يرصد تحقيق "العربي الجديد" بنْية خطاب الرئيس التونسي خلال حملته الانتخابية وبعد تسلمه المنصب، بحثاً عن الاستمالات التي اعتمد عليها للسيطرة على الجمهور والتلاعب به وتشويه خصومه وصولاً إلى إلغاء المؤسسات الدستورية.
- يصف كريم بوزويتة، أستاذ الأنثروبولوجيا والمختص في الاتصال وتحليل الخطاب السياسي بمعهد تونس للسياسة (بحثي)، خطابات الرئيس التونسي قيس سعيد بـ"أداة اكتساب الشعبية" التي اعتمد عليها حتى قبل أن يصبح في منصبه الحالي، إذ لجأ إلى ظهور متكرر يقوم على رسم صورة ذهنية قوامها الاستقلال عن المنظومة الحزبية من أجل ترك انطباع استثنائي لدى الجمهور خاصة في توقيتات مؤثرة بعد 10 أعوام من خيبة الأمل جراء تَحوُّل الشعور العام من الأمل والتطلع إلى المستقبل يوم 15 يناير/ كانون الثاني 2011 إلى الخجل مما آلت إليه أوضاع الثورة وخاصة ما يتعلق بالتدهور الاقتصادي والاجتماعي.
وهيأت خطب سعيد للجمهور بأنه قادر على إعادتهم إلى فترة الفخر بدولتهم، ويستحضر في ذلك سردية واضحة مفادها أن الشعب النقي تم التغرير به من قبل السياسيين، وأنه قادر على نقلهم إلى بر الأمان، لذلك تعلقت به شريحة واسعة، ما قاد إلى فوزه بالمنصب، ومن ثم أيدته بعد ذلك في ما قام به.
لكن كيف بنى سعيد خطاباته وما هي الاستمالات والأدوات التي اعتمد عليها للسيطرة على الجمهور وما هي أبرز تناقضاتها؟ وللإجابة عن الأسئلة السابقة اختارت "العربي الجديد" عينة من خطابات الرئيس التونسي وأجرت تحليلا للمضمون كميا (إحصائي) وكيفيا. وشملت العينة 23 خطابا، 10 منها كانت خلال الحملة الانتخابية التي امتدت من 3 إلى 13 سبتمبر/ أيلول 2019، و13 خطابا بعد تسلمه منصبه في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ألقاها في عدد من المناسبات، أولاها خلال أداء اليمين الدستورية في 23 أكتوبر 2019، وصولا إلى خطابه في 3 مارس/ آذار 2022 الذي جاء في مستهل اجتماع دوري لمجلس الوزراء أعلن فيه جملة من المشاريع والأوامر "لتطهير البلاد"، وفق قوله.
التكرار وسيلة للإقناع
رصدت "العربي الجديد" عبر أداة السحابة الكلامية WordSift والتي تحلل المفردات المستخدمة، تكرار سعيد كلمات بعينها في خطاباته التي بلغت مدتها الإجمالية 6 ساعات و46 دقيقة بمجموع 4160 كلمة، وكانت أكثر الكلمات المتداولة على لسان الرئيس التونسي خلال الحملة الانتخابية هي شعب بعدد 33 كلمة، ثم جديدة كررها 18 مرة أثناء إشارته للمرحلة القادمة، أما القانون فكانت بمعدل 12 مرة، وتاريخ وتونس بعدد 10 مرات، ولم يتوان عن توجيه الاتهامات المتكررة لخصومه أيضا، إذ نعتهم بالكذب 20 مرة، و11 مرة بالافتراء، والتواطؤ 4 مرات، و5 مرات بالجهل، والاندساس وبيع الذمم وشرائها 5 مرات، والخيانة 6 مرات، و3 مرات بأنهم لصوص.
أما الخطابات التي ألقاها بعد تسلمه المنصب، فكانت كلمة الشعب أو شعبنا هي أكثر كلمة رددها بمقدار 85 مرة، ثم الدولة في 72 موضعا، والحكومة 43 مرة، أما الدستور فتكررت 36 مرة، وتكررت الإشارة إلى القضاء والقضاة في 12 مناسبة.
