صار الأربعيني الغزي محمود عبد الرحمن خبيرا في ما يجب اقتناؤه من مواد غذائية لدى اندلاع الحروب التي تشنها دولة الاحتلال على القطاع المحاصر، إذ عاصر 5 منها منذ عام 2008 وحتى أكتوبر الجاري، وما أن هدأت الأوضاع قليلا حتى توجه ظهيرة الاثنين إلى سوق جباليا المركزي من أجل شراء العدس والطحين والأرز والسكر والزيت ومنتجات الألبان والمعلبات، غير أنه فجأة سمع دويا هائلا ورأى لهيباً متوهجاً، ومن بعدها لم يشعر بشيء كما يقول.
يرقد عبد الرحمن في مشفى الشفاء بغزة إذ يعاني من إصابات شديدة في قدميه، ويروي لـ"العربي الجديد" تفاصيل استهداف السوق المزدحم قائلا: "احتمينا ببيوتنا 15 ساعة منذ فجر الاثنين، إذ نفّذت الطائرات عشرات الغارات في محيط المنطقة، وعقب فترة قليلة من الهدوء أسرعت وجيراني إلى السوق في محاولة للتزود بالمواد الغذائية اللازمة للأسرة المكونة من 5 أفراد".
في البداية كان السوق المقام وسط البلدة "مفترق الترنس" خالياً، وبعد وقت قصير وصل باعة يجرون عربات كارو متنقلة، وزاد عدد المتسوقين، وما هي إلا لحظات حتى دوت انفجارات كبيرة، شعر عبد الرحمن بعدها بنيران تندفع في كل مكان، وخيمت سحابة دخان كثيفة على السوق بينما تبدلت نداءات الباعة بأصوات صراخ وأنين الجرحى ومناشدات لطلب سيارات الإسعاف.
تتطابق شهادة عبدالرحمن مع ثلاثة جرحى آخرين، من بينهم شاهد العيان العشريني أحمد حسين، والذي قال إن في كل ركن وزاوية في السوق جثة أو جريح، والعشرات كانوا تحت الركام، موضحاً أنه لاحظ قبل القصف بدقائق تحليقاً مكثفاً للطائرات الاستطلاعية الإسرائيلية فوق السوق مباشرة، إذ سمع الجميع صوتها بشكل جلي، ويبدو أنها كانت ترصد تجمع الناس قبل القصف، لترشد الطائرات أين تسقط قنابلها.
ويعد مخيم جباليا أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، وأُنشئ عام 1948 ويقع إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، بالقرب من قرية تحمل الاسم ذاته، ويعد من أكبر مخيمات القطاع؛ إذ يبلغ تعداد سكانه حسب تقديرات جهاز الإحصاء المركزي منتصف عام 2023 نحو 59574 لاجئاً.
وبدأت الغارة عبر إطلاق عدد من الصواريخ والقنابل الكبيرة استهدفت عمارتين سكنيتين والشارع الرئيسي وسط السوق، ما تسبب بسقوط 50 شهيداً، و250 مصاباً من بين إجمالي 830 شهيدا و4250 مصابا، وفق ما أكدته وزارة الصحة مساء 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ويقول خمسة من شهود العيان، من بينهم الصحافي خليل الشيخ، والذي يقطن في بلدة جباليا أن القصف تسبب باندلاع حريق وانهيار بنايات، وتناثر الشهداء على مساحة السوق.
ويقول الشيخ إن المنطقة التي تضم مخيما وبلدة، تعتبر من أشد مناطق القطاع كثافة وتبلغ مساحتها 20 كيلومترا مربعا ويسكنها 260 ألف نسمة، ومنطقة "الترنس"، التي يقع فيها السوق تعتبر مركز جباليا الرئيسي.
أطنان من المتفجرات
أسقطت الطائرات الإسرائيلية 5 قنابل كبيرة، من نوع MK، أميركية الصنع، وفق إفادة مصدر مسؤول في شرطة هندسة المتفجرات بقطاع غزة، رفض ذكر اسمه بسبب حساسية الوضع الأمني خلال الفترة الحالية.
وتعد قنبلة مارك متعددة الأغراض حرة الإسقاط غير موجَهة، وتُصنع بأوزان مختلفة تبدأ من 150 كيلوغرامًا حتى نحو طن، وأكثرها شيوعاً، تزن القنبلة 500 رطل (241 كغم) منها 89 كغم وزن المادة المتفجرة وهي حشوة متفجرة شديدة الانفجار، واستهدفت القنابل في منطقة صغيرة جدا ومحاطة ببنايات ومنازل عالية، ما تسبب في انحباس الضغط والحرارة في قلب السوق، مع تناثر آلاف الشظايا مختلفة الأحجام في كل مكان، ونجم تهتك وانفصال في بعض الأجساد كما يقول المصدر.
يعد مخيم جباليا أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة
وفي أغلب المناطق التي استهدفت ومنها سوق جباليا، كانت هناك مبالغة كبيرة في استخدام المتفجرات وهو ما يميز الحرب الدائرة هذه المرة وأسفر عن تدمير الهدف المقصود (المنازل)، وإحداث دمار كبير جدا في محيطه، موضحا أن بعض المنازل التي جرى قصفها، دُمر في محيطها 12 بناء، وهناك مربعات سكنية كاملة مُسحت، كما حدث في مخيم يبنا بمحافظة رفح، جنوب قطاع غزة، التي استشهد فيها 24 مواطنا، نصفهم من النساء والأطفال.
