يكشف تحقيق "العربي الجديد" عن هيمنة مليشيا فاغنر الروسية على ثروات جمهورية أفريقيا الوسطى التعدينية وأجهزتها الأمنية، في ظل استمرار الصراع بين الحكومة والمتمردين والذي يدفع المدنيون ثمنه من أرواحهم ومواردهم.
- فقد العشريني السوداني صدام محمود، أربعة من أقاربه في منجم للذهب بمنطقة أندها Andha في أفريقيا الوسطى (250 كيلومترا شمال العاصمة بانغي) إثر هجوم قوات جيش الحكومي المدعوم بمقاتلي مليشيا فاغنر الروسية في 13 فبراير/شباط 2022 من أجل السيطرة على المنجم الذي يعمل فيه سودانيون وتشاديون إلى جانب الأفرووسطيين.
أسفر الهجوم عن مقتل 64 شخصاً وجرح عشرين آخرين، أغلبهم سودانيون حاولوا الفرار من عشر مدرعات ودبابتين، كما يقول محمود لـ"العربي الجديد"، موضحا أنه هرب مع 6 من رفاقه إلى الغابات المحيطة والتي تبعد 40 كيلومترا عن الحدود السودانية، ومنها إلى مدينة أم دخن السودانية الواقعة في أقصى الجنوب الغربي لولاية دارفور، مضيفا أن الجنود الأفارقة والروس أحرقوا سوقا صغيرا يخدم عمال المنجم، ونهبوا كافة ممتلكاتهم ومعدات التنقيب، فضلا عن 1600 غرام ذهب، و12 مليون فرنك وسط أفريقي (قرابة 20 ألف دولار أميركي)، ويتابع بحزن: "خسرت إخوتي وأموالي، ولا أعرف إذا تم دفنهم أم تركوا في العراء".
وتسيطر مليشيا فاغنر على موارد أفريقيا الوسطى عبر القتل والنهب كما يؤكد تقرير صدر في ديسمبر/كانون الأول 2022 عن مشروع all eyes on Wagner (يعمل على جمع وأرشفة والتحقق من أنشطة وانتهاكات مرتزقة فاغنر حول العالم)، موضحا أن "شركة لوباي إنفيست Lobaye Invest، التي يقودها ديميتري سيتي (المقرب من يفغيني بريغوزين مؤسس مجموعة فاغنر)، باتت تسيطر على أغلب مناجم الألماس".
و"منحت شركة لوباي إنفيست تصاريح تعدين في خمسة مناجم للألماس والذهب في بانغاسو، ادا، بريا، سام، ووانجا خلال الفترة من أبريل/نيسان وحتى يونيو/حزيران 2018، ولمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، من بينها 4 مواقع مصنفة ضمن المناطق الحمراء التي حظرت الأمم المتحدة التعدين فيها بحسب بيانات عملية كيمبرلي التي تأسست في عام 2003 لمنع "ماس الصراع" من دخول السوق بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 55/56، بحسب التقرير.
سيطرة روسية على القرار السياسي
بدأت مليشيا فاغنر بالتواجد في أفريقيا الوسطى في عام 2017، واستقبل الرئيس فوستين أرشانج تواديرا 400 مدرب من مسلحيها في عام 2018 من أجل المساعدة في التصدي للجماعات المتمردة، بحسب دراسة للمركز الأفريقي للدراسات الإستراتيجية، لكن تأثيرها تزايد وبلغ ذروته في عام 2020 إذ وصلت إلى القصر الرئاسي وأصبح مسلحوها ضمن طاقم حراسة وتأمين الرئيس، بحسب تأكيد جنرال سابق في جيش أفريقيا الوسطى (فضّل حجب اسمه لتواجده في مناطق سيطرة الحكومة)، موضحا أن قوات فاغنر تنتشر بشكل رئيسي في مناطق بامباري وكابو شمال أفريقيا الوسطى وبانغاسو (جنوب شرق)، وبريا (شرق).
ويعد الجنرال فاليري زاخاروف، المستشار الأمني الخاص لرئيس أفريقيا الوسطى المتحكم الرئيسي بالقرارات العسكرية والمسؤول عن نشر عناصر فاغنر في مناطق التعدين، كما يقول الجنرال الأفرووسطي موضحا أن زاخاروف الذي فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليه، عضو سابق في جهاز أمن الدولة الروسي، ويدير العمليات من قاعدة تابعة للجيش في بانغي.
ورغم أن بعض جنرالات الجيش يعارضون تمدد فاغنر، إلا أن آخرين ينظرون لها بشكل إيجابي باعتبارها حققت استقرارا عسكريا في الجبهات، إضافة إلى تدريب أفراد الجيش وتقديم معدات عسكرية، كما يقول الجنرال الذي تقاعد من الجيش في عام 2018.
