عقب الحادثة تضاربت المعلومات بشكل كبير وانعكس ذلك على أداء وسائل الإعلام المصرية منذ بداية الحادث، إذ التزمت الصمت التام طوال اليوم الأول، وبعدها بدأت في الحديث على استحياء، ثم لم تكتف بهذا بل هاجمت وسائل الإعلام العالمية التي غطت الحادث مثل "رويترز" و"بي بي سي" واتهمتها بفبركة الأخبار والمبالغة في عدد ضحايا الحادث، وبأنهما أحد أذرع التنظيم الدولي للإخوان، وهو ما جاء على لسان مقدم البرامج المقرب من الأجهزة الأمنية أحمد موسى في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في حلقة للحديث عن تحرير الضابط محمد الحايس، المشارك في العملية من أيادي الإرهابيين، رغم أن "رويترز" لم تعلن عن عدد القتلى إلا بعد تأكدها من 3 مصادر أمنية مصرية مختلفة، وفقا لما جاء في بيان للوكالة الإخبارية في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو ما يؤكده عدم إصدار وزارة الداخلية المعنية بالأمر أي بيانات عن الحادث إلا بعد مرور ساعات على حدوثه، الأمر الذي يفسر اختلاف الروايات حول عدد القتلى، كما لم يكلف الإعلام المصري خاطره عناء البحث عن الرقم الحقيقي، واكتفى بانتظار بيان الداخلية المتأخر حول الأمر، وهو بالطبع ما لا تستطيع وسائل الإعلام العالمية أن تقوم به، لكونها خدمات محترفة قائمة على التنافس في نقل الخبر لترسيخ تفوقها ومكانتها، وهو ما لا تهتم به وسائل الإعلام المصرية المرتهنة للنظام وروايته مهما تأخرت.
وتعد حادثة تحرير الضابط محمد الحايس، وقتل المجموعة التي كانت قد أسرته، الأمر المؤكد نظرا لاعتراف جماعة إرهابية جديدة تطلق على نفسها اسم "أنصار الإسلام" بمسؤوليتها عن الحادث، ومقتل "عماد عبد الحميد" ضابط الجيش السابق وعضو الجماعة في قصف جوي نفذه الجيش المصري في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن تفاصيل عملية تحرير الضابط الحايس تبقى ضبابية، وبالرغم من تلك التفاصيل الغامضة، إلا أنه من المؤكد أن الحادث وتفاصيله سببا مأزقا كبيرا للنظام، نظرا لأنه يقدم نفسه باعتباره مواجها شرسا للإرهاب وواعدا بتحقيق الأمن والاستقرار، غير أن ما جرى ضرب هذه الصورة في مقتل، وأدى إلى حالة غضب شعبية عارمة حتى بين أنصاره، بالإضافة إلى حالة غضب كبيرة داخل وزارة الداخلية، ولذلك كان لا بد من الرد بسرعة، حتى لو كان الأمر بافتعال معركة كبرى وهمية لتغطية الفشل، ولذلك جاءت دعاية النظام وأذرعه الإعلامية بعد تحرير الضابط محمد الحايس، إذ امتلأت وسائل الإعلام بأخبار تبالغ بشدة في الحديث عن حجم المعركة والقوات المشاركة فيها وعدد الضحايا الذين سقطوا من المسلحين المسؤولين عن حادث الواحات، ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل تعداه إلى فبركة أخبار ونشر أخبار عن عمليات أخرى لاحقة للحادث ليستمر الشحن المعنوي للجمهور وإقناعه بضخامة العملية، وهو ما يبدو في تصريح العميد محمد مصطفى الذي قدمته صحيفة الأهرام الحكومية باعتباره خبيرا عسكريا، والذي تحدث عن مشاركة قوات الشرطة والجيش وعناصر المخابرات العامة والحربية، وعن الاستعانة بصور الأقمار الصناعية المصرية والروسية والفرنسية، ومجموعات عمل من هيئة العمليات والاستطلاع الجوي والحرب الإلكترونية والأمن الوطني، ورجال العمليات الخاصة بالشرطة والصاعقة والمظلات، واستخدام قنابل "محدودة التدمير" لقصف مجموعات المسلحين المحيطة بالنقيب محمد الحايس حتى لا يقتل معهم، وعن تحرك مجموعات من الصاعقة تحركت لقتل المسلحين الذين كانوا يحرسون الضابط وقتلهم جميعا خلال 20 ثانية فقط!
