منذ سنوات تنشط حملات في وسائط إعلامية غربية بالأساس، تستهدف استضافة قطر كأس العالم لكرة القدم 2022، ويشارك فيها لاعبون ومنظمات حكومية وغير حكومية، وفاعلون سياسيون، ومؤثرون، بهدف التشكيك في جدارة الدوحة وقدراتها على تنظيم البطولة، وحتى وصل الأمر إلى حث المشجعين على المقاطعة.
ومع قرب إطلاق صافرة بداية الفعالية الرياضية الأبرز عالميا، جرى تفعيل نسخة من الحملة هي الأكثر ضراوة وشمولا مقارنة مع سابقاتها، إذ تصاعدت نبرات الاتهام العدائية، وتعدد المشاركون وتعاظم التنسيق بينهم، كما توثق هذه المادة التي تحلل خطاب تلك الحملات بناء على حججها المعلنة وهي :
الحجة الأولى: الدفاع عن حقوق العمال المشاركين في بناء تجهيزات كأس العالم، ونقد بيئة العمل في الأجواء الحارة، وإصابات العمل والوفيات.
الحجة الثانية: الدفاع عن حقوق المشجعين وتحديدًا ما أثير في هذه الوسائط عن تقييد استهلاك الخمور وقصر البيع والتناول على أماكن محددة.
الحجة الثالثة: الدفاع عن حقوق الإنسان وتحديدًا ما يتعلق بقضية المثليين من المشجعين وحتى الفرق الرياضية وإمكانية التعبير علانية عن الدعم لتلك الفئة.
تقييم حجج الحملة على مونديال قطر
تنتمي الحجج المعلنة إلى مجال حقوق الإنسان، ويبدو هذا اختيارًا ذكيًا من مخططي الحملة؛ بسبب جاذبية الدفاع عنها، وصعوبة نقد الخطاب، وإلا سيتهم من يقوم بذلك بأنه معادٍ لتلك الفئات.
لكن من الجلي أن خطاب تلك الحملات تغافل عن أن مسألة حق الفرق الرياضية في دعم المثليين لم تُطرح في أية استضافة سابقة لكأس العالم، فلم تسع أية منتخبات كروية إلى التركيز على دعمهم بشكل منهجي في أيٍ من دورات كأس العالم السابقة، ولم يطرح الموضوع للنقاش من الأصل، ويثير اختيار مسألة المثلية تحديدًا لتكون محور الدفاع عن حقوق الإنسان تساؤلات عديدة، أهمها لماذا لم تختر الفرق المشاركة على سبيل المثال الدفاع عن حقوق مثل الغذاء في عالم يموت فيه الملايين جوعًا، أو الحق في السكن في عالم يعيش فيه ملايين اللاجئين في مخيمات غير آدمية، أو الحق في التحرر من الاحتلال في وقت يعيش فيه ملايين الفلسطينيين في دولة احتلال تمارس الفصل العنصري، أو غيرها من قضايا حقوق الإنسان، أليس من الأجدر بفرق كرة القدم الأوروبية، إن هي أرادت أن تكون داعمة لحقوق الإنسان بحق، أن تحمل شعارات تدعو بلادها الغنية للتوقف عن نهب الدول الفقيرة والتي تموت شعوبها جوعًا؟!
ويتسم خطاب الحجة الثانية بكونه أكثر ضعفًا، إذ إن تحديد أماكن مخصصة لاستهلاك الخمور وبيعها مطلب يحظى بشعبية كبيرة بين الغربيين أنفسهم وتمارسه هذه الدول بأشكال مختلفة. ومن التناقض انتقاد قطر لأجل تنظيم تداول الخمور في فعالية مثل كأس العالم، في حين أن كل الدول الأوروبية لديها أشكال متفاوتة من ضبط وتنظيم الاستهلاك ومن ذلك قيود على عمر من يشتريها ويتداولها، وأماكن شربها، وقيود تستهدف الأفعال التي يمكن للمرء القيام بها وهو واقع تحت تأثيرها.
غير أن الحجة الثالثة هي الوحيدة غير الهزلية، إذ إن الدفاع عن حقوق العمال، والدعوة إلى توفير بيئة عمل مناسبة لهم، والوفاء بحقوقهم، وتقليل المخاطر الناتجة عن عملهم أمور مهمة وإنسانية ومن الضروري دفاع الجميع عنها، لكن المشكلة في تلك الحجة أن الاتهامات بسوء ظروف العمل، ومخاطر إصابات العمل ووفياته في قطر لا تستند إلى إحصاءات مقارِنة تقول لنا إن ظروف العمل في إنشاءات كأس العالم وإصابات العمال فيها كانت أسوأ أو أفضل من نظيراتها العالمية، حتى نعرف درجة مصداقية هذه التهمة، كما أن اتهام قطر بانتهاك حقوق العمال يأتي غالبًا في شكل دعاوى مرسلة دون أدلة موثقة، بالإضافة إلى التغافل عن الأرقام الصادرة عن الجهات القطرية وتلك الدولية الموجودة في الدوحة والمختلفة تماما عما روجته تلك الوسائط دون تمحيص.
