يصف الدكتور محمد عبد الكريم، منسق أبحاث وحدة أفريقيا في معهد الدراسات المستقبلية في بيروت، جمهورية أفريقيا الوسطى بـ"ساحة التنافس الروسي الغربي"، بعدما أصبحت نموذجا ناجحا لسياسة موسكو في الوجود العسكري غير الملزم للدولة عبر مليشيا فاغنر، التي سيطرت على ثروات البلاد الطبيعية في مقابل تقديم الدعم العسكري الكفيل بتأمين النظام الحاكم واستقراره في مواجهة حركات التمرد.
وتنتشر الشركات الروسية في أفريقيا، إذ تنقب عن البوكسيت في غينيا والألماس في أنغولا، كما تعمل على استخراج الغاز الصخري من موزمبيق، ضمن استراتيجية تقوم على توسيع نفوذ موسكو الاقصادي والعسكري في أفريقيا بشكل متسارع، إذ تقدم نفسها بديلا عن القوى الاستعمارية السابقة، وعلى رأسها فرنسا التي انتزعت منها أفريقيا الوسطى ومالي في ظل وجود ميراث سابق من العلاقات بين تلك البلدان والاتحاد السوفييتي، الذي سبق أن دعم حركات التحرر الأفريقية خلال القرن الماضي.
صراع تشاد وأفريقيا الوسطى
في يونيو/حزيران من عام 2021، عزّزت تشاد قوّاتها على الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى، بعد مقتل ستّة عسكريين تشاديين في هجوم شنّه على مركزهم الحدودي جيش أفريقيا الوسطى، وبعدها بشهر، أعلنت الخارجية الروسية، في أوائل شهر يوليو/تموز 2021، أن روسيا أرسلت 600 جندي إضافي إلى قواتها الموجودة في جمهورية أفريقيا الوسطى لتدريب الجيش والشرطة والحرس الوطني، ليرتفع عدد الجنود الروس في البلاد إلى 1135 جنديا روسيا، كما أن مرتزقة شركة "فاغنر" الأمنية الروسية ينشطون في تدريب الجيش وحراسة الشخصيات المهمة، ويسيطرون على مناجم الذهب والألماس واليورانيوم في مناطق الصراع القريبة من دولة تشاد، التي تعد قلعة فرنسا الحصينة، كما أنها كانت مقر قيادة القوات العسكرية الفرنسية منذ الاستعمار الفرنسي بسبب توسطها قارة أفريقيا، كما يقول عبد الكريم مشيرا إلى أن باريس وحلفاءها لديهم مصالح كبيرة في المنطقة وكذلك تخوفات مشتركة من حدوث انقلاب على محمد إدريس ديبي، نجل الرئيس الراحل، الذي يتهم روسيا بأنها دعمت جبهة الوفاق من أجل التغيير المعارض التي خاضت مواجهات شرسة ضد الجيش التشادي بدعم من مليشيا فاغنر، ما تسبب في وفاة الرئيس السابق إدريس ديبي في إبريل/نيسان 2021، لذلك تدعم باريس نجامينا لمواجهة النفوذ الروسي.
بدورها، تدعم تشاد معارضة أفريقيا الوسطى الموجدة داخل حدودها بإيعاز من فرنسا، لتغيير المشهد لصالح القوى الموالية لباريس، كما يقول الباحث في الشؤون الأفريقية المقيم في باريس الدكتور محمد تورشين لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى رفض باريس بعض أطراف المعارضة، مثل التحالف العسكري الذي يقوده علي دراسه المنتمي لقومية الفلاتة التي لا تدعمها باريس بسبب المشاكل التاريخية بين هذه القومية وباريس ومناهضتها لها.
وتابع تورشين أن أحداث أفريقيا الوسطى تؤثر على كل المنطقة بما في ذلك السودان وجنوب السودان وليبيا والكونغو، لأن فرنسا أدركت أن خروج أفريقيا الوسطى من دائرة نفوذها تكلفته كبيرة، إذ تعاني من ارتدادات في الكونغو، التي وقعت روسيا اتفاقية ثنائية معها في عام 2019 لتفويض مستشارين عسكريين روس ينشطون في تدريب قواتها المسلحة، وكذلك الكاميرون التي تعد ضمن أهم الدول المستوردة للأسلحة الروسية في القارة، ومن بينها الجزائر وأنغولا والسودان ونيجيريا وموزامبيق والسنغال، لذلك تحاول فرنسا تغيير هذا الوضع مهما كلف الأمر من ثمن.