ولم يفت الخبير العسكري أن يختلق نصرا جانبيا آخر لإكمال مشهد الانتصار، إذ تحدث عن تصفية 100 مسلح آخرين كانوا موجودين بجوار مكان الحادث بعد قصفهم بطائرات الأباتشي، أي أن هذا العدد المزعوم أكبر بكثير من عدد منفذي عملية الواحات أصلا! لأن السيسي نفسه أعلن خلال منتدى شباب العالم أن المشاركين في حادث الواحات هم 14 مسلحا فقط.
أما النقيب محمد الحايس نفسه، فقد حاول الإعلام تصويره باعتباره بطلا شجاعا واجه المسلحين وحده، لكن هذه المحاولة لم تنجح وأصبحت مثارا للسخرية، ومع ذلك تناقل الإعلام تصريحات والد الضابط لقناة الحياة بعد تحرير نجله في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي قال فيها إن "ابنه سب المسلحين الذين أسروه كثيرا وتحداهم أن يضربوه"، ولم يذكر الوالد الدكتور علاء الحايس في تصريحاته التي تناقلتها وسائل الإعلام المصرية المختلفة، ما إذا كان قد تحداهم أن يقتلوه أم لا، رغم وجود تسجيل صوتي لضابط يحكي تفاصيل العملية أكد فيه أن الحايس "توسل" للمسلحين لكي يتركوه حيا، وقد أذاع ذلك التسجيل المذيع أحمد موسى أحد أشهر أذرع النظام الإعلامية.
لكن تلك التناقضات لم تمنع السيسي في النهاية من صناعة مشهد انتصاره الختامي بزيارة الحايس في المستشفى بصحبة وزير الداخلية، بعد أن تمت تهدئة الغضب الشعبي وغضب الشرطة بتلك المعركة التي لا يعرف أحد تفاصيلها الحقيقية حتى الآن، كما ربط محللون بين قرار إقالة الفريق محمود حجازي من رئاسة أركان القوات المسلحة في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومحاولة امتصاص غضب وزارة الداخلية مما قيل إنه تقصير من جانب الجيش في توفير الدعم لقوة الشرطة التي كانت ذاهبة في مأمورية الواحات.
ويتشابه تعامل النظام مع حادثة الواحات وما جرى في حوادث أخرى مماثلة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، بما يمكننا من تحديد نسق موحد لتصرفات النظام الحاكم في مصر للتعامل مع مثل تلك الحوادث، إذ تبدأ التطورات بحادث ضخم وكبير ضد النظام أو ضد كيانات أو أشخاص أو تيارات يتحالف معها، ويؤدي هذا الحادث إلى حالة غضب عارمة، يدفع النظام إلى افتعال معركة كبرى، والمبالغة في تفاصيلها لتهدئة الغضب، ويقع على عاتق وسائل الإعلام المصرية والمصادر الأمنية والعسكرية المجهولة بالإضافة إلى ما يسمى "اللجان الإلكترونية" مهمة المبالغة في تفاصيل تلك المعارك واختلاق أخبار كاملة بشأنها، مع الحرص على الحديث بشكل غامض وعمومي في البيانات الرسمية، حتى لا يتورط النظام في تفاصيل قد تدينه أو تظهره بمظهر المتناقض أو الكاذب، ثم في النهاية يكون هناك مشهد ختامي لانتصار مزعوم يغطي الفشل أكثر مما يعبر عن انتصار حقيقي وهو ما ترصده السطور التالية.
