غادر الأربعيني حسين أحمد عدوي بلدة طيعو الساحلية الواقعة شمال إقليم جنوب البحر الأحمر الإريتري، في رحلة لجوء انتهت في النرويج، بسبب سوء الأحوال الاقتصادية والتضييق المستمر من قبل الحكومة الإريترية على أهالي المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، إذ مُنعوا من صيد الأسماك، وفي أحسن الأحوال مُنحوا تصاريح مشروطة زمنياً لأسبوع أو أقل، الأمر الذي أدى إلى تجويعهم، في ظل شحّ الموارد بالمنطقة.
وزاد التضييق على سكان السهل الساحلي الإريتري الجنوبي المعروف بإقليم دنكاليا (إقليم جنوب البحر الأحمر) منذ بداية عام 2000 تدريجاً، وفقاً لعدوي الذي ينحدر من عائلة صيادين، مشيراً إلى إجبار الكثير من الصيادين وعائلاتهم على الهروب إلى دول الجوار أو عبور البحر إلى اليمن طلباً للرزق، كما يقول لـ"العربي الجديد"، وهو ما يؤكده تقرير المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في إريتريا الصادر في مايو/ أيار الماضي، إذ وثق إلقاء القوات البحرية على 5 صيادين من العفر كانوا يبيعون أسماكهم في ميناء مصوع والاستيلاء على 3 قوارب مملوكة لهم، ولا يزالون مفقودين من وقتها، ولا يزال 20 صياداً عفرياً مفقودين في وقائع منفصلة جرت ما بين فبراير/ شباط 2018 وفبراير/ شباط 2019.
وتصاعدت أعداد اللاجئين العفر من أبناء إقليم دنكاليا، إذ كانوا 27370 لاجئاً في 28 فبراير/ شباط 2015، وبنهاية عام 2016 وصل عددهم إلى 42200 لاجئ، ومع حلول نهاية 2017 وصل العدد إلى 50600 لاجئ، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في إثيوبيا، التي أكدت في تقريرها الأحدث أن العفر يشكلون 5% من إجمالي سكان إريتريا، فيما بلغ عدد المسجلين لدى المفوضية من الموجودين في المنطقة العفرية بإثيوبيا 54836 طالب لجوء حتى الربع الأول للعام الجاري.
54836 طالب لجوء من إقليم دنكاليا حتى الربع الأول من العام الحالي
وتبدو ضخامة أرقام اللاجئين الفارين من إريتريا، في ضوء أن إجمالي عدد السكان يصل إلى 6 ملايين و81 ألف نسمة، وفق كتاب حقائق العالم The World Factbook الذي تنشره سنوياً وكالة المخابرات المركزية الأميركية.
من يسكن إقليم جنوب البحر الأحمر؟
يتألف المجتمع الإريتري من 9 مجموعات إثنية أساسية، بعضها لديه امتدادات ضمن دول الجوار كالعفر، والتجرينية التي لها امتداد ضمن إقليم تجراي الإثيوبي، والكوناما (مجموعة عرقية تقطن في إريتريا وإثيوبيا)، وفق التقرير القُطري الذي أعدته منظمة العمل الدولية واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان عام 2009، بعنوان "الحماية الدستورية والتشريعية لحقوق الشعوب الأصلية: إريتريا".
وتسكن إقليم دنكاليا قبائل الدناكل (العفر) مع خليط من مجموعات أخرى، ويُعَدّ العفر من أقدم الشعوب المستقرة في الشريط الجنوبي من السهل الساحلي المطل على البحر الأحمر من شبه جزيرة بوري إلى جنوب مصوع شمالاً، وإلى باب المندب جنوباً، بالإضافة إلى الرقعة الصحراوية الواسعة حول هذا الشريط، وفقاً لما جاء في كتاب "المثلث العفري في القرن الأفريقي" للسياسي الإريتري الراحل محمد عثمان أبو بكر. وغالبية العفر في إريتريا من الرعاة البدو، ومن يعيشون على الشواطئ يعتمدون على الصيد، واستخراج الملح من البحر الأحمر، فيما تُعَدّ الزراعة استثناءً وفقاً للمصدر ذاته.
