يحرص الأربعيني الأميركي جون نرسون، والذي يملك شركة لصيانة الطائرات في ولاية بنسلفانيا، على مشاهدة برامج قناة فوكس نيوز المفضلة لدى معتنقي الفكر اليميني والمحافظ، بشكل دائم، كما كان من مستمعي برنامج مذيع الراديو الراحل رش ليمبو؛ أحد أبرز أصوات اليمين تأثيراً في السياسة الأميركية والذي توفي في منتصف فبراير/ شباط الماضي، مشيراً إلى أنه يعتبر ما يشاهده أو يسمعه على تلك الوسائط هو الحقيقة، وقائلاً: "كل ما يقال في الإعلام الليبرالي كذب وتلفيق تقوده مجموعة من اليساريين المثليين ممن لديهم أجندة شيطانية وكل ما حذرت منه قناة فوكس نيوز في حال وصول بايدن إلى الرئاسة أصبح واقعاً خلال أيام فقط من تنصيبه، والقادم أسوأ".
ويكرّر ادعاءات نرسون العديد من مؤيّدي ترامب والذي حصل على 71 مليون صوت في الانتخابات الأخيرة، ما يعد علامة على تعزز مكانة الخطاب الإعلامي اليميني المروج عبر وسائط متنوّعة خلال السنوات الأربع الأخيرة بشكل غير مسبوق، كما يقول المدير التنفيذي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن، خليل جهشان، لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى اعتماد وسائط الإعلام اليميني الأقل حجماً وانتشاراً على ما تبثه وسائط مثل واشنطن تايمز وشبكة فوكس نيوز، إذ تعيد تدوير ما تنشره فيما يزيد عن 200 وسيلة إعلام محلية، وهو ما يؤيّده كريستوفر سترلينغ أستاذ الإعلام والعلاقات العامة بجامعة جورج واشنطن، موضحاً أن فوكس نيوز تنقل محتواها العديد من المواقع الإلكترونية والمحطات الإذاعية اليمينية والتي تسير على دربها وتتبع سياستها التحريرية بل وتزايد عليها.
خطاب الإعلام اليميني
"يتسم الإعلام الأميركي بغلبة إعلام الرأي حاليّاً على إعلام الخبر أو الوقائع، أو إعلام الاستقصاء؛ الذي اشتهرت به الصحافة الأميركية في الستينيات والسبعينيات، عندما كانت تُشكِّل قوة النقد الرئيسة في وجه المؤسسات السياسية، وفق ما رصده الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، عبر دراسة "الإسلام والمسلمون في الإعلام الأميركي: الصورة النمطية والمُتخيَّل الراهن" الصادرة في فبراير/ شباط 2016، والتي لفتت إلى أن الخطّ التحريري لقناة فوكس نيوز منذ تأسيسها قبل عشرين عاماً عمل على خدمة الفكر اليميني وتعزيز دور المحافظين الجدد؛ ولا يُخْفِي أغلب مذيعي ومُحلِّلي القناة مُيولَهم إلى التشكيك في "النوايا المبيّتة" لدى المسلمين، والتلويح بوجود قرينة قوية بين التعصُّب والإرهاب والإسلام، ويستندون في ذلك إلى نظرية "صراع الحضارات"؛ التي جعلت من فكرة صمويل هانتنغتون منذ 1993 نسقاً ملائماً للدفاع عن خطاب اليمين المتشدِّد ضدَّ المهاجرين والأقليات والمسلمين؛ وذلك للردِّ على "قناعتهم" بنشوب حروب ثقافية ودينية يتعيَّن كسبها باستخدام القوة وإلغاء الآخر وتعزيز مركزية الحضارة الغربية كمحور ثقافي وحضاري عالمي".
يبث معلنون على شبكة فوكس نيوز إعلاناتهم على وسائط الإعلام المتطرفة
وتقتنع نسبة كبيرة من المحافظين بأن وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية تقع تحت سيطرة اليسار وتروج لأفكاره، في مقابل ذلك يبحث هؤلاء عن خطاب الإعلام اليميني المحمل بخلطة من القيم الدينية والاجتماعية المحافظة كما يقول علي آل أحمد مؤسس ومدير معهد شؤون الخليج في واشنطن، لافتاً في إفادته لـ"العربي الجديد" إلى أن الأمر لا يقتصر على فوكس نيوز ولكن توجد وسائط يمينية أكثر تطرفاً، مثل شبكة One America news التي أسسها روبرت هيرنج عام 2013، ونيوز ماكس التي أسسها كريستوفر رودي حليف ترامب والعديد من محطات الراديو اليمينية التي تنتشر في الريف والمدن الصغيرة وتروج لفكر اليمين المتطرف عبر برامج حوارية طويلة تمتد من أربع الى خمس ساعات، بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية مثل "انفو وورز" والذي يروج لنظرية المؤامرة، ويستهدف الشباب بشكل أساسي ويصل جمهور متابعيه إلى نحو 6 ملايين؛ وكذلك "بريتبارت" والذي سبق أن رأسه قطب اليمين المتطرف ومستشار ترامب ستيف بانون، و"درادج ريبورت" والذي يعد مصدراً أساسياً لمتابعيه، إذ يجمع مواد من بين مصادر يمينية متعددة.
ويستهدف الخطاب اليميني المتطرف المهاجرين، ومن بينهم المسلمون بشكل أساسي، كما يقول الطبيب الأميركي من أصل ليبي، عصام عميش، والذي عانى بعد صدور قرار تيم كين حاكم ولاية فيرجينيا، بتعيينه عضواً في لجنة الهجرة بالولاية ضمن 20 شخصية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي عام 2007، إذ شنّت قناة فوكس نيوز حملة ضده وركزت على تصريح إعلامي عن رأيه في الصراع العربي "الإسرائيلي"، بعدما أثار أحد أعضاء اللجنة، المنتمي إلى تيار اليمين المتغوّل في الحزب الجمهوري الأمر، كما يقول، مضيفاً: "تلقفت القناة ما قلته وأثارته عبر عدة برامج، مثل هانتيز أميركا Hannity’s America، ما اضطر حاكم الولاية للاعتذار والتصريح بأنه لم يبحث جيداً في خلفيتي السياسية قبل تعييني في لجنة الهجرة واستقلت بعدها مباشرة"، مضيفاً: "هاجرت إلى أميركا منذ أكثر من 40 عاماً وأعلم عن مواضيع الهجرة أكثر مما يعرفه الأميركيون بالمولد، لكن رأيي السياسي شكّل أداة استخدمها إعلام اليمين لإطاحتي من لجنة غير سياسية".
جمهور الإعلام اليميني يبحث عن عالم خاص تخلقه الوسائط المتطرفة
ويفسر الدكتور هاني البواردي أستاذ التاريخ والدراسات العربية بجامعة ميشغين تزايد عدد جمهور الإعلام اليميني المتطرف بأن هؤلاء لا يكترثون بالمهنية أو المصداقية والحقائق، بل يبحثون عن عالم خاص تخلقه لهم وسائل الإعلام اليمينية، وهو ما تتفق معه سحر خميس أستاذة الإعلام بجامعة ميريلاند والتي قالت لـ"العربي الجديد": "لا يقتصر الأمر على غياب المهنية فقط بل وصل إلى نشر الشائعات والأكاذيب والتي تبثها وسائط الإعلام اليمينية المتطرفة"، وهو ما رصده ديفيد أرمايك مدير البحث بمركز الإعلام والديموقراطية (CMD)، والذي قال إن الانتخابات الأخيرة وما حدث فيها من استقطاب كشف أن الإعلام اليميني أحد أقوى مصادر الإشاعات المروجة عبر المتعاطفين، ما أدى إلى وصول تأثيره وخطابه للعديد من الأميركيين.
ابحث عن المموّل
يبث معلنون على شبكة فوكس نيوز إعلاناتهم على وسائط الإعلام المتطرفة ويعد هؤلاء من أبرز مؤيدي الحزب الجمهوري، وتحديداً التيار اليميني المحافظ، بحسب البروفيسور سترلينغ، ومن أبرز هؤلاء رجل الأعمال مايكل جيمس ليندل المعروف في الولايات المتحدة الأمريكية بـ "My Pillow Guy" أو رجل المخدة؛ نسبة لاستثماره في مجال المفروشات، وكذلك البليونير والدبلوماسي روبرت وودي جونسن، وشيلدن غراي أدلسون والذي توفي في الحادي عشر من يناير/ كانون الثاني الماضي وتشارلز كوخ الذي يعد أحد أبرز داعمي قناة فوكس نيوز، ومنظمة "The Bradley Foundation"، إضافة إلى البليونير ريتشارد يوهلين وكذلك رجل الأعمال فوستر ستيفان فرايس، ومؤسسة "Searle Freedom Trust" التي تعد من بين أكبر الممولين لحركة إنكار وجود التغيير المناخي، وهي وجهة النظر التي يتبناها خطاب اليمين المروج لأن التغير المناخي تطور طبيعي لكوكب الأرض ولا دخل للتلوث فيه.
نوعية الجمهور
لن يتوقف تأثير الإعلام اليميني المتزايد في السياسة الأميركية، بحسب آل أحمد، إذ صار يلعب دوراً مهماً ومتقدماً في تشكيل وصناعة الرأي العام الأميركي، وخصوصاً في الأرياف والمدن الصغيرة، أي مناطق وصول وتأثير خطابه كما يقول. ويتغلغل خطاب الإعلام اليميني بين فئة تعاني من مصاعب اقتصادية ومستواها التعليمي قليل، ويمكن وصف الجمهور هذا بمختلف شرائحه بأنه مبني على الخوف، كما يقول البروفيسور سترلينغ، مضيفاً: "يريدون العودة بأي ثمن إلى ما كانت عليه الولايات المتحدة الأميركية قبل خمس وسبعين سنة، أي أغلبية بيضاء متحكمة ومهيمنة على القرار".
ومنذ اليوم الأول لحكم ترامب، انحازت الإدارة الأميركية السابقة للإعلام اليميني، وفضّل ترامب التحدث لفوكس نيوز بشكل متكرر، كما يوضح الدكتور جهشان، قائلاً: "كلف الإعلام اليميني مصداقية الصناعة ثمناً باهظاً، وهو ما يبدو في أن شريحة تتعدى 70 مليوناً من الشعب الأميركي تعتقد أن الإعلام كان منحازاً وبوقاً دعائياً وليس أداة ديموقراطية تعكس الحقيقة التي كانت الضحية الأولى في الصراع".
وتطور الأمر حتى روجت هذه الوسائط تحريض ترامب لأنصاره بوقف إجراءات التصديق على فوز جو بايدن فِي الجلسة الخاصة التي كانت تجرى داخل الكونغرس يوم 6 يناير/ كانون الثاني الماضي، كما قال جهشان مضيفاً أن الأنظمة الديمقراطية التي كانت تعتقد بأنها محصنة ضد الفاشية والسلطوية تم التلاعب بها عبر هذه الوسائط، وهو ما تراه سحر خميس علامة على علاقة وثيقة بين ظاهرة الشعبوية المتصاعدة ووصول خطاب الإعلام اليميني المرتكز على العنصرية ونظرية المؤامرة إلى المزيد من الجماهير، وتضيف: "يزكي السياسي الشعبوي وسائط الإعلام اليميني المتطرف، كل منهما يساعد الآخر ويدعمه، ويروج لخطاب الآخر ويمنحه تفاعلاً يزيد من نفاذه ووصوله"، الأمر الذي يؤكده البروفسيور سترلينغ، مشيراً إلى شحن دائم عبر القنوات ووسائط الإعلام اليمينية المختلفة لأنصار ترامب المهيّأين للاقتناع وترويج نظريات تزوير الانتخابات، ما أدى في النهاية إلى مشهد اقتحام الكونغرس.