ماذا يأكل الفلسطينيون ؟... محاصيل ملوثة بجرعات عالية ومتنوعة من المبيدات
يؤكد المزارع الفلسطيني هشام قطيشات، عدم قيام مفتشي وزارة الزراعة بأية جولات رقابية على أنواع المبيدات المستخدمة في حقول الأغوار، للتأكد من كونها متوافقة مع قائمة الأنواع المسموح بها، أو قياس نسبة المتبقيات في محاصيله هو وغيره من جيرانه الفلاحين، ومن بينهم أمجد بركات وسلامة زبيدات، اللذان قالا: "لم يحدث يوماً أن زارتنا طواقم الوزارة أو أخذت عيّنات من المزارع لفحص متبقيات المبيدات، وتقتصر الجولات الرقابية على محال بيع المبيدات".
ما جاء على لسان المزارعين أقرّ به أحمد الفارس، مدير زراعة محافظة أريحا والأغوار، التي تشكل 50% من الأراضي الزراعية في فلسطين، وتنتج 60% من المحاصيل الزراعية بحسب بيانات مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، قائلاً لـ"العربي الجديد": "الوزارة لا تنظم جولات للرقابة على المبيدات في حقول المزارعين، ولا تسحب عيّنات من الخضار لفحصها".
وبينما تثبت الإفادات السابقة انعدام الرقابة على استخدام المبيدات الزراعية، وعدم وجود آلية لفحص المحاصيل التي يتناولها الفلسطينيون للتأكد من خلوّها من متبقيات المبيدات الكيماوية، يكشف التحقيق عن ازدياد نسبة المتبقيات وأنواعها المحظورة عبر مقارنة تحاليل مخبرية جرت في مختبرات جامعة بيرزيت عام 2017، بأخرى جرت في إبريل/ نيسان 2020 على عيّنات من البندورة والفليفلة، بالإضافة إلى تعطل مساعي توقيع اتفاقية تعاون بين وزارتي الزراعة والصحة الفلسطينيتين! منذ ثلاثة أعوام وحتى اليوم، ليبقى تراشق الاتهامات بينهما قائماً دون حل المشكلة أو تحديد المسؤول عن تسميم غذاء الفلسطينيين بالمبيدات المحظورة.
مقارنة عيّنات المحاصيل بعد 3 أعوام
تكشف نتائج الفحوص المخبرية لـ 29 عينة من محصولي البندورة والفليفلة سُحبَت من مختلف مدن الضفة الغربية (21 منها فحصت في عام 2017، بينما حُلِّلَت 8 عينات في عام 2020)، عن أن 72.4% منها ملوثة بالمبيدات، أي أنها تحتوي على نوع واحد أو أكثر من متبقيات المبيدات، ورسبت 55.1% من العيّنات، أي أنها تحتوي على متبقيات مبيدات كيماوية بنسب أعلى من الحد المسوح به وفقاً للمعايير الغذائية الدولية التي تحددها منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) لكل نوع من المبيدات على حدة.
أما العيّنات التي كانت فيها متبقيات المبيدات أقل من الحدود المسموحة، فلم تتجاوز نسبتها 17.2%، أي ما يعادل 5 عيّنات فقط، في حين أن العيّنات الخالية تماماً من المتبقيات بلغت نسبتها 27.5%، أي ما مجموعه 8 عيّنات.
وبمقارنة نتائج الفحوصات التي أُجريت عام 2020 بنتائج عام 2017، يتبين أن إهمال فرض الإجراءات الرقابية أدى إلى تفاقم الاستخدام العشوائي للمبيدات وازدياد نسب متبقياتها في المحاصيل، إذ أظهرت نتيجة فحص عام 2017، رسوب 52% من العينات (تحتوي على مبيدات أعلى من الحدود المسموح بها)، في حين أن نسبة العيّنات الناجحة 17.5% (ملوث بنوع أو أكثر ضمن الحدود المسموحة)، فيما بلغت نسبة العيّنات الناجحة (نظيفة تماماً من المتبقيات) 30.5%. وفي عام 2020 تكشف النتائج أن 62.5% من العيّنات راسبة، والعيّنات الناجحة بلغت 25%، فيما تراجعت نسبة العيّنات النظيفة تماماً إلى 12.5%.
