يحاصر الاحتلال الإسرائيلي غزيين مقيمين في الضفة الغربية غادروا القطاع بعدما حوله جيشه إلى سجن كبير، يفتقر إلى أبسط المقومات الإنسانية، ما يجعلهم ضحايا انتهاك مزدوج لحقوقهم، والأنكى فرض عقاب جماعي على عائلاتهم.
- عاد جثمان العشريني الغزي محمود سامي خليل عرام، عبر حاجز إيرز الإسرائيلي (بيت حانون) في 12 مايو/أيار الماضي بعد أربعة أيام من استشهاده قرب حاجز جبارة باتجاه طولكرم، خلال محاولته الدخول من أحد الممرات المؤدية إلى الداخل الفلسطيني المحتل للعمل في مجال البناء، بحسب إفادة شقيقه إياد، في مقابلة مع "العربي الجديد"، مشيراً إلى أن محمود انتقل من القطاع المحاصر إلى الضفة الغربية قبل ثلاث سنوات من أجل علاج إحدى عينيه بعد تعرضه لإصابة عمل.
لكن عرام لم يتمكن من استكمال العلاج في مستشفى سانت جورج للعيون، بمدينة القدس المحتلة، بسبب المصاريف العالية سواء المعيشية أو العلاجية، ما اضطره إلى العمل في الداخل المحتل دون تصريح إسرائيلي بعد تجاوزه لشروط الحوالة الطبية التي تفرض عليه العودة إلى غزة، وخلال السنوات الثلاث التي قضاها في الضفة الغربية كان المعيل الوحيد لأسرته المكونة من تسعة أفراد، وباستشهاده فقدت العائلة الابن والمعيل، كما يقول شقيقه.
لم يتسنّ لعائلة الشهيد عرام التعرف إلى الكثير من الظروف الصعبة التي عاشها ابنها محمود خلال إقامته في الضفة، بحسب إياد، لكن إبراهيم الطلاع، الذي انتقل من قطاع غزة إلى الضفة الغربية للعلاج بعد حصوله على حوالة طبية هو الآخر، يكشف أنه عاش سبع سنوات من القلق والترقب، وكان هاجسه الوحيد فيها قيام الاحتلال باعتقاله، وإعادته إلى حاجز إيرز، بعدما بدأ مشواراً علمياً في جامعة بيرزيت.
ثمن هوية غزة
أعد الطلاع ورقة حقائق في عام 2019 بعنوان "مشكلة حاملي هوية غزة المقيمين في الضفة" نشرها في مركز مسارات (بحثي)، ويقول إنه حُرم التنقل بين المدن الفلسطينية طوال الفترة المذكورة، وكان مستقبل بقائه في الضفة الغربية في حكم المجهول، لأن الاحتلال الإسرائيلي يتعامل معهم على أنهم متسللون وإقامتهم غير قانونية، ما قد يعرضهم للاعتقال، وليس فقط للترحيل.
وأضحى الخوف من التنقل عبر الحواجز عائقاً أمام بعض فرص العمل التي حصل عليها الطلاع في مدن غير رام الله، وهي ذات التجربة التي تعيشها العشرينية ميادة هشام (اسم مستعار لاعتبارات أمنية) التي وصلت إلى الضفة الغربية في يناير/كانون الثاني 2022 من خلال حوالة طبية، وقررت العمل في مدينة رام الله لمساعدة عائلتها المكونة من والديها وأربع شقيقات، لكن بسبب الاقتحامات المتكررة للمدينة خشيت من مداهمة شقتها، حتى لو من طريق الخطأ، فاضطرت إلى حرق كل الوثائق الشخصية المتعلقة بها، وتحمل الآن هوية مزورة.
وعاشت ميادة ساعات من التوتر النفسي والخشية من مداهمة شقتها، بعد عملية اعتقال جرت خلال شهر مارس الماضي لأحد الشبان في البناية التي تقيم فيها، وعقب انتهاء الأمر، كان أول ما قامت به التخلص من كل ما يثبت هويتها الحقيقية، كما تقول لـ"العربي الجديد".
وتضيف أنها محاصرة في سجن من الناحية العملية، إذ لا تستطيع مغادرة رام الله، كذلك فإن الليل يشكل هاجساً كبيراً بسبب الاقتحامات المتكررة، بالإضافة إلى حصر علاقاتها الاجتماعية، حتى شمل ذلك تغيير حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي ورقم هاتفها الخليوي.
ترحيل قسري داخل الوطن
تكشف شكوى اطلع عليها معدّ التحقيق على موقع المحكمة العليا الإسرائيلية، قدمت لها عام 2013 وتحمل رقم 12/4019، عن إعادة 18 فلسطينياً إلى قطاع غزة بعد اعتقالهم خلال مرورهم بحواجز في الضفة الغربية خلال عام 2010، وفي عام 2011 رُّحل سبعة آخرون، بينما تكشف معلومات قدّمها جيش الاحتلال لمركز الدفاع عن الفرد (هموكيد - منظمة حقوقية)، أنه ما بين أعوام 2011 و2015 كان معدل الترحيل إلى غزة من فرد إلى 4 كل عام، بينما ارتفع العدد في 2016 إلى 6 وفي 2017 إلى 27.
