يوثق التحقيق كيف تلجأ مؤسسات عُمانية إلى شركات وسيطة لتشغيل عمالة لا تحصل على أجر مواز لمن تم تعيينهم بشكل مباشر، كما تضيع حقوقهم ويصبحون عرضة لخسارة الوظائف دون نيل مزايا نهاية الخدمة بسبب غياب التنظيم القانوني .
- نال العشريني العُماني أحمد سالم وظيفة في قسم للمبيعات ببنك في مسقط، عبر شركة خاصة نشرت إعلانا في سبتمبر/أيلول 2021، لكن أحلامه في الاستقرار وبداية حياته تبخرت، إذ فوجئ بأن العقد بينه وبين شركة التوظيف وليس البنك، وبالتالي فإنه "موظف لدى الشركة وتلقى تدريبا فيها ليتم انتدابه للعمل في البنك، ويحق للشركة إنهاء تعاقده في حالة عدم تحقيق الهدف الشهري من المبيعات والذي يحدده البنك"، وفق ما جاء في نص العقد الذي حصلت عليه "العربي الجديد".
ويمتلك سالم كما طلب تعريفه خوفا من فقدان وظيفته التي نالها بشق الأنفس، مؤهلا جامعيا في التسويق، وهو واحد من بين 50 شخصا جرى توظيفهم في البنك بواسطة ذات الشركة، كما يقول مضيفا: "نعمل كلنا وفق تلك الشروط المجحفة التي تحرمنا من الأمان الوظيفي، والأقسى أننا نتقاضى راتبا أقل من زملائنا المعينين بشكل مباشر في البنك ذاته".
مشاكل التنظيم القانوني لعمل شركات التوظيف
تتوسط شركات التوظيف بين المؤسسة الباحثة عن تعيين كفاءات بشرية، والراغبين في العمل، وتستهدف العناصر ذات الخبرة وفق معايير الجهات التي تستعين بخدماتها كما يوضح الدكتور أحمد بن عبد الكريم الهوتي، عضو مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة عُمان ورئيس اللجنة الاقتصادية والدراسات والبحوث بالغرفة.
لكن هل يوجد قانون ينظم عمل تلك الشركات؟ يتساءل من يعانون البطالة ولا يجدون طريقا غير ذلك المسار "الذي يهضم حقوقهم"، ويجيب المحامي هلال بن سيف المعمري والذي يعمل في مكتبه الخاص عن أسئلتهم قائلا: "لا يوجد نص ينظم عملية التوظيف عبر جهة وسيطة ضمن قانون العمل العماني، ومن جهة أخرى، لا يوجد مسمى لنشاط تجاري يُعنى بتوفير القوى العاملة مقابل أجر، لذلك فإن النشاط الذي تضطلع به تلك الشركات غير مدرج في سجلاتها التجارية الصادرة من وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، وتعمل بموجب ترخيص لنشاط آخر، وقد تختبئ وراء مسميات مثل (تقديم استشارات أو الخدمات الاستشارية في مجال موارد البشرية)"، وتتطابق إفادة المعمري مع ما توثقه "العربي الجديد" عبر الاطلاع على عقود العمل التي أبرمتها شركات توظيف، إذ إن بعضها نشاطه الأساسي المصرح به "التسويق والمبيعات"، أو "تقديم خدمات مهنية"، أو شركات استشارات في اختصاصات مختلفة، لكنها على أرض الواقع تمارس نشاط التشغيل لدى طرف ثان.
التوظيف عبر شركات وسيطة يحرم العامل من الاستقرار وأجر نظرائه
وفي الوقت الذي يؤكد فيه مصدر مسؤول في وزارة التجارة والصناعة، طلب عدم ذكر اسمه لكونه غير مخول بالتصريح، أن مهمة الوزارة تنحصر في إصدار التراخيص لممارسة نشاط تجاري محدد ومسجل لديها، ولا يوجد تراخيص لما يسمى شركات توظيف بالسلطنة، يوضح محمد بن عبد الرحيم البلوشي، صاحب مكتب التدابير الشاملة للاستشارات الإدارية والتدريب، والذي يعمل في مجال توظيف القوى العاملة أيضا، كيف حصل على ترخيص قائلا إنه فتح سجلا تجاريا لدى وزارة التجارة والصناعة، ثم حصل على موافقة من دائرة السجل المهني المتخصصة في الشركات الاستشارية سواء أكانت هندسية، أو موارد بشرية، أو إدارية، أو مالية، أو تدقيق، في غرفة تجارة وصناعة عُمان، مستدركا أنه لا يوجد نشاط تجاري منفصل اسمه "توظيف"، وإنما يندرج تحت مسمى استشارات إدارية أو موارد بشرية، ويستثنى من ذلك مكاتب توظيف العمالة المنزلية، مشيرا إلى أن الخدمات التي يقدمها مكتبه تتمثل بالتوظيف والتدريب والتأهيل، وخدمات مساعدة لأي مؤسسة تحتاج إلى تطوير أنظمتها أو اللائحة والنظام الداخلي وسلم الرواتب والترقيات، أو نظام الدرجات الوظيفية، وإعداد هيكلة تنظيمية للمؤسسة.
البطالة أو قبول استغلال شركات التوظيف
يرى نبهان البطاشي رئيس مجلس إدارة الاتحاد العام لعمال السلطنة، أن شركات التوظيف يجب أن ينتهي دورها بحصول الباحث عن عمل على وظيفة أو تقديم دعمها للجهات المستفيدة من الخدمة سواء كانت حكومية أو خاصة، على أن ينحصر دورها في المساهمة بإجراء الاختبارات التحريرية أو المُقابلات الشخصية أو المفاضلة بين المترشحين للوظيفة، وهي مهام يقول البلوشي إن شركته ملتزمة بها، إذ تستلم طلبات المؤسسات سواء أكانت حكومية أو خاصة، والتي ترغب في توفير موارد بشرية بسبب وجود وظائف شاغرة، ويتم الإعلان عن الشواغر عن طريق شركة البلوشي الوسيطة بعد استلام الطلب مع الوصف الوظيفي وسلم الرواتب، "وتتقاضى الشركة مقابل خدماتها من المؤسسة التي تطلب القوى العاملة ولا تحصل من الباحث عن عمل على أي مبالغ، أما راتب العامل الذي شغل الوظيفة فيتقاضاه من الجهة المشغلة ولا علاقة لشركتنا به".
لكن ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" عبر رصد 8 حالات في مؤسسات مختلفة، عكس ما سبق، إذ إن شركات التوظيف تتغول على حقوق من تشغلهم، ومن بينهم رسمية سعيد، (اسم مستعار حتى لا تخسر وظيفتها في بنك عملت فيه عن طريق شركة توظيف)، والتي تقول إنها تعمل تحت تهديد مستمر بإنهاء العقد في حالة عدم تحقيق نسبة المبيعات المطلوبة، إذ يبين العقد أن مسماها الوظيفي تسويق وترويج المنتجات المالية للعميل مثل بطاقات ائتمان - تمويل - وكالة، وتتقاضى 500 ريال عُماني (1300 دولار) راتبا شهريا، في حين يتقاضى الموظف بالعقد المباشر دون وجود شركة توظيف وسيطة 800 ريال عُماني (2077 دولارا)، وتتساءل أين ذهب الفارق؟
بدأت ظاهرة التعاقد عبر شركات التوظيف مع الأزمة المالية في 2018
ويقرّ البلوشي بأن شركات توظيف قد تتفق مع المؤسسات التي تؤمن لها موظفين على دفع الرواتب من خلالها وتحسم منهم شهريا مبالغ زاعمة أن ذلك مقابل خدماتها، وبحسب المعمري فإن هذه الشركات استغلت حاجة الباحث عن العمل، وهو ما يحقق لها أرباحا كبيرة خاصة في حال منحتها الحكومة مناقصات وعقودا حكومية، كما هو الحال في حالة الشركات النفطية، والتي تعمل عبر نظام (out sourcing) وهو استخدام كفاءات وأفراد من مؤسسات أو شركات أو جهات ثالثة، من أجل تطوير العمل وتوفير المال والطاقة والوقت في مختلف القطاعات، بحيث تعطى شركات النفط الجهة الثالثة أو الوسيطة عددا من المهام لتقوم بها عبر تعاقد بين الطرفين، لكن تطبيق هذا النظام بلا قانون ناظم خلق مشاكل عديدة وتسبب بخسارة العاملين من الحاصلين على وظائفهم عبر تلك الشركات لحقوقهم، ومن أبرز المشاكل بسبب هذه الآلية أن شركات التوظيف تحصل على أجور مقابل خدماتها عبر الاقتطاع من رواتب العاملين أنفسهم في حال لم تدفع لها الجهة التي تطلب العمالة مصاريفها، ما يحتّم وجود قانون أو إجراء يلزم المؤسسة الطالبة للعمالة بأن تدفع مستحقات شركات التوظيف كما يقول.
حقوق ضائعة
يتذرع القطاعان الخاص والحكومي بـ"سوء الوضع المالي"، من أجل تعيين الموظفين عبر شركات التوظيف، كما يقول الناشط الحقوقي والعمالي يوسف الزدجالي، والذي يعمل مستشارا قانونيا بمكتب للمحاماة، قائلا: "رصدت بدء هذه الشركات في العمل منذ عام 2008 واستهدفت غير العمانيين في البداية، وزاد انتشارها بشكل تدريجي عقب تراجع سوق النفط والأزمة المالية والاقتصادية العالمية وتداعياتها على القطاعين العام والخاص في عمان، حتى أصبحت مؤسسات تعليمية عليا تطرح الوظائف عن طريق هذه الشركات بحجة عدم القدرة على توفير درجات مالية، ثم ازداد الأمر بشكل أكبر بعد عام 2013، لانعدام الرقابة والمحاسبة على هذه الممارسات وأصبح يتم توظيف العمانيين من خلالها أيضا"، كما كان الحال في الكليات التقنية التي كانت تتبع لوزارة العمل قبل أن يجرى ضمها بموجب مرسوم سلطاني إلى جامعة التقنية والعلوم التطبيقية، إذ كانت تؤمّن حاجتها من المحاضرين عبر شركات التوظيف، وأغلقت باب التعيين المباشر، ومن هؤلاء الذين عملوا فيها أستاذ اللغة الإنكليزية يوسف الجابري، الذي يقول لـ"العربي الجديد" أنه لم تتوفر فرص للتوظيف في الكليات التقنية منذ 10 سنوات إلا عن طريق شركات توظيف، وبحسب قوله، تضمن العقد شروط العمل مع تفاصيل الراتب الذي يختلف عن زملائه المعينين في الوظيفة ذاتها عن طريق وزارة الخدمة المدنية آنذاك، إذ كانت رواتبهم أعلى بفارق يتراوح بين 600 و1000 ريال (1558 و2597 دولارا)، ويحصلون على كامل إجازاتهم، أما المحاضر الذي توظف عن طريق شركات التوظيف فلا يحصل على إجازات مماثلة لزملائه، ما دفعه إلى تقديم شكوى ومجموعة من المحاضرين المتضررين، وأحيلت إلى مجلس الشورى ورئاسة الوزراء، ولم تنته حتى كتابة هذا التحقيق، بينما بررت وزارة العمل اعتمادها على شركات التوظيف بحاجتها إلى سد النقص الحادّ في الكادر، نتيجة رفع الطاقة الاستيعابية للكليات من 20 ألف طالب إلى 41 ألفا، في الكليات التقنية السبع، لكن تصاعد الشكاوى من المحاضرين وإثارة ذلك على السوشال ميديا دفع وزارة العمل إلى الإعلان عبر موقعها الرسمي، في الرابع من يونيو /حزيران 2021، أنها وضعت خطة إحلال مناسبة للعقود مع شركات التوظيف، بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختلفة، على أن تعتمد التعاقد المباشر أو التدريب المناسب للشباب العماني، وتواصل "العربي الجديد" مع وزارة العمل عبر المكتب الإعلامي لتوثيق تطورات دورها الرقابي على عمل شركات التوظيف دون رد حتى نشر التحقيق، بينما ينتظر الجابري وزملاؤه ممن توظفوا عبر تلك الآلية تحسين ظروفهم ومساواة رواتبهم مع زملائهم.
وتبدو المشكلة بشكل جلي، في تفضيل شركات النفط للتعيين عبر آلية الشركات الوسيطة، حتى لو كانت تدفع لها مبالغ أكبر من الرواتب التي ستدفعها للموظف الذي يتم التعاقد معه عبر التعيين المباشر، والسبب يعود إلى سهولة الاستغناء عن الموظفين عبر تلك الطريقة، في حال ارتفاع النفقات وانخفاض سعر النفط وتحقيقها خسائر تسعى إلى تقليلها عبر التخلص من رواتب العاملين، كما أن من تم توظيفهم عن طريق شركات التوظيف لن يكون لهم حقوق عند نهاية الخدمة في ظل أن التعاقد بين الموظف وشركة التوظيف، ولا يفرض عليها أي تبعات في حال إنهاء عمله، وفق ما رصده الزدجالي.
ويتفق رئيس مجلس إدارة الاتحاد العام لعمال السلطنة مع الناشط العمالي، في أن المؤسسات التي تلجأ إلى شركات التوظيف بدلا من التعاقد مباشرة مع الموظفين تعمل على توفير قوى عاملة دون استحداث درجات وظيفية ومالية، وهو ما يحتاج إلى موافقات من جهات أخرى، وصرف علاوات دورية لهؤلاء الموظفين؛ ومنح ترقيات مالية أو وظيفية، ودفع مُساهمات في النظام التقاعدي للموظف، وصرف مكافآت سنوية أو تشجيعية أو أي مزايا أخرى بموجب القوانين واللوائح، وبالتالي عدم إنفاق تلك الأموال في حال التعاقد مع شركات وسيطة تصبح هي المسؤولة عن الموظف بسبب تعاقده معها.
لكن المحامي المعمري يعتبر أن وجود مثل تلك الشركات وتطوير نظام التوظيف واستقطاب العمالة المدربة الماهرة التي تحتاجها بعض المؤسسات صار حاجة ملحة، غير أن الأمر يجب أن يتم عبر تشريع يحكم أعمالها حتى لا تستغل حاجة العمانيين وتهضم حقوقهم العمالية والقانونية عبر عقودها المجحفة، وهو ما عانى منه عبد العزيز راشد (اسم مستعار خوفا من فقدان عمله)، والذي يعمل فنيا في قسم تقنية المعلومات بإحدى الشركات الحكومية منذ عامين، ولكن عقده عبر شركة توظيف، يتقاضى من خلالها 560 ريالا (1454 دولارا) ولا يتمتع بأي حقوق، بينما راتب نظرائه ممن يقومون بنفس العمل ومعينين على الشركة الأصلية ولديهم مزايا وظيفية ضعف راتبه ويبلغ 1200 ريال.