ويصف رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، سلامة معروف، ما وقع في جباليا بـ"مجزرة مع سبق الإصرار والترصد"، إذ تعمدت إسرائيل استهداف مدنيين عزل، وباعة، وسكان محليين كانوا في بيوتهم، مشيرًا إلى أن السوق كان مليئا بالمواطنين، وبالتأكيد كان واضحا أن المخبز في داخله وأمامه طابور طويل من المواطنين لشراء الخبز".
استنساخ العدوان على الضاحية الجنوبية
تستنسخ دولة الاحتلال في حربها على غزة نموذج عدوانها على الضاحية الجنوبية لبيروت في عدوان يوليو/تموز 2006 كما يقول الخبير العسكري اللواء المتقاعد يوسف الشرقاوي، مشيرا إلى أن مذبحة جباليا وغيرها من عمليات القصف تتم عبر كم كبير ومبالغ فيه من المتفجرات تستهدف منطقة صغيرة، متوقعا أن قصف سوق جباليا ربما يعود لأمرين، الأول قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في ضربة وحشية واحدة، أو أن الاحتلال كانت يشك بوجود شخصية ما أو "صيد ثمين" في السوق أو في محيطه، وبالتالي أرادت دولة الاحتلال قتله مهما بلغت التكلفة البشرية لذلك، لكن يبدو أن ذلك لم يحدث، واصفا جيش الاحتلال بأداة القتل لا القتال بعد فشلهم في مواجهة عناصر القسام في غلاف غزة.
ظروف عصيبة ونقص إمكانات الدفاع المدني
واجه عناصر الإنقاذ صعوبات شديدة في الوصول إلى الضحايا تحت الركام في سوق جباليا نظراً لانهيار عمارات سكنية، ومحال تجارية، كما يقول المقدم مهندس محمد أبو جلمبو مدير إدارة الإطفاء والإنقاذ في الدفاع المدني.
وأخلي الدفاع المدني كافة مواقعه تحسباً لقصفها، ويعمل عناصره في ظل ظروف عصيبة، بسبب نقص المعدات، إذ إن الجهاز لا يمتلك سوى 27 سيارة انقاذ وإطفاء، أغلبها قديمة تتعطل باستمرار ورفض الاحتلال حصول الجهاز على غيرها، كما أن هناك مشكلة في تعبئة سيارات الإطفاء بالمياه، نظراً لانقطاعها عن قطاع غزة، إضافة لصعوبة وصول إشارات الاستغاثة وبلاغات المواطنين جراء تعطل شبكات الاتصال وانقطاع التيار الكهربائي وفراغ بطاريات الهواتف النقالة، كما يقول أبو جلمبو.
هناك مشكلة في تعبئة سيارات الإطفاء بالمياه نظراً لانقطاعها عن قطاع غزة
وتضررت سيارتا إسعاف، وتعرضت الأطقم خمس مرات لاستهدافات مباشرة وغير مباشرة، وعمل عناصر الإنقاذ في ظل ظروف عصيبة، ويضيف أبو جلمبو، هذا العدوان أصعب بكثير من سابقيه، فقد يحدث أربع أو خمس غارات تحتاج لتدخل فرق إنقاذ في نفس الوقت، وبالتالي هناك ضغط على الأطقم، ونقص في معدات الإنقاذ.
ويقول أحد عناصر الإنقاذ فضّل عدم ذكر اسمه لشعوره بالتأثر الشديد من صعوبة الوضع، إنهم يعملون في أغلب الأوقات بمعدات يدوية "شاكوش وأزميل"، ولا يوجد سوى آليتي إنقاذ في كل القطاع، وفي ثلاث وقائع من بينها واحدة في سوق جباليا كانوا يسمعون استغاثات لأحياء تحت الركام، ويحاولون جاهدين الوصول إليهم، وعندما يصلوا إليهم يكونوا قد فارقوا الحياة، متابعاً: "في أكثر من مرة بكينا وبشدة، لأننا لم نستطع إنقاذهم في الوقت المناسب، لكننا اجتهدنا ولم نستطع فعل شيء".
تغييب القانون الدولي
منذ بداية العدوان الحالي تتجاهل إسرائيل القوانين والاتفاقات الدولية الإنسانية بشكل تام، وفق إفادة المحامي المختص في القانون الدولي بمركز الميزان لحقوق الإنسان يحيى محارب، مضيفاً تصريحات وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت بأنه أمر بفرض حصار كامل على قطاع غزة، لا غذاء ولا ماء ولا كهرباء جريمة حرب، كما أنه قال "نحارب حيوانات بشرية، ونتعامل معهم على هذا الأساس"، والتصريح بحد ذاته انتهاك لكافة المعاهدات الدولية التي تعتبر دولة الاحتلال جزءا منها، خاصة اتفاقيات جنيف الأربعة الصادرة بتاريخ 12 أغسطس/ آب 1949 وبروتوكولاتها المُكملة لسنة 1977، وميثاق روما المنشئ لها، والتي صادقت عليها 190 دولة من أصل 193، وإسرائيل كانت منها، موضحاً أن مجزرة جباليا جزء من هذه الانتهاكات الخطيرة، ويبدو أن دولة الاحتلال حصلت على ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأميركية، ودول أوروبية، وهذا ينبئ بتوسيع رقعة الجرائم والمجازر، وقد نشاهد نسخة أسوأ من مذبحة جباليا، لذا يجب على محكمة الجنايات الدولية، ومجلس الأمن الدولي، والجهات السامية المنضمة لاتفاقيات جنيف الأربعة التحرك ولجم هذا العدوان ووقف هذه الجرائم.