وقابل معدّ التحقيق 6 حالات من المقيمين في الضفة الغربية، ويصنفهم الاحتلال على أنهم مخالفون، والقاسم المشترك بينهم البحث عن عمل، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة في غزة، إذ بلغ معدل البطالة 47% في عام 2021 مقارنة بـ 16% في الضفة، وفق إحصائيات نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي) في مايو الماضي.
20 ألف غزي يحلمون بتعديل أوراق إقاماتهم في الضفة الغربية
وبلغ عدد حاملي "هوية قطاع غزة" المقيمين في الضفة الغربية تحت تصنيف "مخالف"، 20 ألف شخص خلال عام 2018 بحسب "هموكيد"، بينما يوضح مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (حكومي) أن الاحتلال الإسرائيلي رفض تعديل عناوين إقامة عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين انتقلوا من قطاع غزة إلى الضفة الغربية منذ عام 2000 وحتى عام 2022، بينما يوضح عماد قراقرة، المتحدث الرسمي باسم الهيئة العامة للشؤون المدنية، المسؤولة عن متابعة الملف في السلطة لـ"العربي الجديد" أنّ من الصعب الوصول إلى إحصائية دقيقة بسبب الزيادة المستمرة في أعدادهم.
قوانين عسكرية إسرائيلية تفاقم الأزمة
تنص الاتفاقية الفلسطينية الإسرائيلية المرحلية (اتفاقية طابا 1995) على أن "الصلاحيات والمسؤوليات المتعلقة بالتسجيل والتوثيق السكاني في الضفة الغربية وقطاع غزة ستُنقَل من الإدارة العسكرية وإدارتها المدنية إلى الجانب الفلسطيني، بما يشمل الاحتفاظ بالسجل وإصدار التصاريح والوثائق الشخصية بجميع أنواعها، لكن لضمان إجراءات العبور المناسبة عبر الحواجز والمعابر يجب على السلطة تحديث وحدة التنسيق (يترأسها المنسق برتبة ميجر جنرال، وهو عضو في هيئة أركان جيش الاحتلال، وتتبع مكتب وزير جيش الاحتلال) بكل تغيير في السجل السكاني، بما يشمل تغيير مكان السكن والمواليد والرخص والشهادات".
غير أن الاحتلال الإسرائيلي جمّد عام 2000 التعامل مع التحديثات التي تجريها السلطة الفلسطينية على السجل السكاني، مشترطاً موافقة مسبقة منه، وشمل ذلك تعليق جميع إجراءات "لمّ شمل الأسر" وتغيير مكان الإقامة، وفي عام 2003 بدأ بحظر إقامة الفلسطينيين المسجلين في غزة من الإقامة في الضفة، بحسب توثيق تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في فبراير/شباط 2022.
وفي 13 إبريل 2010 دخل الأمر العسكري الإسرائيلي رقم 1649 "بشأن الإجراءات الأمنية" حيز التنفيذ، وكذلك الأمر 1650 الذي يعدّل الأمر السابق 329 سنة 1969 بشأن "منع التسلل"، وأصبح تعريف "المتسلل" بأنه أي شخص يدخل الضفة الغربية بشكل غير قانوني أو "أي شخص موجود فيها وليس لديه تصريح قانوني"، ليتوسع في الأمر الأساسي، والذي كان يشير إلى أن "المتسلل" هو "من دخل الضفة بشكل غير قانوني من إحدى الدول المعادية (الأردن ومصر ولبنان وسورية)".
وبحسب نص الأمر العسكري 1650، فإن "كل من دخل الضفة الغربية بشكل قانوني، لكنه بقي فيها بشكل غير قانوني، أي دون تصريح صادر عن الجيش الإسرائيلي، سيتم ملاحقته لارتكابه جريمة تصل عقوبتها إلى السجن لمدة ثلاث سنوات، ولقائد المنطقة في الجيش الإسرائيلي صلاحيات بتحصيل تكاليف الاعتقال والحجز والترحيل، بشرط ألا تتجاوز 7500 شيقل (2200 دولار)، وإذا كانت الفترة التي قضاها قصيرة، فإن إجراءات الترحيل إلى المنطقة التي قدم منها تكون سريعة ولا تتجاوز ثلاثة أيام".
جيش الاحتلال يعتقل ويرحّل الغزيين المقيمين في الضفة
ويرفض المتحدث الرسمي باسم الهيئة العامة للشؤون المدنية تعريف المقيمين بالضفة الغربية من أهالي غزة بـ"المتسللين"، قائلاً إن الفلسطيني الذي يسكن في رفح أو جنين، مواطن له حق الإقامة والحركة والسلطة الفلسطينية وحدها صاحبة الصلاحيات في تحديث هذه المعلومات. لكنه يعترف في الوقت ذاته بأن النقاش فيها مع الإسرائيليين "صعب"، ولا يوجد بوادر لتغيير هذه السياسة.