ثلاثة عقود من التضييق
بدأت السلطات الإريترية بتضييقها على سكان إقليم جنوب البحر الأحمر منذ عام 1995، وفق ما تؤكده مصادر التحقيق ممن غادروا موطنهم، ومنهم إبراهيم أحمد، المتحدث الرسمي باسم منظمة عفر البحر الأحمر لحقوق الإنسان (حقوقية مستقلة)، الذي غادر الإقليم عام 2015 نتيجة المضايقات التي تعرض لها في مجال عمله أستاذاً في معسكر ساوا للخدمة الوطنية غرب إريتريا، وفق ما رواه لـ"العربي الجديد".
وحُرم الإقليم التمتع بالخدمات العامة، حيث تندر الكهرباء خارج المدن، فضلاً عن غياب البنية التحتية كالطرق والمشافي الكافية، كما يقول أحمد المقيم في فرنسا منذ عام 2018، مضيفاً أن صنوف المعاناة السابقة أدت إلى هروب تلك الأعداد الكبيرة من اللاجئين إلى دول الجوار، وخاصة إثيوبيا التي بدأ رحلة لجوئه عبرها.
وتعرض العفر لعمليات قتل خارج نطاق القضاء واختفاء قسري على يد الحكومة الإريترية منذ عام 2000 وحتى 2015، وفق المقررة الخاصة السابقة المعنية بحالة حقوق الإنسان في إريتريا شيلا كيتاروث، التي أكدت في تقريرها الصادر عام 2015 أن عمليات القتل أدت إلى هروب العفر من أراضيهم داخل البلاد وعبروا الحدود إلى إثيوبيا وجيبوتي، مفسّرة محاولات إعادة توطين أبناء العفر والكوناما من قبل السلطات بأنها استهداف متعمد لتجريدهم من أراضي أجدادهم وسبل عيشهم وثقافاتهم.
وزادت الأوضاع سوءاً بتورط إريتريا في الحرب اليمنية من خلال إبرامها لاتفاقية مع الإمارات، بإقامة قاعدة عسكرية في ميناء عصب في إبريل/ نيسان 2015، وما تلا ذلك من تجريف ومصادرة للأراضي واستهداف للصيادين من قبل الطيران الإماراتي الذي قتل 200 إريتري في البحر خلال الفترة من 2015 حتى 2019، وفق ما يؤكده لـ"العربي الجديد" إسماعيل قبيتا، المدير التنفيذي لمنظمة عفر البحر الأحمر.
زادت أوضاع عفر إريتريا سوءاً بعد إقامة قاعدة إماراتية في مناطقهم
وتمارس السلطات الإريترية انتهاكات مستمرة بحق الصيادين، وفق ما أكده حسين محمد علي، المفتش السابق في فرع وزارة الثروة السمكية في مدينة مصوع، الذي عايش انتهاكات ممنهجة بحق أبناء المنطقة في أثناء خدمته في فرع الوزارة من 2009 حتى 2011، من بينها منع الصيادين من بيع الأسماك خارج إطار الدولة، وإجبارهم على البيع لها بأسعار لا تكافئ المجهود المبذول ولا تغطي الاحتياجات الخاصة للصيادين وعائلاتهم، فضلاً عن عدم منح الصيادين الوقود الكافي للخروج إلى البحر، كما يقول لـ"العربي الجديد"، من مكان إقامته في السويد التي وصل إليها لاجئاً عام 2013.
مصادرة الملاحات
تلقت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في إريتريا، دانييلا كرافتيز، معلومات تفيد بأن الجيش الإريتري استغلّ موارد البوتاس (ملح يستخرج من رماد أخشاب بعض النباتات) في منطقة كولولي عام 2017 بإجلاء مجتمعات العفر الرعوية تدريجاً من المنطقة، وفق ما جاء في تقريرها، مؤكدة أن قرويين من بلدات حول كولولي فقدوا سبل عيشهم، وحيل بينهم وبين مواشيهم والمراعي، وأن مجتمعات محلية بأكملها شردت، والعديد من هؤلاء المشردين عبروا إلى إثيوبيا.
