فوضى الضفة الأمنية [2/1]... شرعنة العقاب الجماعي عبر "فورة الدم"

رام الله

مجد علي

avata
مجد علي
20 مارس 2022
"فورة الدم" في فلسطين... شرعنة للعقاب الجماعي
+ الخط -

يرصد "العربي الجديد" في تحقيق من جزأين ظاهرتي "فورة الدم" و"الجلوة العشائرية" واللتين تخلقهما جرائم القتل في الضفة الغربية في ظل قبول من الأجهزة الأمنية لأحكام القضاء العشائري رغم مخالفتها للقانون الفلسطيني.

- توفيت الخمسينية الفلسطينية أمل عودة، في 13 يوليو/تموز عام 2015، بعدما اضطرت للقفز من الطابق الثالث في عمارة بمدينة بيت لحم، أحرقتها عائلة من قرية حوسان المجاورة لبلدتها بيت ساحور جنوب الضفة الغربية، ردا على مقتل ابنها محمود العريدي البالغ من العمر 38 عاما، وفق ما صرح به في حينها الناطق باسم الشرطة الفلسطينية لؤي ارزيقات، بينما يقول مصدر عائلي، فضل عدم الكشف عن اسمه خشية اتهامه بإثارة خلافات قديمة، إن عودة كانت تتلقى جلسة علاج طبيعي لدى طبيبها، وتصادف وجودها في العمارة المملوكة لعائلة المتهم، برفقة شقيقتها الأربعينية وابنتها (13 عاما في حينه)، وفوجئن بهجوم أفراد من عائلة القتيل، وحاولن القفز من علو بعدما أصبحت فرص نجاتهن من الحريق شبه معدومة، ما أدى لمقتل أمل، وإصابة شقيقتها بجروح خطيرة ما زالت تعاني منها حتى يومنا هذا، في حين تعانى البنت من فوبيا مزمنة من صعود الطوابق العليا.

شرعنة العقاب الجماعي

ما وقع من اعتداءات عقب وفاة الشاب العريدي، يدخل ضمن ما يعرف بـ "فورة الدم" وهي ردة الفعل التي تقوم بها عائلة القتيل عقب ورود الخبر والتحديد المبدئي للمتهم، كما يوضح عمار الدويك، المدير العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ICHR ديوان المظالم - تأسست بموجب مرسوم رئاسي"، مشيرا إلى أن الظاهرة تشرعن بشكل عملي، العقوبات الجماعية بحق عائلة المتهم.

و"لا يحق للمتضررين من فورة الدم، التي تستمر لثلاثة أيام وثلث، وتبدأ من لحظة تحديد المتهم بالقتل بشكل مبدئي، المطالبة بالتعويضات، لأن ذلك يندرج ضمن العقوبة المعنوية للمتهم بالقتل، في حين أن العقوبة المادية تتمثل بقتل المتهم أو أحد أقاربه"، وفق القوانين العشائرية، بحسب ما يوضحه الباحث محمود سالم ثابت في كتابه "القضاء العشائري عند قبائل بئر السبع - فلسطين"، موضحا أنه خلال هذه المدة كل ما يجري من عمليات نهب وتخريب تصنف باعتبارها "تحت الفراش" أي لا يحق المطالبة بحقوق ضحاياها، بينما يكمل الدويك في مقابلته مع "العربي الجديد"، مشيرا إلى حادثة وفاة عودة كمثال واضح على الضرر الذي تسببه "فورة الدم"، والذي يصل إلى حد إزهاق الأرواح، وتدمير عشرات الممتلكات، مشددا على ضرورة ملاحقة المشاركين في هذه الأعمال، لكن المصدر العائلي من عائلة الضحية عودة يؤكد "عدم محاكمة أي متهم أو حتى توقيفه".

وقتل 44 شخصا في الضفة الغربية خلال العام الماضي، وتبع هذه الحالات وقوع ما يسمى بـ"فورة الدم"، وفق ما رصده عمر رحال مدير مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية "شمس"، "ومن بين ضحايا الظاهرة الطفل مقدم راغب جرادات "14 عاما" والذي أطلق مسلحون النار على قدمه داخل منجرة شقيقه في بلدة السيلة الحارثية غرب جنين، كما استهدف الثلاثيني معاذ جرادات داخل محله التجاري، بعد 24 ساعة من مقتل الشاب محمد أبو جاسر في البلدة إثر تجدد خلاف عائلي قديم، واتهام عائلة القتيل شقيق الطفل بالوقوف وراء الحادثة"، بحسب ما يؤكده لـ"العربي الجديد"، خالد جرادات أحد أفراد العائلة.