ويهدف اعتماد تكرار الجمل والعبارات إلى تحفيز العقول على حفظ المقاصد بشكل آلي والوصول إلى الإقناع السهل، وهو ما لجأ إليه سعيد، بحسب توضيح سمية بالرجب، المختصة في تحليل الخطاب والباحثة في الاتصال السياسي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار (مؤسسة جامعية)، والتي توضح أنه "عادة ما يحيلنا التكرار إلى قاعدة من قواعد الاتصال السياسي المعروفة وهي آلية التأثير على اللاوعي لدى المتلقي وتحفيز العقول آليا في غالب الأحيان لاستبطان المعلومة المكررة ووضعها ضمن خانة المسلمات، ويتجلى ذلك في اختيارات سعيد للعبارات التي قصد تكرارها والتي تمثل أهدافا يسعى إليها الشعب، مثل "الشعب يريد بناء جديدا، نظاما جديدا، تاريخا جديدا، مرحلة جديدة، لحظة تاريخية، نهاية الفقر والبؤس"، وأنه شخصيا ساع إلى تحقيق ذلك عبر تصور مختلف غير تقليدي، وفقا لما أشار إليه في خطاباته.
كيف بنى سعيد خطاباً شعبوياً؟
اعتمد سعيد على أسلوب الإبهار والتفخيم في إلقاء كلمات أو عبارات بعينها، مُقرِنا ذلك بالتكرار، على سبيل المثال حين كان يذكر كلمة الشعب والذي يعد أكثر لفظ متداول على لسانه، يلجأ إلى صفات التفخيم، ويكرر ذلك مثل قوله "الشعب التونسي شعبنا العظيم"، وقوله "الشعوب استلهمت من إرادتكم".
اعتمد سعيد على أسلوب الإبهار والتفخيم وتشويه خصومه
في المقابل، فإن سعيد يتعمد إلى جانب إظهار حبه للشعب "تخوين الآخر" الذي يصوره على أنه ضد مصلحة الشعب، والبحث عن عيوبه التي يتم التركيز عليها في الخطابات، وهي قاعدة، بحسب بالرجب، تُعرف في علم تحليل الخطاب بـ"قاعدة الإكثار من ذكر السلبيات عن الخصم"، ولها بعد اتصالي هام خاصة في الحروب والأزمات السياسية، وتضيف: "نجح سعيد إلى حد ما في إقناع جمهوره بأنه على حق والآخرون في ضلالهم يعمهون، ومن أمثلة ذلك ما قاله أثناء الكلمة التي ألقاها أمام أعضاء حكومة هشام المشيشي إثر أدائهم اليمين الدستورية في قصر قرطاج في 2 سبتمبر 2020: (بعضهم يكذب بناءً على الفتوى لأنه فتح دار إفتاء)، مضيفا (سيأتي اليوم لأتحدث بكل صراحة عن الخيانات والاندساسات وعلى الغدر وعلى الوعود الكاذبة وعلى الارتماء في أحضان الصهيونية والاستعمار)". وهذه أمثلة على الأسلوب الضمني العدواني الذي تميز به سعيد، أي أنه يرمي اتهامات دون أن يسمي شخوصا"، وفق توضيح بوزويتة.
ومنذ حملته الانتخابية، وحتى الآن، يستعمل سعيد "الخطابات الشعبوية"، والشعبوية بحسب بوزويتة "نشأت في إطار تيارات سياسية تبني خطابها على العاطفة من أجل الوصول لأهدافها"، وتضيف الدكتورة شهيرة بن عبد الله، أستاذة علوم الإعلام والاتصال وتحليل الخطاب في معهد الصحافة وعلوم الإخبار أن "الخطاب الشعبوي يروج حلولا بسيطة لمشاكل معقدة، وتتسم وعوده الانتخابية بالغموض والتعميم لأنها لا تقوم على دراسة للواقع، ومن ذلك غموض مفهوم (مجتمع القانون) الذي ورد على لسان الرئيس خلال الحملة الانتخابية يوم 7 سبتمبر 2019 في توزر، والذي أقر خبراء في القانون الدستوري والذي عمل الرئيس أستاذا له في الجامعة التونسية، بعدم وضوحه"، مؤكدة أنه حين تصطدم سطحية الحلول بتعقيد الواقع "تستكين الرومانسية الثورية والوعود الانتخابية وتتحول إلى ممارسة سياسية تتعامل بما يتيحه الواقع ويفرضه".