وتوضح الباحثة القانونية والمستشارة السابقة في وزارة الخارجية الفلسطينية، ليما بسطامي، أن الأوامر العسكرية السابقة تنتهك المادة الـ 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على أن "لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما حق حرية التنقل فيه وحرية اختيار مكان إقامته، ولكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، ولا يجوز تقييد الحقوق المذكورة أعلاه بأية قيود غير تلك التي ينص عليها القانون، وتكون ضرورية لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم، وتكون متماشية مع الحقوق الأخرى المعترف بها في هذا العهد، ولا يجوز حرمان أحد، تعسفاً، من حق الدخول إلى بلده".
فيما يشير قراقرة إلى أنهم يتابعون قضية "المخالفين" وتمكنت الهيئة من الحصول على موافقة إسرائيلية بتغيير مكان السكن لـ 3000 غزّي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
عقوبات جماعية للأقارب
اكتشفت الأربعينية غدير أحمد (اسم مستعار لاعتبارات شخصية) التي تقطن في خانيونس إصابتها بمرض السرطان عام 2021، وحتى تحرير التحقيق ورغم خطورة وضعها الصحي، ما زالت وحدة التنسيق التابعة لجيش الاحتلال ترفض منحها تصريحاً لمرور حاجز إيرز باتجاه الضفة الغربية، رغم حصولها على تحويلة طبية من وزارة الصحة الفلسطينية، لعدم توافر العلاج المناسب لها في قطاع غزة.
وتقول لـ"العربي الجديد"، إن جيش الاحتلال كان يردّ على طلب التصريح الخاص بها بأنه "قيد الدراسة"، لكن بعد توجهها إلى مركز الميزان لحقوق الإنسان، اكتشفت سبباً آخر، وهو وجود زوجها في الضفة الغربية بصفة "مخالف"، وهو ما أكده محامي المركز يحيى محارب، الذي بيّن أنه بعد التدخل القانوني من طرفهم في هذه القضية، جاء الرد على النحو الآتي: "نودّ إبلاغكم، أنه بعد فحص الطلب، قررت الجهات المختصة والمعنية رفضه، بسبب وجود شبهات في إمكانية استغلال التصريح للإقامة غير القانونية في الضفة، نظراً لأن البيانات المتوافرة لدينا تشير إلى أن أحد أقارب مقدم الطلب موجود بصورة غير قانونية بالضفة".
وتبيّن غدير أحمد أنها انتقلت للأردن بهدف تلقي العلاج، الذي لا تستطيع استكماله بسبب تكاليفه العالية مقارنة بالضفة، وهو ما اضطر زوجها للعودة إلى قطاع غزة قبل أسبوعين.
ويكشف محارب لـ"العربي الجديد"، أن مركز الميزان تدخل قانونيا في 350 قضية مختلفة، لكن أغربها كان رفض جيش الاحتلال الإسرائيلي منح شابة مريضة تبلغ من العمر 20 عاما تصريح مرور إلى الضفة الغربية بسبب وجود ابن عم والدها هناك بصفة "مخالف"، مستدركا بأن "الحاجة للحوالات الطبية سببها عدم توفر بعض أنواع العلاج في قطاع غزة بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض عليه".
وتدخل عملية معاقبة أقارب "المخالفين" ضمن انتهاكات دولة الاحتلال، لاتفاقية جنيف، كما تشير المستشارة القانونية بسطامي، معلقة على حالة غدير بأن المادة 33 من اتفاقية جنيف تنص على أنه "لا يجوز معاقبة أي شخص محميّ عن مخالفة لم يقترفها هو شخصياً. وتحظر العقوبات الجماعية" هذا في حال كان قريب والدها قد ارتكب مخالفة.
ويؤكد المستشار السياسي لوزير الخارجية الفلسطيني، أحمد الديك، لـ "العربي الجديد"، أن عرقلة خروج الغزيين للعلاج بحجج المنع الأمني أو وجود أقارب لهم في الضفة الغربية هي إحدى القضايا التي تتابعها الخارجية مع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لأن الاحتلال الإسرائيلي ملزم بتوفير العلاج للفلسطينيين بحسب القانون الدولي.
وتضيف بسطامي أن المادة 56 في اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب تنص على أن "من واجب دولة الاحتلال أن تعمل بأقصى ما تسمح به وسائلها، وبمعاونة السلطات الوطنية والمحلية، على صيانة المنشآت والخدمات الطبية والمستشفيات وكذلك الصحة العامة والشروط الصحية في الأراضي المحتلة"، وحتى في الحالات التي تكون فيها السلطات الوطنية قادرة تمامًا على رعاية صحة هؤلاء السكان؛ تبقى سلطة الاحتلال ملزمة بعدم عرقلة عمل هذه السلطات المسؤولة عن القيام بهذه المهمة.