ليبيا.. الضربة الأولى
في مساء الخامس عشر من فبراير/شباط من عام 2015، نشر تنظيم داعش في ليبيا مقطع فيديو لعملية إرهابية ذبح فيها 21 مصريا قبطيا على شواطئ مدينة سرت، الأمر الذي أصاب المصريين بصدمة كبيرة، وأدى إلى قيام القوات الجوية المصرية بشن غارات على مواقع قالت إنها لتنظيمات متطرفة في مدينة درنة، وكان هذا إيذانا بالإعلان للمرة الأولى عن تدخل عسكري مصري في ليبيا بصورة رسمية وعلنية. لكن هذه الغارة لم تكن كافية من وجهة نظر النظام، ليأتي دور وسائل الإعلام في اختراع قصص أخرى سابقة وموازية ولاحقة للضربة المصرية لمضاعفة تأثيرها الدعائي داخل مصر. وهو ما يمكن رصده منذ بداية الأزمة إذ حاولت الأذرع الإعلامية تصدير الأزمة إلى الخارج عبر توجيه غضب المصريين إلى عدو خارجي، فنشر عدد من وسائل الإعلام المصرية، من بينها جريدة الفجر التي يترأس مجلس تحريرها الصحافي عادل حمودة المقرب من الأجهزة الاستخبارية المصرية، خبرا ادعت فيها أن فيديو ذبح الأقباط تم تصويره في قطر وليس ليبيا، ونسبت وسائل الإعلام المصرية تلك المزاعم إلى "وكالة المسح الجغرافية الروسية" قبل أن يتضح أن كل تلك الأخبار تعتمد على مقطع فيديو نشره أحد المجهولين على موقع يوتيوب بصوته، من دون أن يقدم أي مصدر لذلك الزعم.
كما تداولت عدة صحف ومواقع وبرامج فضائية في فبراير/شباط من عام 2015، مقطع فيديو لكميات من الأسلحة والذخائر في ليبيا، وزعمت أن تلك الأسلحة ألقتها طائرات أميركية لتنظيم داعش لمساعدته في قتال الجيش المصري وتهريبها إلى داخل مصر، قبل أن يتضح أن الفيديو يعود إلى عام 2012 بعد أن تورطت العديد من وسائل الإعلام في تلك الفضيحة الإعلامية.
وذهبت صحيفة اليوم السابع المقربة من الأجهزة الأمنية المصرية، إلى أبعد من ذلك بعدما قال رئيس تحريرها التنفيذي دندراوي الهواري في 19 فبراير/شباط من عام 2015، أن فيديو ذبح الأقباط تم تصويره في استوديوهات هوليوود، وأن الولايات المتحدة متورطة في خلق "داعش".
واستمرت وسائل الإعلام المصرية في الهجوم على قطر بشكل مستمر طوال الأيام التالية واتهامها بدعم "داعش" والتورط في ذبح المواطنين المصريين. كما هاجمت الأذرع الإعلامية قناة الجزيرة، لأن الأخيرة كشفت عن وقوع ضحايا مدنيين جراء الغارات المصرية، وليس إرهابيين أو مسلحين كما ادعت القاهرة.
وتبدو عملية الفبركة الأبرز في تلك الأزمة عبر بث أخبار عن قيام مجموعة من القوات الخاصة المصرية بعملية إنزال بري داخل ليبيا وقتل أكثر من 100 عنصر من عناصر داعش وأسر العشرات. وقد بدأت قناة سكاي نيوز الإماراتية تلك الفبركة بنشر خبر لا يستند إلى أي مصدر عن قيام قوة مصرية بقتل وأسر العشرات من "داعش" في ليبيا في 18 فبراير من عام 2015، واكتفت القناة الإماراتية بنسبة الخبر إلى مصدر "مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت تتحدث عن روايات حول هذا الأمر"، قائلة إن "صحفا عربية وأجنبية -لم تذكرها- ذكرت أن القوات المصرية قامت بإنزال بري في مدينة درنة، وأن مسؤولين من عدة دول –لم تذكر أسماءهم أو دولهم- تحدثوا عن مقتل أكثر من 150 من عناصر داعش".