ويقدر عدد مسلحي فاغنر المنتشرين في البلاد قبل الحرب الروسية الأوكرانية بـ 3 آلاف فرد، بينما بدأ تواجدهم بـ 200 متعاقد أمني بصفة مستشار في منتصف 2017، كما يقول الدكتور مسلم شعيتو، مدير المركز الثقافي الروسي العربي في مدينة فورونيغ والذي يتتبع التحركات الروسية في أفريقيا لـ"العربي الجديد"، موضحا أن الحرب أثرت سلباً على تواجد فاغنر في أفريقيا الوسطى متوقعا تراجع تواجد وأعداد المسلحين مع الوقت.
بيد أن بولين باكس، الباحثة في مجموعة الأزمات الدولية ونائبة مدير برنامج إفريقيا تؤكد "لـ العربي الجديد" أن أعداد مليشيا فاغنر ما تزال مرتفعة، وتقدر بـ 2000 مقاتل، كما أن نفوذهم لم يتضاءل على الإطلاق، إذ يعملون بشكل مباشر مع الجيش في بانغي ويسيرون دوريات مصغرة في المدن الأخرى.
تقديرات بوجود 2000 مقاتل تابعين لـ "فاغنر" في أفريقيا الوسطى
وتحافظ قوات فاغنر على خريطة انتشارها السابق، رغم تراجع أعدادها بعد الحرب في أوكرانيا، وسحب معدات وأفراد كما يقول عبدو بودا، القيادي في الاتحاد من أجل السلام في أفريقيا الوسطى (حركة مسلحة معارضة بقيادة علي دراسا)، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن نفوذ قوات فاغنر كبير إذ تتحكم بالقرار السياسي في البلاد، من خلال إدارة الأجهزة الأمنية (أمن الدولة والمخابرات)، عبر مستشارين يتمتعون بسلطات واسعة تمكنهم من مخالفة تعليمات قادة الجيش في أفريقيا الوسطى أحيانا، كما يتواجدون في مصالح حكومية مثل الجمارك وبالطبع مناجم الألماس والذهب.
ارتكاب جرائم حرب
يتهم الرئيس السابق لأفريقيا الوسطى، فرانسوا بوزيزيه (حكم خلال الفترة من 2003 وحتى 2013)، مسلحي فاغنر والقوات الخاصة بجيش أفريقيا الوسطى (الفاكا) بارتكاب جرائم حرب وإبادة قرى كاملة شمال البلاد، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن مقاتلي فاغنر يتحكّمون في البلاد ويقمعون المدنيين باختلاف أطيافهم، ويتابع: "وجود الروس يُخيف المسلمين والمسيحيين"، وهو ما يؤكده بودا، مشيرا إلى هجوم قادته قوات من الجيش الحكومي ومقاتلي فاغنر في الثامن من ديسمبر الماضي، استهدف مُعسكرات نازحين بالقرب من مدينة بامباري التابعة لمحافظة أواكا جنوب أفريقيا الوسطى عقب هجوم لقوات المعارضة على دورية تابعة لمجموعة فاغنر وقوات الجيش في 6 ديسمبر الماضي، موضحا أن القوات الحكومية وفاغنر أمهلا النازحين 24 ساعة لمغادرة المعسكرات وإخلاء المكان، وبعد انتهاء المهلة تم إحراق 4 معسكرات لنازحين، أغلبهم من قومية الفلاتة (قبائل من الرعاة الرحل).
وينفى بيان صادر عن وزارة خارجية بانغي ما سبق، موضحا أن الجيش الحكومي تعرض لكمين على يد المتمردين وجرى استهداف دورية قادمة من مدينة بامباري في 6 ديسمبر 2022 واستمر الاشتباك معهم لأكثر من ساعتين، لكن معد التحقيق حصل على صور جثث متفحمة بجانب قتلى مقيدي الأيدي في معسكرات النازحين بالقرب من مدينة بامباري، ويقف حولها جنود من جيش أفريقيا الوسطى ويؤكد المصدر أنهم ضحايا الهجوم الحكومي.
هل يقف التواجد الروسي عائقا أمام السلام؟
يؤكد تقرير التحقيق في هجوم بويو الصادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 25 يوليو/ تموز 2022، أن مليشيا محلية تعرف باسم "أنتي بالاكا" نفذت اعتداءً على قرية بويو في محافظة أواكا ما بين 6 و13 ديسمبر 2021 قتل فيه 20 مدنيا واغتصبت خمس نساء مسلمات تتراوح أعمارهن بين 25 و37 عاما وتم إحراق 547 منزلا، موضحا أن "الجيش الحكومي بالاشتراك مع أعضاء الشركات العسكرية الخاصة، دربا وسلحا أعضاء مليشيات محلية من أجل اقتحام القرى الخاضعة لسيطرة المجموعات المسلحة".