ولاستثارة العاطفة أكثر، يظهر سعيد دائما في شكل الشخص الحازم الذي يريد تحقيق أهدافه دون نقاش أو حوار مستخدما نبرة صوت مرتفعة وملامح تدل أحيانا على الغضب، لينقل صورة الإصرار وعدم إتاحة الفرصة لأي فكرة أو تصور آخر يعارض فكرته، بحسب الكاتب والمحلل السياسي خالد البارودي.
ويستند سعيد إلى البلاغة اللغوية باستحضار الشعر والتاريخ وآيات قرآنية في خطاباته، وبالتالي يجلب الانتباه ويترك انطباعا لدى الشعب بأنه ملمّ بالعربية وليس فرنكوفونيا، وفق تفسير بوزويتة، ليقنع الشعب بأنه الشخص المناسب الذي يبحث عنه منذ زمن.
بالمقابل يعتبر محسن النابتي، الناطق الرسمي باسم حزب التيار الشعبي المؤيد للرئيس التونسي، أن سعيد لديه أسلوب خاص في الخطاب السياسي يختلف عن جزء كبير من الطبقة السياسية التي اتبعت "قوالب معلبة"، حتى تحول السياسيون الى دمى متشابهة بالخطاب نفسه، لكن سعيد اختار نهجا آخر منذ ظهوره ينبع من تخصصه في القانوني الدستوري، وبالتالي جزء من ثقة التونسيين التي كسبها مصدرها حفاظه على خصوصيته وتميزه، إذ رسم لنفسه خطا اتصاليا وسياسيا مختلفا عن النخبة، وهذه إحدى نقاط القوة.
تناقضات وتعتيم وتجنب الوعود
أعلن سعيد خلال خطابه بالقصرين، وسط غرب البلاد، أثناء حملته الانتخابية في 7 سبتمبر 2019 أن مشروعه يقتضي تعديلا للدستور وأن من حق رئيس جمهورية المبادرة في هذا السياق، ووصف الدستور خلال عرض برنامجه الانتخابي في 12 سبتمبر 2019 بسوسة، جنوب العاصمة، بأنه "وضع على المقاس كما وضع دستور 1959، كالرداء أو كالحذاء مرة يؤول في هذا الاتجاه ومرة يؤول في ذاك بحسب الحاكم الذي يريد أن يضفي مشروعية على وجوده، دون أن يحقق به آمال شعبه"، لكنه أبدى عكس ذلك خلال افتتاح حملته الانتخابية في توزر، جنوب غرب تونس، في 9 أكتوبر 2019، بقوله: "لا بد من احترام الدستور، المرجع هو النص الدستوري"، مشددا على أنّه لا يمكن لرئيس الجمهورية إلا أن يحترم النص الذي وصل به إلى المنصب الذي يتولاه على رأس الدولة.
وكان هذا التناقض والتعتيم على أي خطط مستقبلية ودقيقة بشأن الدستور حاضرا في خطابات الحملة، قبل أن يؤدي سعيد اليمين الدستورية أمام البرلمان التونسي، ويقسم على احترام الدستور، ليفاجئ الجميع بعد 5 أشهر بإعلانه عن إجراءات استثنائية، ومن ضمنها تعديل دستور 2014 وبعدها تعيين لجنة لصياغة دستور جديد وتنظيم الاستفتاء عليه.
خطابات سعيد تقوم على رسم صورة "الرئيس المخلص"
وتفسر بن عبد الله لجوء سعيد إلى تلك الإجراءات بقولها "الرئيس التونسي يرفض التعايش مع المنخرطين في النظام السابق، ومن الطبيعي أن يرفض إرثه"، مشيرة إلى انتقاده الدستور منذ حملته، وأضافت "تغيير الدستور والقانون الانتخابي وتعديل قانون الجمعيات وغير ذلك من التعديلات يدخل في إطار إعادة صياغة نظام الحكم القائم على التمثيل الشعبي الذي يقوده زعيم شعبوي، وهذا التغيير ينبع إذن من الأساس الذي تقوم عليه الشعبوية السياسية، والهادف إلى ضرب كل المؤسسات والأجسام الوسيطة التي تواجهه وتعطل علاقته المباشرة التي يرومها مع شعبه الذي يمثله، لذلك هو ينصّب نفسه في الخطاب وعلى أرض الواقع ممثلا أوحد للشعب يرفض المؤسسات الدستورية والحزبية والمدنية والنقابية التي ستحول بينه وبين هذا الشعب".