بدا وكأن وسائل الإعلام المصرية كانت تنتظر نشر هذا الخبر لتعتبره إشارة البدء في سيل من الأخبار المماثلة التي استندت إلى ما قالته سكاي نيوز، ورفعت عدد القتلى إلى 150 والأسرى إلى 55، كما نسبت بعضها الخبر أيضا إلى الكاتبة الكويتية "فجر السعيد" التي تحولت إلى مصدر دائم للأخبار لدى الإعلام المصري، رغم أنها لا تتمتع بأي منصب رسمي أو اطلاع على الأحداث، والمفارقة أن قناة الميادين بثت فقرة عن الإنزال البري الوهمي، لكنها نسبته إلى وكالة "أنسا" الإيطالية هذه المرة، رغم أن الوكالة الإيطالية لم تقل أكثر من أن مصادر مصرية وليبية تحدثت عن عملية إنزال في ليبيا من دون إعطاء أي تفاصيل، لكن القناة أضافت الكثير من التفاصيل، لينقل عنها أيضا عدد من وسائل الإعلام المصرية، مثل جريدة الوفد الحزبية الأمر، بينما قال الكاتب مصطفى بكري، والذي يعد أحد المروجين للنظام في 18 فبراير في جريدة الوطن، إن القوة المصرية كانت عبارة عن 30 من القوات الخاصة، وقتلت 155 وأسرت 55 وجاءت بهم على متن الطائرات المصرية وعادت بهم إلى القاهرة، وبشر المصريين بأن المتحدث العسكري سيخرج عليهم ببيان يتضمن تفاصيل العملية بعد فترة قليلة، لكن هذا البيان لم يظهر حتى الآن.
ونشرت صحيفة اليوم السابع مقالا لرئيس تحريرها التنفيذي دندراوي الهواري –الذي كان قد زعم أن فيديو ذبح الأقباط تم تصويره في الولايات المتحدة- قال فيه إن من بين أسرى داعش الذين ألقي القبض عليهم ضابطاً قطرياً، وقال إن العملية كانت حديث وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وإن القوات المصرية اكتشفت "أسلحة تحمل أختاما قطرية" وأن مصر حصلت على أدلة إدانة قاطعة لقطر، في دعمها لداعش، وهي أدلة لم تظهر على الإطلاق ولم يتم الإعلان عن أي أسير قطري أو حتى من داعش، كما لم يعلن أي مصدر رسمي عن تلك العملية الوهمية، وإن كان النظام قد ترك القصة تتفاعل على مستوى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي نظرا لاستفادته من مثل تلك الأخبار.
وواصل الهواري في مقال لاحق بتاريخ 25 فبراير، التأكيد على حدوث العملية التي أطلق عليها اسم "الصقر"، لكنه هذه المرة قال إن عدد أسرى داعش 43 شخصا، منهم عنصر قطري يتولى التنسيق مع داعش لإسقاط الدول المركزية في المنطقة برعاية قطر وتركيا وإسرائيل، وبدعم سياسي وعسكري أميركي. واستشهد بتغطية قناة الميادين للعملية المزعومة ليقول إن تلك التغطية تثبت صحة العملية.
كما لا تزال تلك العملية تثير تساؤلات عديدة عن سبب توجيه الضربة الجوية في مدينة درنة وليس مدينة سرت التي ذبح فيها الأقباط، في ظل تمهيد إعلامي مصري ومطالبات إعلاميين مصريين من بينهم أحمد موسى، بالتدخل العسكري في ليبيا بحجة محاربة الإرهاب، عقب الانقلاب العسكري بفترة قليلة.
