تحقيق العمليات1
13 مارس 2022
+ الخط -

يكشف التحقيق عن افتقار القطاع الطبي لقواعد وبروتوكولات معلنة تتعلق بالخدمات الطبية ومن بينها العمليات الجراحية، ما تسبب في تجاوزات وفوضى داخل غرف عمليات، تؤدي إلى مضاعفات تصل حد وفاة المرضى في مشاف خاصة بالأردن.

- فقدت الأردنية تغريد أبو عمرة جنينها بسبب انفجار في الرحم داخل مشفى خاص للولادة، في جرش شمال غرب المملكة، يحتفظ "العربي الجديد" باسمه، بتاريخ 5 إبريل/نيسان 2017، إذ دخلت للولادة الطبيعية، لكن الطبيبة المشرفة على حالتها لم تكن موجودة، بل كانت تعطي تعليماتها هاتفيا للقابلات، ثم حضرت بعد أن ساءت الحالة واحتاجت لعملية قيصرية طارئة، ونظرا لعدم تواجد طبيب تخدير في المشفى، اضطر الزوج لنقلها بسيارته لعدم توفر سائق سيارة إسعاف أيضا، وحين وصلت إلى المشفى الثاني كان الرحم قد انفجر وتوفي الجنين ووصلت نسبة الهيموغلوبين إلى 8.5 بسبب النزيف، وفق ما جاء في ملف القضية الصلحية الجزائية رقم 2017/ 2767 المنشورة على موقع قسطاس (محرك بحث قانوني)، والذي يبين أن عدم وجود الطبيبة بجانبها أعاق رصد العمليات الحيوية وإجراء عملية عاجلة، وأنه كان يتوجب على المشفى توفير طبيب تخدير على مدار الساعة وتحت الطلب.

وبسبب التقصير في تقديم الرعاية الطبية اللازمة نتيجة عدم وجود كادر طبي مؤهل في غرفة العمليات قررت محكمة صلح جزاء جرش إلزام المدعى عليهما (الطبيبة والمشفى) بالحق الشخصي بدفع مبلغ 13000 دينار أردني (9200 دولار أميركي)، تعويضا للأسرة عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بها بحسب ملف القضية.

وتعكس قضية تغريد جانبا من تجاوزات متعلقة باستخدام غرف العمليات في مشاف خاصة بالأردن، مردها عدم وجود التجهيزات اللازمة، أو كوادر طبية مؤهلة أو حدوث تجاوزات كالسماح لأطباء غير متخصصين بإجراء عمليات جراحية، كما يوثق التحقيق، وهو ما يؤكده نائب رئيس نقابة الأطباء الأردنيين ورئيس مجلس التأديب الدكتور محمد رسول الطراونة، والذي يلخص الإشكاليات المتعلقة باستخدام غرف العمليات، وأهمها افتقارها إلى المعدات الطبية الأساسية، مثل توفير أجهزة التنفس الاصطناعي ووحدات دم إضافية وأطباء تخدير وإنعاش، وكوادر طبية مساندة واتخاذ الإجراءات الطبية الاستباقية كالفحوصات والصور الإشعاعية لتشخيص المريض بالشكل الصحيح واتخاذ الإجراء الطبي الملائم.

الافتقار إلى بروتوكول وطني

يكشف مستشار وأخصائي الطب الشرعي والعضو المستقيل من اللجنة الفنية العليا للأخطاء الطبية الدكتور مؤمن الحديدي أن لجنة المعايير الطبية والصحية والتي يجب على وزير الصحة أن يشكلها لاعتماد القواعد المهنية الواجب اتباعها من مقدم الخدمة وإجراءات تقديمها، والوصف الوظيفي والقواعد السلوكية للعاملين في الأماكن المعدة لتقديم الخدمة كل 3 سنوات لم تجتمع منذ إقرار قانون المسؤولية الطبية والصحية رقم 25 عام 2018 وحتى الآن، بالتالي يفتقر القطاع الطبي لأي قواعد وبروتوكولات معلنة تتعلق بالخدمات الطبية ومن بينها العمليات الجراحية.

وفي ردها المكتوب الذي وصل "العربي الجديد" في الثالث من مارس/آذار 2022، تقرّ وزارة الصحة الأردنية أن الشروط والتعليمات الخاصة بغرف العمليات لم تصدر حتى الآن.