طرح مفاهيم جديدة
يحاول الرئيس سعيّد على الدوام أن يظهر بصورة صاحب الرؤية الذي يسعى لإلغاء القديم بكل تمظهراته، بل يريد أن يؤكد أن رأيه فقط هو الصواب من خلال طرح مصطلحات يعتقد أن الناس لا تعرفها، أو مفاهيم جديدة، كما يوضح البارودي، لذلك كانت فكرة البناء القاعدي أو الهرم المقلوب حاضرة في خطابات حملته الانتخابية، ويتكون هذا الهرم، وفق ما يفسر قيس سعيّد في حوار صحافي أجراه في 12 يونيو/ حزيران 2019، في أعلى مستوى له، من مجالس محلية على عدد المعتمديات (مقاطعات ضمن المحافظات) في تونس، أي 264 مجلساً محلياً، يُنتخب أعضاؤه عن طريق الاقتراع المباشر على الأفراد من كل معتمدية، وتنبثق عنها مجالس جهوية على عدد الولايات في تونس أي 24 مجلسا جهويا، ويعُد كل مجلسٍ عضوا واحدا ممثلا عن كل معتمدية، وهي رؤية لـ"لإعادة البناء السياسي والإداري حتى تصل إرادة المواطنين في كل معتمدية إلى المستوى المركزي"، بحسب ما قاله في خطاب بالقصرين في 6 سبتمبر /أيلول عام 2019 خلال تقديم برنامجه الانتخابي، وكرر ذلك في خطاب بتوزر في 7 سبتمبر 2019، قائلا أن "البعض ربما لم يعقل اللحظة لكن عليه أن يقرأ أننا طوينا صفحة ويجب أن نفتح صفحة أخرى بمفاهيم جديدة بناء على فكر سياسي جديد، لا يمكن أن نبني للمستقبل بفكر بائد بائس بمفاهيم تجاوزتها الأحداث". وتكرر حديثه حول البناء الديمقراطي الجديد 5 مرات في الخطابات الـ 23 التي رصدها "العربي الجديد" وألقاها في عدة ولايات.
ويشير البارودي إلى أنه لا يرى مشكلة في أن يكون لقيس سعيد مشروع ورؤية يناقشها وتنبع من صفته الأكاديمية، لكن الأمر يختلف، على حد قوله، حينما يتحول إلى رئيس للجمهورية التونسية وصل إلى منصبه عبر أحكام دستور 2014 وأقسم على احترام بنوده، وهو مستأمن على احترام بنوده، كما أن هناك مآخذ على طريقة الرئيس في تنفيذ مشروعه، إذ يرى البارودي أنه "كان عليه أن يعرض هذا الطرح للحوار حوله والنقاش بخصوص تفاصيله، أما أن يحمل رؤية ويتمسك بها ويحاول فرضها حينما تتوفر له فرصة السلطة، فهذا ما يعيبه عليه الجميع"، بينما يعتبر بوزويتة أن سعيد اتخذ في طرحه هذا طابع الزعيم العربي الذي يعتمد "مبدأ أن كل ما سبقه خاطئ".
قيس سعيّد يحاول، حسب البارودي، أن يتوجه إلى فضاء يعتقد أنه بإمكانه من خلاله دغدغة مشاعر الناس بكثير من الشعارات الجوفاء، مثل (محاربة الفساد)، والمصطلحات التي لا يمكن تطبيقها على الأرض كصناعة التاريخ، فنجده مثلا يرفع ملف الفساد لإدراكه أن هذا الملف لديه حساسية لدى كل الناس، ولكن بعد مرور عامين على استلامه السلطة، لم نجده فتح ملفا واحدا في هذا المجال.
ولا يشكّ النابتي في أن قيس سعيّد يدرك أن الفساد واحد من المعوقات الرئيسية في تونس، ولديه رغبة في مقاومته حتى من خلال بعض النصوص والمراسيم التي أصدرها، مثل مرسوم الاحتكار، ولكن في النهاية، لم يكن مدركا للتعقيدات الضخمة الموجودة على أرض الواقع.
التحول في خطاب الرئيس
في خطابه في توزر في السابع من سبتمبر 2019، تحدث سعيّد إلى الجماهير حول مقترح لإنشاء هيئة قضائية تتكون من 5 أعضاء، وتعنى بالجرائم ذات الطابع الاقتصادي، لكنه لم يتطرق في خطاباته الأخرى خلال الحملة إلى نيته إجراء أي تدابير تتعلق بالسلطة القضائية، غير أنه بات يطلق الانتقادات لمنظومة القضاء عقب انتخابه رئيسا للبلاد، إذ أشار إلى ضرورة تطهير القضاء، ومن ذلك ما جاء في خطابه خلال إحياء اليوم الوطني للمرأة يوم 13 أغسطس/آب 2020 في قصر قرطاج، قائلا "للأسف قصور العدالة تتسلل إليها إلى حد اليوم هذا، السياسة، وحين تتسلل السياسة إلى قصور العدالة ويجلس رجال السياسة على أرائك القضاة بلباس القضاة، فإن العدالة تخرج من تلك القصور".
ويبين الرصد أن لفظ القضاء/القضاة تكرر 12 مرة، 11 منها في خطابات بعد الفوز، وارتبط استحضارها بطرح مسألة الصلح الجزائي (إنهاء التتبع القضائي لمرتكبي جرائم الفساد المالي مقابل إرجاع ما نهبوه)، وتورط قضاة في نهب "المليارات، كما جاء في خطابه لدى إعلانه حل المجلس الأعلى للقضاء يوم 6 فبراير/ شباط 2022، الذي ألقاه في وزارة الداخلية، بقوله :"لو أتيت إليكم اليوم ولدي بالتأكيد الوثائق حول الأملاك وعن الأموال التي حصل عليها عدد من القضاة، ربما لا يصدق التونسيون، مليارات المليارات ... نبهتهم وحذرتهم وقلت لهم إن صواريخنا على منصات إطلاقها تكفي إشارة واحدة منا لأن تصيب هؤلاء في أعماق أعماقهم".
ويعتبر المحلل السياسي خالد البارودي أن رئيس الجمهورية أطلق العديد من الانتقادات للمؤسسة القضائية، في سعي منه إلى الضغط على القضاء حتى يتماشى مع خياراته، على اعتبار أن مؤسسة القضاء هي السلطة المستقلة التي مثلت عقبة أمام كل من سعى إلى السيطرة أو الاستبداد، وبالتالي، يحاول رئيس الجمهورية أن يخضع هذه السلطة لصالحه أو على الأقل للتماهي مع قراراته، وهو ما تؤكده بالرجب بأن سعيّد، خلال خطاباته، وجه رسائل قوية للقضاء، بحثا عن تسريع الإجراءات والعمل القضائي في ملفات بعينها فنجده يصرح في 6 ديسمبر/كانون الأول 2021، لدى استقباله رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بو زاخر ورؤساء مجالس القضاء العدلي والمالي والإداري، أنه يعتبر القضاء وظيفة وليس سلطة، وهذا ما يتماشى مع رؤيته وسعيه لتجميع السلطات بين يديه، "كونه لا يرى أي سلطة أخرى سواه"، بحسب البارودي، وترجم سعيد هذه الرؤية إلى فعل عندما أعلن، في السادس من فبراير 2021، أن "المجلس الأعلى للقضاء أصبح في عداد الماضي"، قبل أن يصدر المرسوم رقم 11 لعام 2022 في 12 فبراير 2022، الذي يقضي بتأسيس مجلس أعلى مؤقت للقضاء، وتغيير في تركيبة أعضائه ومنح صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية.
المنهج الذي اتبعه سعيّد في التعامل مع ملف القضاء بتغييبه من خطابه خلال الحملة الانتخابية، أو التعتيم على نواياه بشأنه، هو جزء من سياسته بتجنب إطلاق الوعود المتعلقة بهذه الأمور، لذلك لم يقدم برنامجا انتخابيا يعد بشيء واضح، بحسب بالرجب، وينسحب ذلك على البرلمان الذي قام بحله في 25 يوليو/تموز 2021.
ولا يتفق النابتي مع ما سبق، مؤكدا أن ما أقدم عليه قيس سعيّد انطلاقا من قناعته أن مؤسسات الدولة القضائية وغيرها تخدم منظومات الفساد في الدولة، علما أنه لم يكن يصدق أن للفساد دولة، وبعد وصوله إلى الحكم، اصطدم فعليا بهذا المعنى، لذلك يجد نفسه في صعوبة لم يكن يقدرها، وفق النابتي، بخاصة بعد أن أصبح ينظر إليه الشعب التونسي كمخلص من المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها يوميا، وليس مخلصا من المنظومة السياسية السابقة.