لكن النتيجة الأهم هي أن مصر فشلت فشلا ذريعا في الحصول على دعم من مجلس الأمن لتلك الغارات التي قامت بها، إذ لم يستطع وزير الخارجية سامح شكري إقناع أي دولة بمزاعم نظامه، ورفض الطلب المصري بالتدخل العسكري في ليبيا، ولم يتم إصدار أي قرار من المجلس بهذا الخصوص. واكتفت الدول الغربية بالمطالبة بضرورة التوصل إلى حل سياسي في ليبيا، وهو ما جاء في بيان مشترك أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، الأمر الذي جعل مصر تتراجع عن طلب التدخل العسكري، وتقرر التقدم بمشروع يطالب بدعم حكومة برلمان طبرق ورفع حظر السلاح عنها، ليفشل المشروع للمرة الثانية في الحصول على موافقة مجلس الأمن، ويعود وزير الخارجية خائبا.
مليارات جبل الحلال
الأزمة هذه المرة كانت غير مسبوقة، فقد تم تهجير مصريين أقباط من بيوتهم في مدينة العريش في فبراير 2017، على يد تنظيم داعش بعد مقتل 6 منهم على يد التنظيم، ووصلت أعداد المهجرين إلى حوالي 1700 شخص، وفي نفس الوقت لا يستطيع نظام السيسي تحميل مسؤولية ما حدث إلى الجماعات المسلحة في ليبيا، لأن الأحداث هذه المرة في قلب شبه جزيرة سيناء في أقصى شرق البلاد، وحيث يوجد تنظيم ولاية سيناء التابع لداعش، فكان الحل هذه المرة في اختلاق معركة في نفس المنطقة، وبالفعل توالت أخبار الإعلام المصري عن مكان يسمى "جبل الحلال" وكيف أنه عبارة عن ملجأ للجماعات المسلحة ومزود بأقوى التحصينات التي تجعله في نفس قوة خط بارليف، ثم بدأت أخبار المعركة وتحدثت الأذرع الإعلامية عن اقتحام الجيش المصري للجبل، وكيف أنهم وجدوا كهوفا ومغارات وأنفاقًا ودهاليز وخنادق، ومخازن للسلاح، وأماكن فاخرة للإقامة والإعاشة، وتحصينات قوية، رغم أن بيانات الجيش "المقتضبة" عن معركته مع الجماعات المسلحة في جبل الحلال وسط سيناء كانت تتحدث عن "القبض على تكفيريين وهدم عشش، والعثور على كميات من الذخائر"، إلا أن رواد الشبكات الاجتماعية وبعض الإعلاميين سرحوا بمخيلتهم إلى عالم آخر وأساطير لا علاقة لها بالواقع.
وزاد المذيع محمد الغيطي في 27 فبراير 2017، إن جبل الحلال يحتوي على مهبط للطائرات، وقاعدة صواريخ، ومستشفى ميداني، وأن هذا الجبل كان "ملتقى لكل إرهابيي العالم وأجهزة المخابرات الدولية" وأن ما يقوم به الجيش المصري حاليا يشبه ما كان يقوم به في حرب أكتوبر. وادعى دندراوي الهواري في مقال منشور في 25 فبراير/شباط 2017 بأن اقتحام الجبل أغضب إسرائيل، رغم أنه أورد في نفس المقال تصريحا لوزير إسرائيلي يقر فيه بأن إسرائيل تقوم بغارات جوية في سيناء ضد المسلحين. وأضاف لإسرائيل كلاً من قطر وتركيا وبريطانيا، وبالطبع جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس. كل هذه التفاصيل رغم أن البيان الرسمي للمتحدث العسكري باسم القوات المسلحة لم يتحدث أكثر من قيام قوات من الجيش بملاحقة العناصر التكفيرية بوسط سيناء، وهو بيان روتيني يتم نشر مثله بصورة دورية.