وخلال فترة الاستهداف الممتدة منذ تسعينيات القرن الماضي، صودرَت الملاحات التي كانت تملكها قبيلة أنكالا في ضواحي مدينة عصب، حيث يسكنون منذ مئات السنين، وعمدت الحكومة الإريترية إلى التضييق على ملاك الملاحات والعاملين فيها، وملاحقتهم وإثقال كاهلهم بالضرائب والرسوم المختلفة تارة، وتارة أخرى بمطالبتهم بتسليمها للحكومة، لتتولى هي التصدير، وفق ما يقول الناشط السياسي عبد العزيز العفري (اسم مستعار خشية من الملاحقة الأمنية، نظراً لإقامته في السعودية)، مضيفاً أن الجزء الأكبر من الملاحات صودر خلال الحرب الإريترية الإثيوبية خلال الفترة بين 1998 و2000، وتكرر الأمر وقت الحرب الإريترية الجيبوتية في عام 2008.
وبعد توقيع الحكومة الإريترية اتفاقية تأجير ميناء عصب وإقامة قاعدة عسكرية للإمارات، صودر ما بقي من الملاحات، دون تعويض ملاكها، وأُخليت الأراضي التي كانت تتواجد فيها مزارع النخيل وأشجار الدوم، وجُرِّفَت بشكل تعسفي، فضلاً عن التضييق على العاملين والتجار في مدينة عصب، دون تعويضهم، ما أدى إلى هجرتهم إلى اليمن وإثيوبيا، كما يقول العفري.
تفاقم التهجير القسري بعد كورونا
استخدم النظام الحاكم في إريتريا سلاحاً آخر لقمع سكان إقليم جنوب البحر الأحمر، وممارسة سياسة التطهير العرقي والتهجير القسري ضدهم، بهدف إفراغ المنطقة من أهلها لإنجاح سياسة التغيير الديموغرافي، إذ اتجه إلى التجويع الممنهج للسكان تحت ذريعة حمايتهم من وباء كوفيد 19 وفق ما وثقته منظمة عفر البحر الأحمر لحقوق الإنسان (RSAHRO)، في 30 مايو/ أيار الماضي.
وعملت الحكومة الإريترية عقب ظهور الوباء على فرض حظر التجوال الشامل في 10 إبريل/ نيسان الماضي، وشددت إغلاق المعابر البرية والبحرية مع دول الجوار، دون اتخاذ أي تدابير وقائية وإجراءات احترازية من تداعيات هذه الجائحة، ما جعل سكان الإقليم ومواطنيه تحت حصار خانق وخطة ممنهجة تجعلهم في مواجهة مصير مجهول يهدد حياتهم في هذه المنطقة المعزولة والمحاصرة من قبل النظام الحاكم، وهو ما يجبرهم على مغادرة أرضهم قسراً، ومحاولة اللجوء التي تتسم بالخطورة، وفقاً لما رصده الحقوقيون الإريتريون وتقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية، التي تحذّر من تفاقم الأحوال المعيشية، إذ صادرت قوات الأمن الإريترية 50 قارب صيد في منطقة بوري، مركز بحرية انقل شمالي إقليم عفر البحر الأحمر في 25 مايو/ أيار الماضي، فضلاً عن مصادرة قوافل قادمة من دول الجوار خلال مايو/ أيار الماضي، ضمت 195 جملاً محملاً بالمواد الغذائية، وفق ما وثقته منظمة عفر البحر الأحمر.
وعلى الرغم من أن "إريتريا كلها تهددها أزمة مجاعة تقريباً، لكن ما يميز مناطق العفر أن الدولة ضيّقت على أدوات الإنتاج والمعيشة الخاصة بهم من خلال مصادرة الملاحات والأراضي الزراعية المحدودة في الإقليم، وقوارب الصيد، في ظل نقص حاد في المواد الغذائية، وارتفاع كبير في الأسعار، ما جعلهم بين خيارين: إما الموت جوعاً، أو محاولة اللجوء، بما فيها من مخاطر عديدة، كما تؤكد مصادر التحقيق.