استمع إلى الملخص
- **محطات الوقود الوهمية**: يستغل المهربون غياب الرقابة الحكومية لإنشاء محطات وهمية، حيث يتم تهريب الوقود المدعوم بدلاً من بيعه للمواطنين، وكشفت تحقيقات النيابة العامة عن وجود 307 محطات وهمية في الجنوب الغربي.
- **تواطؤ محلي ودولي في تهريب الوقود**: يتم تهريب الوقود من مستودع سبها النفطي إلى مناجم الذهب بتواطؤ محلي ودولي، وأكد تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022 ارتباط الظاهرة بتزوير وثائق والمتاجرة غير المشروعة.
بينما لا يجد أهالي الجنوب الليبي البنزين، ويضطرون إلى شرائه من السوق السوداء بأضعاف ثمنه، يشاهدون عشرات الشاحنات تمر في مناطقهم وتنقل حصصها من الوقود المدعوم متجهة إلى مناجم التنقيب عن الذهب في تشاد والنيجر.
- شقت 13 شاحنة محملة بالوقود طريقها في منطقة صحراوية، بالقرب من حي قصر مسعود بالقطرون جنوبي ليبيا، أمام أعين الأهالي المتعبين بسبب عدم وجود وسيلة للتنقل، إمّا للعمل أو العلاج والدراسة، وغيرها من شؤون الحياة، جراء أزمات الوقود المتكررة في مدن الجنوب الغنية بالنفط.
وبينما يعرف سكان المنطقة خط سير الشاحنات، التي تهرّب حصص منطقتهم من الوقود المدعوم، وأين تتوقف في النهاية، إلا أنهم غير قادرين على منعها من التوجه إلى منطقة آبار المياه جنوب قاعدة اللويغ الجوية بالقرب من الحدود مع تشاد، وفق ما رصده في ديسمبر/كانون الأول الماضي، شاهد العيان سيف هرداة، الناشط في ملتقى الحراك الوطني من أجل ليبيا (تأسس عام 2016 من أجل تحقيق المصالحة وتخفيف معاناة المواطنين)، خلال توجهه من منطقة القطرون إلى تشاد.
انتهى المطاف بست شاحنات في منجم الذهب، المسمى 35 والواقع في منطقة كوري بوغودي شمالي تشاد، بينما توزعت البقية على مناجم أصغر بالقرب منه، حسب هرادة، الذي اعتاد عبور دروب الصحراء بين ليبيا وتشاد ضمن أنشطته في مجال حماية البيئة والدفاع عن حقوق المجموعات الإثنية الموجودة في أقصى الجنوب والمحرومة من الجنسية، موضحاً أن العاملين في منجم 35، أكدوا أن حمولة السيارات الست تكفي أسبوعين من تشغيل آليات الحفر والتنقية ومولدين كهربائيين.
ولأن معظم محطات المحروقات في الجنوب الليبي مغلقة أو لا تبيع الوقود بالسعر الرسمي، تعتمد السوق السوداء المحلية على البنزين المدعوم والمهرب، ومنها يتدفق إلى تشاد والنيجر، وخصوصاً إلى مواقع تعدين الذهب القريبة من الحدود الليبية، بحسب ما يوثقه تقرير: "تهريب الوقود في منطقة الساحل"، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة، في عام 2022.
محطات محروقات على الورق
يستغل المهربون غياب الدولة وعدم مراقبتها لاشتراطات إنشاء محطات المحروقات من أجل نهب الوقود المدعوم والإثراء غير المشروع، إذ تشترك البلديات وشركات توزيع الوقود الحكومية في إصدار التراخيص. وعلى سبيل المثال، يطلب مستودع سبها النفطي شهادة إنشاء المحطة الصادرة عن البلدية لمنح صاحب الترخيص حصته من الوقود، الأمر الذي نتج منه تزويد محطات بيع محروقات بحصتها، رغم أنها لا توجد إلا على الورق، كما يؤكد وائل القصيّر، الذي عمل حتى عام 2020 مديراً لمكتب التفتيش في إدارة الدعم والدوريات بجهاز الحرس البلدي في المنطقة الجنوبية، وتدعم تحقيقات النيابة العامة إفادته، إذ أعلنت في يونيو/حزيران 2022 "حبس مسؤولين بشركة خدمات الطرق السريعة، لاتهامهم بتزويد محطات محروقات بحصتها، رغم علمهم بأن ملاك نقاط التوزيع لا يمارسون المهنة، ويتصرفون في كميات الوقود المسلمة لهم ببيعها في غير تلك المحطات بطريقة أوصلت حصص الوقود إلى المهربين".