وبسبب تراجع نفوذ باريس في مناطق كانت تعد ضمن حدائقها الخلفية، مثل دول الساحل الأفريقي، أطلقت فرنسا قبل أيام الاستراتيجية الجديدة لمراجعة كيفية إدارة علاقاتها مع دول القارة السمراء، إذ دعا الرئيس ماكرون في خطاب له إلى "التحلي بالتواضع" وإلى ضرورة "بناء علاقة جديدة ومتوازنة ومسؤولة مع دول القارة الأفريقية"، معلناً انتهاء "عصر فرنسا الأفريقية"، وهو ما يعد محاولة واقعية لمواجهة حالة السخط الشعبي ضد باريس بعدما خرجت تظاهرات ضدها في شوارع باماكو في مالي، وواغادوغو في بوركينا فاسو، كما أن جيلا جديدا من النخب المتحالفة مع العسكريين الذين قادوا انقلابات عسكرية في مالي وبوركينا فاسو يعمدون إلى تقويض الوجود الفرنسي وتقليص نفوذ باريس، التي كانت يوما ما تتحكم بشكل كامل في ثروات تلك البلاد ومن يحكمها، إذ لم تمتلك تلك الدول المستقلة بنوكا مركزية لطباعة عملتها بسبب سيطرة باريس على مواردها، كما أن الشركات الفرنسية كانت تسيطر على جميع المرافق الرئيسية كالمياه والكهرباء والهاتف والنقل والموانئ والبنوك الكبرى، والشيء نفسه في التجارة والبناء والزراعة، وتحتكر المواد الخام لصالحها، وتكتمل الدائرة عبر ذهاب كبار الضباط للتدربب في فرنسا، التي تتدخل ضد أي نظام يخرج عن طوعها عبر دعم المعارضة المسلحة بشكل مباشر، أو عن طريق الامتناع عن التدخل العسكري لإنقاذ النظام إذا ما تعرض لتهديد المعارضة المسلحة، كما يقول الدكتور رمزي محمود في كتابة الاستعمار الاقتصادي.
أدوات المواجهة
يقول محمد علي كلياني، رئيس مركز رصد الصراعات في الساحل الأفريقي، إن معسكرات المعارضة التشادية في أفريقيا الوسطى حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، وتابع :"تشاد تحتضن معارضة أفريقيا الوسطى، وأفريقيا الوسطى تحتضن معارضة تشاد".
وتدور في المنطقة حرب قائمة على الكر والفر بين المتمردين والجيش الحكومي، إذ ذكر بيان للمعارضة المسلحة في أفريقيا الوسطى، صدر في 14 فبراير/شباط الماضي، أن قوات التحالف القومي من أجل التغيير، بقيادة الجنرال علي محمد دراسه، هاجمت القوات الحكومية وكبدتها خسائر في الأرواح والعتاد، واستولت على معدات حربية في الهجوم الذي وقع على بعد 18 كيلومترًا من بلدة جورديل على محور بيراو، سقطت على أثره مدينة أنداه الغنية بالموارد الطبيعية.
وتابع البيان بأن القوات الخاصة بجيش أفريقيا الوسطى (الفاكا) أُجبرت على الإنسحاب، واستولت المعارضة على عدد كبير من الأسلحة والذخائر وسيارات الدفع الرباعي.
وبحسب صحيفة nouvellesplus الأفروسطية المؤيدة للرئيس توديرا، فإن المعارضة المسلحة للنظام الحاكم في جمهورية أفريقيا الوسطى موجودة في معسكرات على الحدود، تضم مقاتلي السيلكا (مسلمون) ومقاتلون الأنتي بلاكا (مسيحيون)، ويقدم لهم ضباط من الجيش التشادي دورات تدريبية، لكن القيادي في قوات الوحدة من أجل سلام أفريقيا الوسطى المعارضة، عيسى أحمد بشار، نفى تلك الاتهامات قائلا لـ"العربي الجديد": "لا توجد قوات المعارضة في دولة تشاد والسودان، وهذه أكاذيب يطلقها إعلام الرئيس توديرا (رئيس أفريقيا الوسطى المدعوم من روسيا)، قوات المعارضة توحدت جميعها خلف راية واحدة بالفعل في داخل أفريقيا الوسطى، ولم يعد هناك أنتي بالاكا أو سيلكا، بل مقاتلون من أجل حرية أفريقيا الوسطى، ونقترب من العاصمة وعلى مسافة 45 كيلومترا منها فقط، وتابع: "لن نتوقف حتى تحرير أفريقيا الوسطى من الذين يسرقون ثرواتها الطبيعية ويقتلون شعبها".