ليس هذا فحسب، إذ تبين في العيّنات الجديدة مبيدات لم تظهر في فحوص 2017، منها نوع "كلوربيريفوس"، المحظور استخدامه عالمياً.
خليط سُمِّي من المبيدات
تحظر وزارة الزراعة الفلسطينية استخدام مبيدات محددة بأسمائها العلمية، أي بحسب ما تحتويه من مادة فعالة، لكنها تُدرجها في قوائم المبيدات المصرَّح باستخدامها في سنوات لاحقة، بعد تغيير اسمها التجاري، وهو ما تكرر مع عدة مبيدات، منها المبيد الحشري MANCOZEB، الذي حظر استخدامه وفق ما جاء في القرار رقم 14 الصادر عن وزارة الزراعة عام 2011، وبعد مضي عامين أدرج المبيد ذاته على قائمة مبيدات الآفات الزراعية التي يمكن استخدامها في مناطق السلطة الفلسطينية لعام 2013-2014 وقائمة 2016-2017، تحت اسم تجاري مختلف، أيضاً المبيد الحشري "كلورفينابيير"، والمعروف باسمه التجاري "بيرات" وحظر استخدامه عام 2011، وأدرج باسم تجاري آخر على قائمة المبيدات المسموحة لعامي 2016-2017 وفق إفادة الباحث والخبير البيئي، ورئيس وحدة الدراسات في مركز العمل التنموي (معاً)، جورج كرزم، الذي وصف قرارات وزارة الزراعة بشأن المبيدات المحظورة بـ"العشوائية"، بسبب غياب واضح لنهج علمي متبع.
ويعتبر كرزم تلك العشوائية استخفافاً بعقول الناس وصحتهم، فالأصل أن يُتَّخَذ قرار الحظر والسماح بناءً على المادة الفعالة وليس الاسم التجاري، واتباع المنهج العلمي لاتخاذ قرار المنع أو السماح. وباطلاعه على نتائج فحص العيّنات، يكشف كرزم استخدام مبيدات محظورة فلسطينياً وعالمياً، منها Endo sulfanThionex، إذ أثبتت الفحوص وجود متبقيات من هذا المبيد في العيّنات، والأخطر من ذلك، على حد وصف كرزم، أن جميع العيّنات الملوثة تحديداً تحتوي على خليط من المركبات، ما يترتب عنه زيادة درجة السمية.
مخاطر على المديين القصير والطويل
تسبب المبيدات الكيماوية أضراراً صحية كبيرة، منها ما يظهر على الإنسان على المدى القصير، مثل الغثيان الناتج من السُّمية الآنية بسبب خلط المبيدات ورشها على المحاصيل الزراعية، كما يوضح الباحث المتخصص في مجال المبيدات الكيماوية الدكتور عقل أبو قرع، مضيفاً أن ازدياد نسب السُّمية نتيجة تراكيز المبيدات العالية في الخضار والفواكه يسبب الشلل، وقد يؤدي إلى الوفاة إن كانت الكميات المرشوشة كبيرة جداً، مؤكداً أن حالات وفاة عديدة سجلت بين مزارعين رصدها خلال عمله، نتيجة امتصاص جلدهم لتلك المبيدات المستخدمة بنسب عالية، ما يؤدي إلى تسممهم وموتهم.
ويبدي أبو قرع قلقه من احتواء العيّنات المفحوصة على مبيدات محظورة فلسطينياً، معتبراً أن الأمر الأكثر إثارة للقلق، وجود أكثر من مبيد في العيّنة الواحدة، وإن كانت من ذات العائلة الكيميائية، وإذا كانت متبقيات المبيدات تنتمي إلى عائلات كيميائية مختلفة، فإن مفعولها يتداخل، ما يؤدي حتماً إلى زيادة السُّمية ويتضاعف أثرها داخل جسم الإنسان، خاصة أن لا دراسات أجريت لغاية الآن تقيس أثر تلك المبيدات مجتمعة على الصحة، مثل المبيدين اللذين ثبت استخدامها في نتائج الفحوص، "إندوسلفان" و"سيبرمثرين"، ومبيدات فطرية أخرى، لم تخضع لأي دراسة تبيّن آثارها المباشرة على جسم الإنسان.