307 محطات محروقات وهمية في مناطق جنوب غربي ليبيا
وبلغ عدد محطات الوقود الوهمية 307 محطات في مناطق الجنوب الغربي فقط، من بينها 33 محطة في سبها، و232 محطة في وادي الشاطئ، و24 محطة في أم الأرانب، و18 محطة في القطرون، بحسب بيانات النيابة العامة التي تحركت في إبريل/نيسان 2023 وضبطت محال تخزين المحروقات المُعَدّة للتهريب وأوقفت 21 وافداً (من دول الجوار)؛ وثلاثة مواطنين، وهم في حالة تلبس بحيازة 310 آلاف لتر من مادة البنزين المجهزة للتهريب.
المصدر الأول للتهريب
توزع شركة البريقة لتسويق النفط (حكومية)، الوقود على محطات المحروقات في مختلف أنحاء البلاد عبر أربع شركات تابعة، وهي الرحالة والشرارة ونفط ليبيا وشركة خدمات الطرق السريعة، وتتزود محطات بيع المحروقات في الجنوب بحصتها من مستودع مدينة سبها النفطي، التي يعتبرها تقرير فريق الخبراء المعني بليبيا والصادر في سبتمبر/أيلول 2018، "مصدراً لمعظم عمليات التهريب"، وما يكرس من الظاهرة حالة الانقسام الحكومي، إذ يشكل كل طرف شرقاً وغرباً لجنة رقابية.
وعلى سبيل المثال، اللجنة التي كلفتها حكومة الإنقاذ السابقة في طرابلس في عام 2015 من داخل شركة البريقة وتبرأ منها فرع الشركة في بنغازي، فضلاً عن تشكيل لجان عليا في عام 2019 تتبع كل منها حكومة الوفاق الوطني السابقة وحكومة الشرق في بنغازي، بحسب إفادات الأمين البخاري، عضو لجنة المتابعة التي شكلتها بلدية القطرون (مارست أعمالها بين عامي 2019 و2020)، وعبد العزيز ارحيّم، منسق لجنة أزمة الوقود والغاز بالجنوب الليبي بين عامي 2018 و2021 (مكلفة من الحكومة المؤقتة التابعة لمجلس النواب)، ويؤكد المصدران من واقع عملهم لـ"العربي الجديد" غياب الرقابة على عمل محطات المحروقات وحقيقة وجودها على أرض الواقع من عدمه والكل له من يحميه، كذلك تعكس البيانات الرسمية حالة الفوضى التي تسود القطاع، إذ تعلن شركة البريقة على صفحتها في موقع فيسبوك كميات المحروقات التي تزود بها مستودع سبها النفطي وبقية أماكن التخزين، لكن معد التحقيق لاحظ فجوات بين المعلَن توافره وخطة توزيعه والكمية التي تصل إلى المحطات، إذ أعلنت الشركة في 2 يناير/كانون الثاني 2024، أن رصيد المستودع من البنزين وصل إلى 11 مليون لتر، تكفي 11 يوماً، وخمسة ملايين لتر من الديزل تكفي تسعة أيام، مع إرفاق سبعة بيانات تتضمن الكميات التي ستوزع على محطات المحروقات خلال سبعة أيام، لكن حساب الإجمالي الموزع يظهر سبعة ملايين و460 ألف لتر من البنزين ومليوناً و111 ألفاً من الديزل، ما يعني أن ثلاثة ملايين و540 ألفاً من البنزين وثلاثة ملايين و889 ألفاً من الديزل "غير محددة المصير ولا أحد يعرف أين تذهب"، كما يقول البخاري.
الجهات الفاعلة
تبدأ شاحنات الوقود المهرب رحلاتها من مستودع سبها النفطي إلى منطقة القطرون، ثم تنطلق عبر دروب الصحراء إلى مناجم التنقيب عن الذهب على الشريط الحدودي الجنوبي مع تشاد والنيجر، كما رصد ارحيّم، وتجري العمليات عبر تواطؤ بين مؤسسات محلية وبمشاركة من جهات عابرة للحدود، حسب ما جاء في تقرير ديون المحاسبة (أعلى هيئة رقابية في البلاد) الصادر عن عام 2022، الذي أكد الارتباط بين الظاهرة وتزوير وثائق محطات بيع المحروقات (الوهمية) والمتاجرة غير المشروعة بالوقود المهرب في عدد كبير من مناطق الدولة، وبشكل خاص في الجنوب والمناطق الحدودية.
وبسبب التفاوت الكبير في الأسعار بين الوقود في ليبيا والأسواق المجاورة، يدخل المزيد من المهربين إلى الشبكات الناشطة في المنطقة بحسب تقرير فريق الخبراء المعني في ليبيا، الصادر في الخامس من سبتمبر 2018، والذي لفت إلى العلاقة بين "الشبكات الإجرامية المنخرطة بشكل متزايد في عمليات التهريب والجماعات المسلحة الداعمة، وتحديداً من إثنية التبو المنتشرة في المنطقة الواقعة بين نقطة تفتيش تبعد 17 كيلومتراً إلى الجنوب من سبها والحدود مع النيجر".
ثمانية مليارات دولار قيمة الوقود المستورد خلال عام واحد
وإلى ما سبق، يضيف ارحيّم المزيد من المعلومات التي تأكد منها في أثناء عمله، مشيراً إلى أن تهريب الوقود من ليبيا إلى تشاد والنيجر بدأ منذ عام 2014 على يد مليشيات مسلحة تنتمي إلى قبائل التبو، ولها امتداد عرقي يمكّنها من المرور بسهولة على طول الحدود، وبعدها انتشرت مجموعات التمرد التشادية والنيجرية بين عامي 2017 و2021 لتشرف على عمليات نهب الوقود المدعوم بالتعاون مع المهربين المحليين الذين يحصلون عليه من أصحاب المحطات الوهمية المنتشرة في الجنوب الغربي للبلاد.
لكن آثار الظاهرة توسعت في عام 2018، ولم تعد تقتصر على طوابير طويلة من سيارات الباحثين عن الوقود، والسبب توسع أنشطة البحث عن الذهب في تشاد والنيجر واحتياج أصحاب المناجم للوقود، من أجل تشغيل آلياتهم، ويجري كل هذا تحت أعين الكتيبة 101 مشاة التابعة للواء طارق بن زياد (أقوى الأذرع العسكرية للجنرال المتقاعد خليفة حفتر) التي يقودها أحمد الشامخ، إذ سيطرت على القطرون والحدود مع تشاد والنيجر في مايو/أيار 2022، وكان يمكنها منع عمليات التهريب إذا أرادت، بحسب ارحيّم، الذي قال: "القوات تسيطر على الحدود الليبية مع النيجر وتشاد، ولديها كل الإمكانات لمواجهة المهربين ومنع نهب الوقود المدعوم".
ما سبق يؤكده أهالي القطرون الذين نظموا العديد من الفعاليات الاحتجاجية في محاولة لإنهاء أزمة الوقود غير المتوافر في المحطات، بينما يتوافر في السوق السوداء، وفق ما قاله أربعة مواطنين، من بينهم مينا أبوبكر، الذي يشتري لتر البنزين بسعر خمسة دنانير (1.05 دولار أميركي) بينما قيمة لتر البنزين المدعوم 0.15 دينار (ثلاثة سنتات).
الفاتورة الأكبر على الإطلاق
"بلغت تكلفة الوقود المستورد 42 ملياراً و671 مليون دينار ليبي (ثمانية مليارات و836 مليوناً و786 ألف دولار أميركي) في عام 2022"، بحسب ما جاء في تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022، الذي يحذر من أن توافر الوقود بشكل شبه مجاني، أدى إلى إسراف وتبديد في الداخل ومحاولات تهريب إلى الخارج، خصوصاً أن فاتورة دعم المحروقات تُعَدّ الأكبر على الإطلاق من بين كل نفقات الدولة، إذ وصلت إلى ما قيمته 83 مليار دينار (17.2 مليار دولار يستحوذ توليد الكهرباء على 70% منها)، ومع ذلك "يُحرَم المواطن في عدد من المناطق الجنوبية والحدودية نيلَ حصته من الوقود المدعوم، وأصبح يشتري احتياجاته الأساسية من السوق السوداء التي راجت بسبب استحواذ فئة قليلة على الوقود المخصص لمناطقهم ليثروا على حساب معاناة المواطن.
ويعلق هرادة على المعطيات السابقة، بالقول: "مواقع تجميع الوقود المهرب جاهزة، والمحطات الوهمية مستمرة في نيل حصصها، والانقسام والفوضى وغياب الدولة مستمرة ليبقى الوضع على ما هو عليه".