وزعم علاء عابد رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب بأن قوات الجيش عثرت على ملايين الدولارات وهويات ضباط مخابرات أجانب في جبل الحلال، في كلمته خلال اجتماع لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب في 26 فبراير، لكنّ مواقع أخرى ونشطاء مؤيدين للنظام على مواقع التواصل رفعوا قيمة المبلغ الذي عثر عليه إلى 600 مليار دولار، وهو ما أثار موجة عارمة من السخرية، حتى إن الأمر استلزم تدخل أذرع إعلامية أخرى لنفي الشائعة، ومنهم أحمد موسى الذي نفى العثور على هذا المبلغ، لكنه في معرض نفيه لم ينس أن يذكر تفاصيل أسطورية أخرى، مثل العثور على "مخازن" لقطع غيار السيارات والدراجات النارية، وسيارات دفع رباعي جديدة داخل الجبل، فضلًا عن أجهزة لاسلكي ومخازن لملابس عسكرية.
المفارقة الكبرى هذه المرة تتضح من فحص ما كانت تنشره وسائل الإعلام المصرية عن جبل الحلال في أعوام سابقة، إذ سيتضح أن الإعلام المصري كان يؤكد اقتحام جبل الحلال في كل عام تقريبا، فقد أعلن عن اقتحام الجبل أعوام 2013 و2015 و2016 قبل المرة الأخيرة المزعومة، وهنا نحن أمام احتمالين: الأول أن المتحدث العسكري للجيش المصري والإعلام المصري الذي ينقل عنه كانوا يكذبون بشأن اقتحام جبل الحلال خلال الأعوام السابقة، وأنهم اضطروا إلى اقتحامه فعلا بعد تهجير المسيحيين من العريش، أما الاحتمال الثاني فهو أن الجبل لا يشكل أي خطر ولا يوجد به أي مسلحين، لكن الإعلام المصري قام بتحويله إلى أسطورة مرعبة ليختلق معركة وهمية حوله ويصنع انتصارا وهميا ينقذ النظام من مأزقه، وهو الاحتمال الأرجح، نظرا لأن هذا هو النسق الذي يتحرك فيه النظام دائما، وسيتكرر هذا النسق في حوادث لاحقة أيضا.
المفارقة الأكبر تتمثل في أن تلك المعركة الملحمية التي كانت الأذرع الإعلامية تحاول إقناع الشعب المصري بها لم تؤد في النهاية إلى عودة أقباط العريش إلى بيوتهم مرة أخرى، وبقيت المشكلة على حالها وطواها النسيان بعد الحديث عن اقتحام الجبل وكأن شيئا لم يكن، وهو أبلغ دليل على أن شيئا لم يحدث أصلا، وأن الجماعات المسلحة ما زالت تشكل تهديدا حقيقيا لحياة أقباط العريش، للدرجة التي تستلزم بقاءهم بعيدا عن المدينة، وهو ما ينسف كل ادعاءات النظام وأذرعه الإعلامية.
ليبيا مرة ثانية
جاء مشهد الضربة الجوية المصرية لدرنة في 26 مايو/أيار الماضي، شبه مطابق للمشهد الأول في فبراير 2015 من حيث الأسباب والخلفيات والأوضاع العامة، فقد وجه السيسي ضربته لليبيا هذه المرة على خلفية مقتل 29 من أقباط محافظة المنيا في عملية إرهابية بعد استهداف حافلاتهم التي كانت متوجهة إلى دير الأنبا صموئيل. وهو نفس مبرر الغارة الأولى قبل عامين، كما تم توجيه الضربة إلى نفس المكان، لكن المفارقة أن المدينة تخضع لسيطرة "مجلس شورى مجاهدي درنة" الذي تمكن من طرد جميع مقاتلي داعش قبل أشهر عديدة من العملية الأولى، ولا يرتبط المجلس بأي علاقة من أي نوع مع تنظيم داعش المسؤول عن مذبحة المنيا، كما تخضع المدينة لحصار من قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر منذ أغسطس/آب الماضي، الذي تدعمه مصر والإمارات في محاولته السيطرة على كامل الأراضي الليبية بقوة السلاح، وهو ما اعتبره مجلس شورى مجاهدي درنة محاولة من السيسي لمساعدة حفتر في حصاره للمدينة، رغم أن قوات حفتر نفسها هي من فتحت لتنظيم داعش طريق الهروب في كل من درنة وسرت، وفقا لما قاله المجلس في بيانه.
أما السمة الأخيرة والأبرز التي تجمع هذه الغارة بالوقائع السابقة، فهي الأكاذيب الإعلامية التي رافقتها وحاولت المبالغة في حجم الضربة وتأثيرها، فقد زعم النظام وأذرعه الإعلامية أن الغارات أسفرت عن تدمير المركز الرئيسي لمجلس شورى مجاهدي درنة، لكن المجلس نفى أن تكون أيا من مواقعه قد تعرضت للإصابة، وقال إن القصف استهدف مناطق آهلة بالسكان المدنيين. كما أعلنت الأذرع الإعلامية للنظام المصري مقتل "أبو طلحة" الذي قالت إنه أبرز قيادات تنظيم القاعدة في ليبيا، رغم أن الإعلام المصري بنفسه كان قد تناقل خبر مقتل أبو طلحة قبل ذلك بـ7 أشهر، وتحديدا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 نتيجة غارات جوية قيل إنها مجهولة الهوية، بل إن مصدرا استخباريا مصريا تحدث مع رويترز قائلا إن "الأسماء ليست مهمة" وأن الجميع إرهابيون، وأن من قاموا بعملية المنيا ليسوا بالضرورة موجودين في هذه المعسكرات لكنهم من مؤيديهم، أي أن النظام لم يهتم أبدا بملاحقة المسؤولين الحقيقيين عن جريمة المنيا وبحث عن إجراء يحفظ به ماء وجهه لا غير.
والمحصلة أن النظام استغل كالعادة حادثا داخليا يعكس فشله، عبر افتعال معركة خارجية وهمية لامتصاص غضب داخلي وتحقيق أهداف خارجية لا علاقة لها بمحاربة الإرهاب أو الثأر من القتلة الحقيقيين، وكالعادة فشل السيسي في الحصول على دعم إقليمي أو دولي لمغامرته الخارجية الأخيرة، بل وحتى من ليبيا نفسها، إذ استنكر المجلس الرئاسي الليبي لحكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج، القصف الجوي المصري دون تنسيق معه، باعتباره "انتهاكًا لسيادة البلاد" لتبقى تلك المعارك الوهمية أسيرة أهدافها الداخلية فقط.
عودة أخيرة إلى حادث الواحات، إذ إنه من اللافت أن مدينة درنة شهدت غارات مجهولة الهوية بعد أيام من حادثة الواحات، تسببت في مقتل 17 مدنيا، والأغرب أن قوات حفتر نفسها حرصت على نفي أي صلة لها بتلك الغارات، لتبقى مسؤولية مصر عن تلك الغارات احتمالا كبيرا، خاصة أن مصادر مصرية وليبية أكدت أن الغارات مصرية، ويبقى أن سبب عدم إعلان المسؤولية عن تلك الغارة خلافا للغارات السابقة رهن باحتمالين: الأول هو الاكتفاء بعملية تحرير الضابط الحايس وعدم الرغبة في طرح الجدل مرة أخرى حول شرعية التدخل الخارجي في ليبيا، أما الثاني فهو سقوط ضحايا مدنيين أبرياء بينهم أطفال جراء تلك الغارة هذه المرة أيضا، ولذلك يبدو التنصل من إعلان المسؤولية عن الغارة محاولة للهروب من تحمل المسؤولية عن سقوط ضحايا مدنيين. لتبقى ليبيا بكاملها ضحية لمغامرات السيسي ورغباته في صناعة انتصارات وهمية في كل مرة يتعقد فيها وضعه الداخلي حتى لو جاءت على حساب الأبرياء.