ورغم منح الأجهزة الأمنية، مقاطع فيديو وثقتها كاميرات المراقبة يظهر فيها مسلحون غير مقنعين بينما يعتدون على العائلة، والإبلاغ عن المشتبه بهم من قبل المجني عليهم، لم يعتقل أي فرد منهم، وما زال الحديث يدور عن عدم انتهاء التحقيقات وتحديد الفاعلين، وفق ما يؤكد جرادات، فيما ينتقد رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، "عدم توفير الأجهزة الأمنية الحماية لعائلة المتهم بالقتل في بعض الحالات".

الأجهزة الأمنية تتساهل مع "فورة الدم"

في 27 يوليو/نموز 2021 قتل الشاب باسل الجعبري 38 عاما برصاص مسلحين في مدينة الخليل، وعقب 24 ساعة، أعلنت بلدية الخليل أن طواقمها تعاملت مع 9 حرائق في عدة مواقع من المدينة، شملت محال تجارية ومعرض مفروشات وسوقا لبيع الخضر، ومعرض سيارات، وفي 6 فبراير/شباط الماضي تجددت عمليات حرق المحال التجارية والممتلكات بسبب الخلاف ذاته، وفق توثيق الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، والتي شددت على أن عدم محاسبة من قام بالأحداث السابقة، التي أسفرت عن مقتل مواطن من عائلة أبو عيشة، وما رافق ذلك من أحداث وما نتج عنه في حينها من أحداث "فورة الدم"، أسباب رئيسية شجعت على تجدد حالة الاقتتال والاشتباكات مرة أخرى، وهو ما يؤكد عليه رئيس تسيير أعمال بلدية الخليل تيسير أبو سنينة في مقابلة مع "العربي الجديد"، منتقدا تقاعس الأجهزة الأمنية عن محاصرة الأحداث التي جرت ضمن "فورة الدم"، ما أسفر عن تفشيها، مع التبعات المتجددة.

تستمر أحداث فورة الدم مدة ثلاثة أيام وثلث

ويشدد القيادي في حركة فتح أبو سنينة، على أن السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لم تستطع ملء الفراغ الذي يشغله البعد العشائري، بعد إنشاء المؤسسات الأمنية والقضائية، خاصة في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو، سواء على مستوى تنفيذ العدالة أو الأداء الأمني، ما أدى إلى غياب الدور الحقيقي للمحاكم والمؤسسات التشريعية وفتح المجال واسعا للتمرد على القانون، و"فورة الدم" التي تعدّ شكلا من ِأشكال الخروج على القانون وأخذ الحق باليد، كانت واحدة من الظواهر التي تفاقمت للأسباب المذكورة كما يؤكد.

الصورة
الأجهزة الأمنية تتساهل مع "فورة الدم"

المستوى الرسمي يحتضن "فورة الدم"

تنص المادة 368 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 على أن "يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة مدة لا تقل عن سبع سنوات كل من أضرم النار قصداً في أبنية أو مصانع أو ورش أو مخازن أو أي عمارات آهلة"، ومع ذلك تكشف الحالات  الثلاث التي قابلها معدّ التحقيق عدم محاسبة المشاركين في "فورة الدم"، وهو ما ينسجم مع إحصائية وردت في دراسة بعنوان "القضاء غير النظامي: سيادة القانون وحل النزاعات (..)" والتي صدرت عن معهد الحقوق في جامعة بيرزيت عام 2006، إذ رصدت أنه من بين 12 حالة "فورة دم" عملت عليها، تمت محاسبة المشاركين في واحدة فقط، ما يفاقم الظاهرة لعدم ثقة المواطنين بمنظومة العدالة الرسمية كونها لم تحافظ على مستوى من الاستقلالية والمهنية والنزاهة، وفق إفادة إبراهيم البرغوثي، مدير المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء "مساواة "، والذي يصف الظاهرة بأنها تعيد المجتمع إلى ما قبل دولة القانون، ويقول: "القضاء العشائري المتسامح مع هذا المفهوم محمي من قبل الجهات الرسمية التي تنساق وراء ما تسمى "تفاعلات الجريمة"، فتصمت على ترحيل عائلات بأكملها من منازلها، وحرقها، والإضرار بالممتلكات ومصادرتها، وهذا يحتاج إلى معالجة نظام القضاء لمنع سقوط ضحايا مستقبليين، والمؤسسات العشائرية التي تأخذ طابعا رسميا هي إحدى الأدوات التي تفاقم مثل هذه الظواهر"، مشيرا إلى أن الإرادة السياسية تتجه نحو حماية واحتضان مثل هذا النهج في التعاطي مع الحقوق والحريات بما فيها حق الحياة.

تخفيف الأحكام

لم يمرّ على، موسى تيم المسؤول السابق عن ملف العشائر في مكتب الرئيس محمود عباس، ولو حالة واحدة جرت محاسبتها من قبل القضاء النظامي أو العشائري لمشاركتها في فورة الدم، كما يقول لـ"العربي الجديد"، "وهذا حديث أتحمل مسؤوليته، وهو من واقع تجربتي في هذا المجال منذ عقود، ورغم كل المواثيق التي وقعناها وعملنا على إنجازها إلا أننا لم ننجح في وقف الظاهرة، المرفوضة عرفا وقانونا"، لكنها مزمنة ومنتشرة، بسبب تسامح الجهات العشائرية والحكومة معها، رغم كونها تسببت في سقوط ضحايا لا علاقة لهم بالجريمة، وتحت ستارها مورست عمليات نهب وحرق ومصادرة للممتلكات.
وبالمقابل، يرى تيم أن التساهل مع "فورة الدم" قد يكون مبرره الوحيد، أن مهمة الوجه أو المصلح العشائري هي تطويق المشكلة وليس تفاقمها من خلال إثارة قضايا حدثت بعد ارتكاب جريمة القتل. مستدركا: "هذا بكل الأحوال لا يبرر تحميل كل طرف مسؤولية ما ارتكب بحق الآخرين".

لكن رئيس محكمة رام الله السابق رائد عصفور، يرفض غض الطرف عن جناية الحرق والنهب تحت ذريعة فورة الدم، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن الظروف المحيطة بالمتهمين المشاركين قد تكون في بعض الحالات عامل تخفيف للأحكام وليس إعفاء، مستدركا "أحيانا يتدخل المستوى السياسي لغض الطرف عن بعض حالات فورة الدم، بذريعة مراعاة النظام العام وتخفيفا للاحتقان، لكن إذا جرى تحويلها إلى القضاء تسير الإجراءات بشكل منتظم". 

لا يحق للمتضررين من فورة الدم المطالبة بتعويض

ويوضح القاضي السابق أحمد الأشقر سبب تفهم الظروف المحيطة بالجريمة، قائلا: "هذا له تأصيل في قانون العقوبات في المادة 98 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960، والتي تنص على أن "يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بصورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه". 

وبينما يرد وكيل الشؤون العامة في وزارة الداخلية مجدي علاونة، نافيا تساهل السلطة الفلسطينية مع ظاهرة فورة الدم، قائلا لـ "العربي الجديد"، بعض المعيقات، ومن بينها تقسيمات المناطق في الضفة الغربية إلى (أ.ب.ج) وصعوبة وصول الأجهزة الأمنية لمناطق (ج) بدون تنسيق مسبق مع الاحتلال الإسرائيلي فاقم حجم الظاهرة، لكن رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان يرد بأن التساهل مع الظاهرة يجري حتى في مناطق تسيطر عليها الأجهزة الأمنية بشكل كامل، وفي حال اتخذ قرار بالتصدي للظاهرة يمكن ذلك، مشيرا إلى توصية من الهيئة مقدمة إلى الجهات الرسمية بعدم التسامح مع الظاهرة، وأن لا يستفيد المشاركون فيها من الظروف المخففة.

ذات صلة

الصورة
آلية عسكرية إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة، 6 أكتوبر 2024 (ميناحيم كاهانا/فرانس برس)

سياسة

شهر أكتوبر الحالي هو الأصعب على إسرائيل منذ بداية العام 2024، إذ قُتل فيه 64 إسرائيلياً على الأقل، معظمهم جنود، خلال عمليات الاحتلال في غزة ولبنان والضفة.
الصورة
مسيرة وفاء للسنوار في رام الله (العربي الجديد)

سياسة

نظمت حراكات شعبية وقوى فلسطينية وقفة ومسيرة في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية المحتلة ظهر اليوم السبت، وفاءً لبطولة وتضحية الشهيد يحيى السنوار.
الصورة
خلال تشييع الشهيدة حنان أبو سلامة (زين جعفر/ فرانس برس)

مجتمع

غدر الاحتلال الإسرائيلي بمن سمح لهم بقطف الزيتون من أهالي قرية فقوعة في جنين، لتسقط حنان أبو سلامة أول شهيدة للزيتون
الصورة
الشيخ زياد أبو هليل استشهد في7 أكتوبر 2024 (فيسبوك)

مجتمع

على وقع الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى، سطّر الشيخ زياد أبو هليل، من مدينة دورا، جنوبي الخليل، جنوبي الضفة الغربية، فجر الاثنين، آخر فصول حياته.