وتعاني أفريقيا الوسطى من صراع دموي له أبعاد عرقية ودينية منذ عام 2013، وفق محمد يوسف حسن، المسؤول السابق لملف أفريقيا الوسطى بالخارجية السودانية وعضو لجنة اتفاق سلام الخرطوم، والذي قال لـ"العربي الجديد" :"أفريقيا الوسطى وقع فيها خمسة انقلابات عسكرية منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960ووقعت فيها نزاعات أهلية متعددة".
تعاني أفريقيا الوسطى من صراع دموي له أبعاد عرقية ودينية منذ عام 2013
و"بما أنّ العنف في أفريقيا الوسطي يضر بالأمن القومي السوداني، خاصةً في إقليم دارفور إذ يمكن للحركات المتمردة الاستفادة من الفوضى هناك، قادت الحكومة السودانية مشاورات بين حكومة أفريقيا الوسطى والمسلحين عقب انهيار اتفاق السلام في مارس/آذار 2013"، يضيف حسن، متابعا أن روسيا كانت تدعم التوصل لاتفاق سلام بين 14 حركة مسلحة (تحالف قاده الرئيس السابق لأفريقيا الوسطى فرانسوا بوزيزيه)، والحكومة برئاسة تواديرا، وتم توقيع اتفاق السلام بالخرطوم في 6 فبراير 2019، وأهم نقاطه وقف إطلاق النار، وحرية التنقل والحركة للأفراد والبضائع التجارية في جميع أنحاء البلاد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ودمج المتمردين في الجيش الوطني.
ويقول بوزيزيه لـ"العربي الجديد"، إن روسيا وفاغنر، يقفان عائقاً أمام السلام الذي التزم به عندما وقّع على اتفاق الخرطوم ونفذ 90% من بنوده، وسلم 50% من أسلحته وبدأ في دمج القوات، لكن الحكومة لم تنفذ 5% من التزاماتها على حد وصفه، مضيفا أن الحكومة تنصلت عن الاتفاق بسبب استقوائها بالوجود الروسي، ويتابع:" أنا رجل سلام وإذا قُدم اتفاق شفاف سوف أوافق عليه، لكن الحكومة تستخدم سياسة فرق تسد من خلال شراء بعض قادة الحركات وتقوم بالتخلص منهم لاحقا".
و"شكل بوزيريه في عام 2020، تحالف الوطنيين من أجل التغيير CPC (يتألف من ست مجموعات مسلحة، وقّعت على اتفاق السلام وقررت مقاطعة الانتخابات في 27 ديسمبر 2020)، وفق ما نشر في موقع الأمم المتحدة في 25 يوليو الماضي، بعنوان "جمهورية أفريقيا الوسطى: تقريران يكشفان عن ارتكاب انتهاكات جسيمة مؤخرا منها القتل والاغتصاب والنهب"، موضحا أن "التحالف تمكّن من السيطرة على عدّة مناطق، بما في ذلك محافظتا مبومو وهوت-كوتو، وهي غنية بالموارد الطبيعية مثل اليورانيوم والذهب والماس".
لكن بعد الانتخابات وفوز توادريا (كانت حكومته تسيطر على ثلث مساحة أفريقيا الوسطى) بولاية ثانية، استطاع تغيير المعادلة والسيطرة على أغلب المناطق بدعم روسي، وانحسر معها نطاق سيطرة الحركات المتمردة في مناطق محدودة بالقرب من حدود السودان وتشاد وجنوب السودان، وفق بودا.
حق الرد
تواصل معد التحقيق مع الناطق باسم حكومة أفريقيا الوسطى، ألبرت يالوكي موكبيمي Albert Yaloké Mokpeme، لكنه رفض الرد، بينما يقول سفير أفريقيا الوسطى في السودان، عبد الله عبد الرحمن لـ"العربي الجديد"، أن الحركات التي وقعت اتفاق السلام لم تلتزم به ولم تكن جادة للدخول في العملية السلمية، نافيا سيطرة فاغنر على القرار السياسي والعسكري بالبلاد، ويضيف: "جمهورية أفريقيا الوسطى دولة ذات سيادة والروس وفاغنر والقوات الخاصة الرواندية حلفاء لبلدنا ولدينا اتفاقيات تعاون عسكري فيما بيننا".
وحول الاتهامات الأممية بارتكاب قوات الحكومة وفاغنر لجرائم حرب، يقول عبد الرحمن: " كما هو الحال في كل حرب تكون هنالك جرائم وحاجة لتحقيق مستقل لتحديد مسؤولية جميع الأطراف"، مضيفا أن حكومته لا تمارس تمييزا ضد المسلمين، بدليل وجود 6 وزراء في الحكومة الحالية مسلمين ومستشاري الرئيس ومكتب رئيس الوزراء كما أنهم ممثلون في البرلمان أيضا.
لكن عبدو بودا يؤكد أن الحكومة تعمل على تهميش المواطنين خاصة أبناء الشمال والمسلمين، حيث تسيطر قبائل بايا (تجمع عرقي يشكل 33% من سكان البلاد) القادمة من جنوب أفريقيا الوسطى، على الحكم.