ما سبق تؤكده الناطقة باسم مجلس اعتماد المؤسسات الصحية، أمل الفاعوري، محذرة من عدم وجود بروتوكول وطني منفصل لاستخدام غرف العمليات، مضيفة أن وزارة الصحة تواجه العديد من الضغوطات في هذا الملف باعتبارها مقدم خدمة في القطاع العام ورقيبا على القطاع الخاص، وهو ما يخلق حالة من عدم التوازن ويضع عملها في مواجهة مع المؤسسات الصحية ومتلقي الخدمة.

يفقد مرضى حياتهم في غرف عمليات غير مهيأة بمشاف خاصة

ويُجري الأطباء الذين يعملون في القطاع الخاص العمليات الجراحية لمرضاهم في مشاف خاصة بموجب اتفاق بين الطرفين، إذ تثبت تجارب 10 مرضى يوثقها التحقيق أن الاتفاق على ترتيبات العملية وتكاليفها وموعدها يتم في عيادة الطبيب الخاصة، ويتولى الطبيب أمر التنسيق مع المشفى بشأن العملية المزمع إجراؤها، كما يقرر التكلفة أيضا ويتكفل القسم المالي في المشفى باستلام المبلغ من المريض أو ذويه قبل العملية.

ويؤكد الطراونة أن النظام المتبع يتيح "لمشاف خاصة أن تتعاون مع أطباء لإجراء عمليات في غرف غير مهيأة أو خارج اختصاص الطبيب، ورغم قلة عددها إلا أنها حالات مثبتة وموجودة إذ نظرت النقابة عام 2020 في 4 قضايا على الأقل من هذا النوع".

ويعد حصر المخالفات التي تجري في غرف العمليات أمرا بالغ الصعوبة بحسب رئيس لجنة ضبط المهنة والشكاوى في نقابة الأطباء الأردنيين الدكتور محمد البربراوي، نظرا لتعدد الجهات التي تستقبل الشكاوى وتنظر فيها وهي وزارة الصحة ونقابة الأطباء والمحاكم، مشيرا إلى تلقي النقابة 640 شكوى خلال النصف الثاني من العام 2020 ولغاية 15 حزيران/يونيو 2021، منها 313 شكوى فنية و251 مهنية، و76 كانت في إطار الأتعاب والأجور.

ولا تزال اللجنة تنظر في 283 شكوى مختلفة الاختصاص، وتم إغلاق مشفيين خلال عامي 2019 و2020، لمخالفتهما التعليمات، ومنعت مشاف خاصة أطباء من إجراء عمليات فيها لوجود مخالفات طبية بحقهم ترتبط بالاختصاص والوصف الوظيفي، بحسب البربراوي.

ويبلغ العدد الإجمالي للمشافي في المملكة 118 مستشفى، من بينها 69 خاصة، و32 مشفى يتبع لوزارة الصحة، ويبلغ عدد مشافي الخدمات الطبية الملكية (عسكرية) 15 مؤسسة، بالإضافة إلى مشفى الجامعة الأردنية ومشفى الملك عبدالله المؤسس، وجميعها تخضع لرقابة الوزارة، بحسب التقرير الإحصائي السنوي الصادر عن وزارة الصحة في عام 2020.

وتربط رئيس قسم ضبط الجودة في المشفى الاستشاري بعمان، مرام أبو الهيجا، التزام المشافي بتوفير متطلبات غرف العمليات وإجراءات اعتماد الأطباء المسموح لهم باستخدام غرف العمليات، بـ"مدى حرص المستشفى على سمعته"، موضحة أن الإجراءات المتبعة من قبلهم تقوم على طلب شهادة البكالوريوس وشهادات الاختصاص واعتماد المجلس الطبي، وتسجيل نقابة الأطباء وترخيص مزاولة المهنة ليتم إرسال هذه الوثائق للجامعة الأم، وبقية الجهات المعنية للتعرف على الطبيب قبل اعتماده ومباشرته إجراء العمليات في المشفى، وفي حال عدم توافر الشروط المطلوبة أو عدم قبول أي من هذه الجهات للوثائق المقدمة، يتم الاعتذار إلى الطبيب ورفض اعتماده، مشيرة إلى وجود تجاوزات في هذا السياق من قبل بعض المشافي استناداً لتجربتها العملية في هذا المجال.

تجاوزات في غرف العمليات

يكشف 10 أطباء عاملين في مشاف خاصة قابلتهم معدة التحقيق، عن أبرز التجاوزات المتعلقة بغرف العمليات كعدم الالتزام بالدرجات العلمية والاختصاص، وتصنيف المشافي وقدرتها على استقبال الحالات المرضية وإجراء الجراحات فيها، وإجراء أطباء عامّين أو مقيمين لعمليات دون وجود الطبيب الرئيس وأطباء اختصاص، ومن ذلك ما يوثقه التحقيق عبر قضية منشورة على موقع قسطاس تبين قيام طبيب بإجراء عملية تكبير وتجميل صدر غير ناجحة نتج عنها مضاعفات ومشاكل في الجهة اليسرى وتشوه يصعب إصلاحه، وثبت للمحكمة بأن الطبيب لم يكن وقت العملية حاصلا على شهادة المجلس الطبي الأردني لجراحة التجميل والترميم، وأنه لا يزال تحت التدريب وفي هذه الحالة يجب ألا تتم العملية بدون طبيب مشرف، لكن ذلك لم يحدث، كما أن العملية جرت في مشفى خاص تحتفظ "العربي الجديد" باسمه، غير معترف به من المجلس الطبي للتدريب، وفق ما جاء في ملف القضية رقم 9168 لعام 2013.

ويتحايل بعض الأطباء على القانون عبر حجز غرفة عمليات بمشفى خاص بناء على شهاداته المعتمدة من المشفى ووزارة الصحة والمجلس الطبي، لكنه يستخدم أطباء من الحاصلين على شهادات التخصصات العامة أو مقيمين وحتى ممرضين من غير الحاصلين على تصرح مزاولة المهنة على أن يتولوا إجراء العمليات بترتيب مسبق مع هذه المشافي من أجل تقليل التكلفة المالية، كما يقول طبيب طلب عدم الكشف عن اسمه، لعدم سماح إدارة مشفاه له بالتواصل مع الإعلام.

ويقرّ رئيس جمعية المشافي الخاصة الدكتور فوزي الحموري بوجود بعض المخالفات، لكنه ينفي وجود ما يطلق عليه "تجارة في إجراء العمليات الجراحية أو أي إجراء طبي آخر"، مؤكدا أن عددا قليلا من الشكاوى يرد للجمعية وغالبيتها تتعلق بفواتير العلاج، كون الوزارة هي المسؤولة عن مراقبة المشافي والتفتيش عليها، بينما تتولى نقابة الأطباء النظر في الشكاوى المتعلقة بالأطباء.

لكن الدكتور أمين المعايطة، رئيس دائرة تراخيص المهن في وزارة الصحة يؤكد أن عدم وجود بروتوكول وطني يخلق تباينا في ضبط استخدام غرف العمليات لكن ما تُعنى به وزارة الصحة هو منح تراخيص لمزاولة المهنة، وتراخيص لممارسي المهن الطبية أيضاً وفقا للأنظمة الضابطة للأمر، مضيفا أن قلة عدد المفتشين في دائرة تراخيص المهن والذين لا يزيد عددهم على 5 في عمان على سبيل المثال يُضعف من الدور الرقابي لوزارة الصحة.

انتهاك حقوق المرضى

تؤدي عدم جاهزية غرف العمليات بخاصة في المشافي الخاصة الصغيرة وغير المهيأة لاستقبال العمليات الكبرى، إلى إشكاليات فنية وقانونية، بحسب البربراوي، والذي توصل من خلال رئاسته للجنة التي شكلها وزير الصحة الأسبق الدكتور سعد جابر بعد حل مجلس النقابة في مايو/أيار 2020، إلى أن انتهاك حقوق المريض بعدم الالتزام بالتخصصات الطبية والدرجات العلمية الخاصة بالطبيب الذي يجري العملية منتشر أكثر في العمليات التجميلية والنسائية.

ومن بين ضحايا تلك الأخطاء، الثلاثينية ماريان الساحوري والتي فقدت حياتها عام 2017 داخل غرفة العمليات في مشفى خاص بالعاصمة يحتفظ "العربي الجديد" باسمه، تحت يدي طبيب متخصص بترميم الحروق والتجميل، بحسب شقيق ماريان المحامي طارق الساحوري والذي رفع قضية على الطبيب وما زالت منظورة أمام القضاء، لتسببه بوفاتها جراء سلسلة من العمليات أجراها لها متذرعا بأنه فعل ذلك "تماشيا مع رغبتها"، ويبين تقرير الطب الشرعي الذي حصل عليه "العربي الجديد" أن الجراح أشار في تقرير دخول المشفى إلى أن المريضة ستجري تقييما جراحيا للثديين وشفط دهون، لكن التشريح أثبت وجود أكثر من تداخل جراحي، أحدها على المعدة (عملية تكميم معدة)، وبعد 9 ساعات ونصف من العملية ارتفع في دمها ثاني أكسيد الكربون وارتفعت درجة حرارتها، وحصلت لديها انقباضات عضلية وهبوط حاد في ضغط الدم ثم توقف قلبيّ أدى إلى وفاتها.