"وهذا يفسر تزايد الإصابات بأمراض مزمنة، كما تبين التقارير السنوية لوزارة الصحة الفلسطينية"، بحسب إفادة أبو قرع، موضحاً أن تعرّض الإنسان لكميات قليلة من المبيدات لن يؤدي إلى ظهور آثارها بشكل آني ومباشر، وإنما نتيجة تراكمها، ومع الزمن تبدأ آثارها بالظهور وتسبب أمراضاً خطيرة، أبرزها السرطان، الذي يعتبر المسبب الثاني للوفاة في فلسطين، بالإضافة إلى أمراض الغدد والجهاز التنفسي، كما أن لها تأثيرات كبيرة في المرأة الحامل.
تبادل الاتهامات بين "الصحة والزراعة"
يحيل مدير دائرة المبيدات في وزارة الزراعة، عبد الجواد سلطان، مسؤولية فحص المحاصيل والتأكد من خلوّها من متبقيات المبيدات على وزارة الصحة، قائلاً لـ"العربي الجديد" إن "الخضار سلع زراعية، ومسؤوليتنا تنتهي بعد خروج المحصول من المزرعة، وهنا يأتي دور وزارة الصحة التي تقع عليها مهمة الفحص، لأن صلاحيات تفتيش الأسواق من اختصاصها، ودورنا ينتهي في الحقول"، وفق قوله. أما وزارة الزراعة، فلديها 13 مفتشاً فقط، يقتصر دورهم على مراقبة محال المبيدات ومتابعة عمليات الترخيص والاستيراد.
وزارة الصحة بدورها تعتبر أن فحص متبقيات المبيدات من مسؤوليات وزارة الزراعة، بحسب ما أوضح إبراهيم عطية، مدير صحة البيئة في الوزارة (توفي في مارس/ آذار 2020)، مشيراً إلى أن مسؤولية وزارته تطاول المنتجات الزراعية التي دخلت في مراحل التصنيع والتعبئة، كالزعتر حينما يُطحَن ويُعرَض في الأسواق، والبندورة حينما تُطبَخ وتُحوَّل إلى رب البندورة مثلاً. أما المواظبة على سحب عيّنات عشوائية من الأسواق والحقول وإخضاعها للفحص في المختبرات، فمن واجب وزارة الزراعة، بحكم اختصاصها ومسؤوليتها عن قطاع المبيدات، وفق عطية، معتبراً أن من الضروري تشديد الرقابة على المُزارع لضبط استخدام هذه المبيدات، وتقديم الإرشاد اللازم له.
ووسط تبادل الاتهامات، يؤكد مدير حماية المستهلك إبراهيم القاضي، أن الاستراتيجية الفلسطينية للسلامة الغذائية التي أعدّتها الوزارات الثلاث: الصحة والزراعة والاقتصاد، بهدف الرقابة على المنتجات الحيوانية والزراعية، تم الاتفاق فيها على أن مسؤولية وزارة الزراعة تبدأ من المزرعة وتنتهي إلى الأسواق، أي من المزارع إلى المستهلك. ووفقاً للقاضي، إن ما ينقص الآن، توقيع الاتفاقية بين وزارتي الزراعة والصحة، لتسحب بموجبها وزارة الزراعة العيّنات وتوّرّدها إلى مختبرات وزارة الصحة لفحصها، لكن المساعي لتوقيع الاتفاقية تلك باءت بالفشل، ولم ترّ مسوّدة مذكرة التفاهم الأولية التي وضعت عام 2017 النور حتى الآن، لأسباب غير محددة، وفقاً لمدير مديرية الصحة العامة في وزارة الصحة، ياسر بوزية.
*تم إعداد التحقيق بدعم من شبكة (أريج) "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية"