يعكس عدد حوادث العمل في الجزائر، مشكلة الاستهتار بإجراءات الأمن والسلامة، والتي تتفاقم بسبب غياب الثقافة القانونية لدى العمال ما يجعلهم يفرطون في حقوقهم بينما يتملص أرباب عمل من المسؤولية عبر تقارير مغلوطة.
-أصيب الخمسيني الجزائري بوعشير الطاهر، بشلل في يده جراء سقوطه من أعلى سلم مهترئ في ورشة بناء تشرف على تسييرها شركة مقاولات خاصة بولاية سكيكدة التي تبعد 500 كيلومتر عن شرق العاصمة.
"كان السلم مهترئا، غير أنني حاولت استكمال أشغال البناء، لعدم وجود بديل"، كما يقول الطاهر والذي تلفت أعصاب يده، وانتهت مسيرته في العمل، والمشكلة أنه لم يكن لديه تأمين اجتماعي، وكل ما حصل عليه من رب العمل هو مبلغ 15 ألف دينار (110 دولارات أميركية)، في حين أن راتبه الشهري كان يعادل 25 ألف دينار (180 دولارا)، وحاليا يتلقى 3 آلاف دينار (23 دولارا)، ضمن المنحة الحكومية الشهرية لذوي الاحتياجات الخاصة. اللافت أن الطاهر لم يكن يعرف حقوقه، واستغرق ثمانية أشهر عقب الحادث، ليتقدم بشكوى لدى مصالح الضمان الاجتماعي ومفتشية العمل، غير أن القضية لم يتم الفصل فيها منذ مارس/آذار 2019، بينما يرفض رب العمل الطاهر خلفة التعليق على الملف، وينكر وجود عتاد مهترئ بالورشة، قائلا: "القضاء سيفصل في الشكوى".
86 ألف حادث عمل في عامين
يعرف قانون حوادث العمل والأمراض المهنية رقم 83-13 في المادة 06 بالتالي: حادث العمل بأنه ما نتجت عنه إصابة بدنية لسبب مفاجئ وخارجي وطرأ في إطار علاقة العمل، أي أن الحادث ينتج عن علاقة العمل وفي أوقات العمل الفعلية، كما يوضح المحامي والقاضي السابق، عثمانية خميسي والذي لفت إلى أن المادة 07 تضيف الحوادث التي يمكن أن تكون خارج أماكن العمل في حال "القيام خارج المؤسسة بمهمة ذات طابع استثنائي أو دائم طبقا لتعليمات المستخدم".
وتعد حادثة الطاهر واحدة من بين 86 ألفا و57 إصابة عمل بين عامي 2019 و2020، منها 49 ألفا و782 حادثة في 2019 و36 ألفا و275 في 2020، ومن بينها 31 بالمائة في قطاع الخدمات، و19.9 بالمائة في قطاع الأشغال العمومية والبناء و10 بالمائة في قطاع الحديد و8.8 بالمائة في قطاع الصناعة الغذائية والنسبة المتبقية موزعة حول كافة القطاعات، وفق ما يكشفه موسى ياسين، المدير المركزي للأداءات على مستوى المديرية العامة للضمان الاجتماعي بوزارة العمل (تحقق في تجاوزات العمل).
86 ألف حادث عمل سُجلت في عامين بالجزائر
وتقع 70 بالمائة من حوادث العمل المسجلة في الجزائر، بما فيها غير المبلغ عنها لدى مصالح الضمان الاجتماعي، في ورشات البناء، وتتعلق بالدرجة الأولى بالسقوط من المرتفعات العالية التي تتسبب إما في الوفاة أو الإعاقة، متبوعة بحوادث السقوط في الحفر ثم الصواعق الكهربائية، بحسب إفادة ليلى ميلودي، الناطقة الرسمية لهيئة الوقاية الوطنية من الأخطار المهنية في نشاطات البناء والأشغال العمومية (تعمل على التوعية بأخطار حوادث العمل)، والتي تشدد على أن الجولات الميدانية والتفتيشية التي قادتها لمختلف ورشات العمل خلال عام 2020 مرفوقة بممثلي طب العمل والضمان الاجتماعي، خلصت إلى تقرير يفيد بتراجع نسبة حوادث العمل في هذه القطاعات بنسبة 30 بالمائة في الولايات الشرقية والوسطى وارتفاعها بنسبة 40 بالمائة في الولايات الغربية، بسبب نقص وسائل العمل على مستوى الورشات وغياب الإمكانيات.
تهرّب أرباب العمل من المسؤولية
يعد جهل العامل بالخطوات الواجب انتهاجها في حال تعرض لإصابة عمل أبرز أسباب عجزه عن استرجاع حقوقه، وفق ما يرصده البروفيسور مصطفى حداد، المختص في طب العمل بالمستشفى الجامعي إبن باديس قسنطينة، 300 كلم شرق العاصمة والخبير المعتمد في قضايا العمل لدى المحاكم الجزائرية، والذي شدد على خطورة التقرير الذي يودعه صاحب الشغل لدى العدالة، ويؤكد من خلاله توفر كافة الإمكانيات ووسائل الأمان على مستوى الورشات وغيرها من المغالطات والمشكلة أن الضحية عادة لا يطلب الاطلاع عليه، مؤكدا "على أهمية التقرير والطعن في حال التلاعب بالحقائق، من أجل حفظ حقوق العامل".
كما يضغط بعض أرباب العمل على الضحية لعدم التصريح بالحادث، والاتفاق وديا معه، أو استغلال عدم وعي العامل لأهمية إيداع الشكوى، إذ إن بعض العمال يتعاملون مع القضية على أنها "قضاء وقدر"، وهو ما وثقه حداد في القضايا المسجلة خلال السنوات الأخيرة، ما يمنع معظم العمال من تلقي التعويضات المستحقة، خاصة أن أرباب العمل يعمدون إلى تقديم تقارير مغلوطة لدى القضاء، تؤكد على توفر الإمكانيات اللازمة لاحتياطات الأمن والسلامة.
31 في المائة من إصابات العمل في الجزائر بقطاع الخدمات
ويرد سامي عقلي، رئيس الكونفيدرالية الجزائرية لأرباب العمل المواطنين (تضم أكثر من 4 آلاف رجل أعمال)، بأن المؤسسات الخاصة تحترم معايير العمل وتطبق ما ينص عليه القانون بشأن إلزامية حماية العمال، مضيفا: "بصفتي رئيسا لمنظمة أرباب العمل قمت بزيارة لعدد كبير من المؤسسات الخاصة، حيث تتوفر جميع الإمكانيات لحماية العمال"، وأردف قائلا: "في حال تم تسجيل تجاوزات يجب التبليغ عنها من طرف العمال والنقابات".
ماذا يجري في القطاع الحكومي؟
سجلت أشغال الديوان الوطني للتطهير، (مؤسسة حكومية مكلفة بمشاريع تطهير المياه)، غرق 8 عمال بين شهري مارس/آذار ومايو/أيار 2021، على مستوى ولايتي بجاية والبليدة في أنفاق المياه، ويعيد المكلف بالإعلام على مستوى وزارة الموارد المائية مصطفى شاوشي سبب هذه الحوادث إلى مسؤولية المؤسسات الخاصة المشتغلة بالتنسيق مع الديوان والحائزة على الصفقات، إذ إن عتادها مهترئ، ولا توفر الإمكانيات المطلوبة، رغم تصريحها بالعكس عند توقيع اتفاقيات الصفقة، مشددا على أن الديوان لم يسجل أي حادثة عمل مماثلة لعماله منذ تأسيسه.
ويرى البروفيسور حداد، أن القانون المنظم للتعامل مع حوادث العمل غير كاف، في ظل عدم تبليغ العمال عن التجاوزات الممارسة ضدهم من طرف أرباب العمل، وقبول الاشتغال دون تأمين ودون توفير الإمكانيات اللازمة لحمايتهم من الحوادث، وهو ما يبقي رقم حوادث العمل مرتفعا رغم الترسانة القانونية، مضيفا: "العامل يجب أن يكون واعيا بحقوقه ويتجه نحو مفتشية العمل للتبليغ عن أية تجاوزات في حقه قبل تسجيل حادث العمل".
كما يحصي رئيس نقابة سائقي القطارات، تسجيل 80 ألف حادث واعتداء سنويا على سائقي وعمال القطارات، أغلبها تتعلق بالرشق بالحجارة، إذ يتم تسجيل 5 عمليات رشق بالحجارة يوميا، وسببها يقول المتحدث "غياب أعوان الأمن في المحطات وبالقرب منها"، أما السبب الثاني فيكمن في الصواعق الكهربائية وهي حوادث غير مقصودة ولا ترتبط بالإهمال ونقص الإمكانيات، ويتمثل السبب الثالث لحوادث العمل في عمليات الانتحار التي يقوم بها بعض المواطنين على مستوى خطوط السكك الحديدية عند مرور القطارات.
ويضرب هنا مثالا بسائق القطار فاضل محمد 47 عاما، والذي تعرض للشلل نتيجة صدمة دماغية سنة 2016 بعد إقدام مواطن على الانتحار عند مرور القطار الذي كان يقوده، على مستوى منطقة بني مراد بولاية البليدة جنوب العاصمة، ولم يستطع العودة للعمل مجددا، متسائلا عن سبب غياب أعوان الأمن بالقرب من سكك القطارات والمحطات، رغم تقديم عدد كبير من الشكاوى في هذا الإطار.
ويعد نقص الوسائل والعتاد، خاصة الألبسة على مستوى الورشات، وعدم تزويد العامل بالأحذية المقاومة للحوادث وراء معظم الحالات المسجلة في شركات المحروقات بالجنوب خلال السنوات الأخيرة، كما يقول محمد جابري ممثل نقابة عمال قطاع المحروقات، والذي لفت إلى واقعة فارقة في عام 2018 على مستوى ولاية ورقلة، بعد سقوط رافعة تابعة لشركة خاصة على العامل مصطفى جريبي 42 عاما، ونتيجة لكونه لا يرتدي حذاءا خاصا تعرضت قدمه للجز، ولم يتمكن من العودة للعمل، وانتفض وقتها العمال كما احتجت النقابة ليتم في أعقاب ذلك تحسين ظروف العمل جزئيا، مضيفا "لحد الآن لا نزال نواجه نقص الإمكانيات خاصة الألبسة المقاومة للحوادث وللحرارة".
عقوبات بسيطة وإمكانيات ضعيفة
تنص المادة 288 و289 و290 من قانون العقوبات 06/23 على أن "كل من قتل خطأ أو تسبب في ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من 10 آلاف إلى 20.000 دينار أي (75 إلى 150 دولارا)"، لكن المشكلة لا تقتصر على العقوبات البسيطة، إذ ينتقد حداد أيضا، نقص الإمكانيات لدى مصالح مفتشية العمل والضمان الاجتماعي من أجل الانتقال إلى الورشات وإجراء التحقيقات اللازمة، ومن ذلك نقص السيارات والأعوان، إذ يوجد 8 مفتشيات جهوية عبر الولايات، و27 مكتبا عاما، ويرد مسؤول الضمان الاجتماعي موسى ياسين، بالقول إن مصالحهم تتحرك مباشرة في حال تسجيل أي شكوى من طرف أي عامل للتحقيق مع أرباب العمل.
وفي محاولة لتقليص عدد حوادث العمل، أودع النائب عبد الوهاب بن زعيم، عضو مجلس الأمة (الغرفة العليا للبرلمان)، عن حزب جبهة التحرير الوطني (موال للسلطة)، ملفا على طاولة وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، لدى افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة شهر سبتمبر/ أيلول 2021، يتضمن مقترحات تؤكد ضرورة اتخاذ اجراءات الأمن داخل الشركات والمصانع، واستعمال كل وسائل الحماية والوقاية مضيفا أن "وسائل الحماية لا تكلف رب العمل كثيرا ولكنها تساهم في تقليص عدد ضحايا الحوادث"، كما يطالب رئيس الاتحاد الوطني للمستثمرين الشباب رياض طنكة بتنصيب مختصين في الأمن الصناعي والوقاية على مستوى المصانع والورشات المختلفة في قطاع البناء والاشغال العمومية لتفادي أو التقليل من حوادث.