ويروي الساحوري لـ"العربي الجديد" أن الطبيب أخبره خلال محاولات إنعاش شقيقته أنها بحاجة لنقلها إلى مشفى آخر "كون هذا المشفى غير مهيأ لرعاية حالتها"، لكن لم يمض سوى نصف ساعة حتى توفيت، مبيناً أن الطبيب لم يكن محتاطاً بوحدات دم كافية والمشفى لم يمتلك وحدات دم.

الصورة
نقابة الأطباء

تقصير رقابي

يتراوح معدل الوفيات المبلغ عنه بعد العمليات الجراحية الكبرى بين 0.5 وحتى 5%، بينما تحدث مضاعفات لـ 25% من الأشخاص في الدول الصناعية، بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، في حين قالت وزارة الصحة الأردنية أن بيانات معدلات الوفيات المرتبطة بالعمليات الجراحية غير متوفرة.

وتحدد 6 مؤشرات قوة النظام الجراحي في أي بلد، على رأسها الحصول على الجراحة الأساسية في الوقت المناسب مثل القيصرية والعمليات الباطنية والكسور المفتوحة، وقوة العمل الجراحي المتخصص ويشمل ذلك عدد اختصاصيي الجراحة والتخدير والولادة، وعدد الإجراءات أو العمليات الجراحية التي تجرى في غرفة العمليات لكل 100.000 نسمة سنويا في كل بلد، بالإضافة إلى النفقات الكارثية للحصول على الرعاية الجراحية، ومعدل الوفيات المرتبطة بالعمليات الجراحية، بحسب ما جاء في مقال منشور على موقع البنك الدولي، بعنوان "قياس الأنظمة الجراحية: نموذج جديد لتعزيز الأنظمة الصحية".

معدل الوفيات بعد العمليات الجراحية الكبرى بين 0.5 و5% في الدول الصناعية

ويعزو الحديدي، التجاوزات الحاصلة في الرعاية الجراحية إلى تقصير رقابي من وزارة الصحة، وعدم وجود بروتوكولات تحدد أسس استخدامها، وينتج عن ذلك أخطاء طبية تصل حدّ الموت، وهو ما يثبته تحقيق "العربي الجديد" عبر 10 حالات يوثقها، ومن بينهم الأردني ثائر تيسير القيسي، والذي توفي بعد إجراء عملية ربط معدة في مشفى خاص في عمّان يحتفظ "العربي الجديد" باسمه، في 18 مايو/أيار 2005، وتشكلت القضية التحقيقية لدى مدعي عام عمان رقم 3139/2005، من قبل ورثة القيسي، وأصدرت محكمة بداية الجزاء قرارها رقم 2015/1577 المتضمن إلزام المدعى عليهما بالحق الشخصي وهما الطبيب الذي أجرى العملية والمشفى، وأدين الطرفان لما أثبتته البينات من توافر عناصر المسؤولية التقصيرية، وأن الطبيب كان يعمل تحت إشراف المشفى وضمن كوادره، وفق المادتين 256 و267 من القانون المدني، إذ ذهب القيسي إلى عيادة الطبيب الذي أبلغه أن عملية ربط المعدة ممكنة على الرغم من كونه مريض سكري، لكن بمجرد خروج القيسي من غرفة العمليات التي مكث فيها 8 ساعات وفق رواية شقيقه، كانت علاماته الحيوية غير مطمئنة، ولم يزره الطبيب الذي أجرى له العملية سوى مرة في صباح اليوم التالي ورغم وضعه الصحي لم يطلب عمل فحوصات دم ولم يكتشف أن لديه نزيفا في المعدة أدى لوفاته، في حين قال الطبيب المناوب والذي تفقد القيسي ليلا لشقيقه الذي رافقه، أن الطبيب الجراح لم يورد في ملفه أي معلومة تتعلق بأن لديه سكري، بحسب ما جاء في ملف القضية.