين من أبناء المدينة الأصليين والنازحين إليها.

الوجه الآخر

خلق التدفق الكبير للنازحين، نحو مدن الساحل السوري وحماة وإدلب ودمشق ومناطق النظام السوري في حلب، أزمة سكن في مدن اللاذقية وطرطوس وإدلب وحماة، وهو ما أدى إلى قيام جمعيات خيرية بالتنسيق مع إدارة النظام السوري في هذه المدن لإيواء النازحين الأشد فقراً - غير القادرين على الإيجار - في مباني حكومية كالمدارس العامة والمستودعات الحكومية الفارغة، والتي لا تشكل في الواقع - كما رصدنا - أماكن صالحة للسكن البشري، فضواحي دمشق التي يسطر عليها النظام مثل "قدسيا والهامة ودمّر" تغص بعشرات الآلاف من النازحين من مناطق غوطتي دمشق، والمدينة الجامعية في حلب التي كانت مخصصة لسكن طلاب الجامعة أصبحت تغص بأكثر من أربعين ألف نازح، بحسب مصادر لـ"العربي الجديد" في منظمة الهلال الأحمر.


النازحون ذوو الأوضاع المادية الأفضل استأجروا بيوتاً خالية، وفي الغالب تعود هذه البيوت إلى أثرياء غادروا سورية بسبب توقف تجارتهم وأعمالهم، أو لعائلات معارضة للنظام السوري تركت أماكن سكنها في مناطق سيطرة النظام خوفاً من اعتقال وملاحقة قوات النظام أبناءها.

كل ما سبق أدى إلى خلق سوق مرتفعة الطلب على العقارات السكنية، وبالتالي رفع الإيجارات بصورة غير مسبوقة في المدن التي يسيطر عليها النظام"، كما يقول النازح عبد العزيز العمر لـ"العربي الجديد" بعد أن توجه مع عائلته إلى السكن في الأحياء التي يسيطر عليها النظام السوري في مدينة حلب.

يتوقف عبدالعزيز عن الحديث ليلتقط أنفاسه ويعود إلى القول "الإيجار الشهري للبيوت الواسعة في أحياء حلب الغربية وصل إلى مائة وخمسين ألف ليرة شهريّاً (780 دولاراً)، أي ما يعادل عشرة أضعاف بدل إيجار هذه الشقق قبل أزمة السكن التي تشهدها هذه المناطق، وحتى في اللاذقية وطرطوس وصلت أسعار الإيجارات الشهرية للبيوت في الأحياء الشعبية إلى خمسين ألف ليرة سورية، وهو ما يوازي ( 260 دولاراً) كبدل إيجار شهري، ما يشكل حوالي عشرة أضعاف بدل إيجار هذه البيوت سابقاً".

أزمة العمل أطلت برأسها أيضاً في المناطق التي شهدت تدفق الأعداد الكبيرة للنازحين، حيث اضطر أبناء العائلات الفقيرة النازحة للعمل بأجر زهيد في مهن متعبة كالعتالة ومهن البناء وغيرها لتأمين قوتهم اليومي، وأدت البطالة المنتشرة في أوساطهم إلى انخراط بعضهم كمتطوعين في قوات النظام السوري الأمنية والعسكرية، للحصول على البدلات النقدية التي يتقاضاها هؤلاء المتطوعون بهدف تغطية احتياجات عائلاتهم المعيشية.

كل ما سبق جعل أحلام النازحين المقيمين في مناطق سيطرة النظام السوري غرب ووسط البلاد تدور حول "تأمين فرصة للهجرة إلى أوربا، حتى ولو كانت على قوارب الموت" كما قال اللاجئ السوري سامر الحموي لـ "العربي الجديد" من السويد.