ويقلل من نزاهة هذه الانتقادات صمت وسائل الإعلام الغربية عن ذكر الإشادات الدولية بجهود قطر في حماية حقوق العمال، وأكثرها صدر من مؤسسات غربية أهمها منظمة العمل الدولية نفسها.
ويزداد القلق من عدم نزاهة هذا النقد في ضوء أن الإعلام الغربي تغافل عن الدفاع عن حقوق العمال في فعاليات أخرى، وللأسف يكاد الغطاء الأخلاقي للنقد الغربي يزول بالنظر إلى أن وسائل الإعلام الفاعلة في الحملة لم توجه مثل هذا النقد لمئات الشركات الأميركية والأوروبية التي تمتلك آلاف المصانع في بنغلادش وباكستان وفيتنام وأفريقيا والهند وتشغل عشرات الملايين من العمال الآسيويين والأفارقة في ظروف شديدة البؤس، لا تقارن بأي شكل بظروف العمل في قطر. فلم تقم أية وسيلة إعلام غربية كبرى أو مؤسسة أو ناد كروي أو مؤثرين مشاهير بحملة منظمة لمقاطعة منتجات الشركات الغربية العملاقة التي تستغل العمالة الآسيوية والأفريقية أبشع استغلال.
حجج مختلقة في مواجهة أسباب خفية
من الجلي أن الحجج المعلنة لنقد استضافة قطر لكأس العالم والتحريض على مقاطعته ليست هي الأسباب الحقيقية، إذ إن الحجج المعلنة شديدة التهافت والتناقض من ناحية، وتفتقد إلى النزاهة الأخلاقية من ناحية أخرى. ولا يمكن لأي شخص لديه حس نقدي بسيط أن يقبلها. فما الأسباب الحقيقية للحملة الراهنة على قطر؟ ولماذا يلجأ الغرب إلى حد اختلاق حجج أخرى لإخفائها؟
هذه الأسباب متعددة لكنني سأتوقف أمام ثلاثة منها فقط:
السبب الأول: الطاقة
في تصوري أن السبب الحقيقي وراء الهجمة على كأس العالم اقتصادية بحتة، إذ تعاني أوروبا من أزمة طاقة كبيرة بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، وخلال الشهور الماضية حاولت حكومات الغرب الضغط على الدول المصدِّرة للنفط والغاز بهدف خفض أسعار الوقود، حتى لا تزداد تكاليف المعيشة على المواطنين الغربيين، إذ ضغطت الدول الغربية على منتجي النفط لإبقاء معدلات إنتاج النفط مرتفعة حتى يقل سعره، وضغطت على مصدري الغاز لوضع حد أقصى لسعر الغاز، يحول دون ارتفاعه. وواجه مصدرو النفط والغاز الضغطين بالرفض، وفي تقديري الشخصي أن الحملة الأخيرة على قطر شكل من أشكال الضغط على الدوحة لتستجيب لإملاءات وأداة عقاب على رفض الرضوخ.
السبب الثاني: الدفاع عن مركزية الغرب في زمن تحولات عاصفة
يقدّم العالم الغربي نفسه بوصفه نموذجًا (يجب أن) يُحتذى في العالم منذ قرون طويلة، إذ حافظ على تقدم ملحوظ في مؤشر الرفاه الاجتماعي، والتقدم التقني والمعرفي، واحتفظ لنفسه بتسميات تميزه عن بقية دول العالم، فهو العالَم الأول، أو العالَم المتقدم، أو العالَم المتطور أو العالَم الحر مقارنة بالعوالم الثانية والثالثة، غير المتقدمة، أو النامية، أو الساعية نحو التطور، أو الاستبدادية، أو "البدائية" في أكثر الصيغ كشفًا لعنصرية الغرب الاستعماري.
هذه الصورة للغرب "المتقدم" تعرضت لخلخلة جذرية خلال العقدين الماضيين. فالصين وليس أميركا هي أكثر الدول حصولا على براءات الاختراع في العالم منذ 2019، وهي الأعلى في الناتج القومي مقومًا بالقدرة الشرائية، ومستوى الرفاه والتقدم في دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان وهونغ كونغ وغيرها أعلى من معظم الدول الغربية.
ويعيش الغرب كذلك، مرحلة تحول عاصف في مكانته الرمزية التي بناها بواسطة استفادته من ثروات البلدان المحتلة في تشييد مدنه، وضمان معيشة رفاه شعوبه، وفي القيام بدور المبشر بالتقدم في العالم، إذ سلبت السنوات الأخيرة بعض البساط من تحت أرضية دول الغرب، فلم يعد النموذج الغربي مثيرًا للإعجاب، لا سيما مع تكشف بشاعة الجرائم التي ما يزال يرتكبها الغرب للحفاظ على هيمنته على دول العالم، مثل دور فرنسا في جرائم الإبادة العرقية في رواندا 1994، والغزو المتوحش للعراق على يد قوات التحالف الدولي في 2003 تحت ستار نشر الحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الأقليات! وجرائم روسيا في سورية 2011، وغيرها.
ويمثل تنظيم قطر لكأس العالم تناقضا أسياسيا مع الصورة النمطية للعرب والمسلمين التي رُسمت بعناية عبر مئات السنين لتخدم الأغراض الاستعمارية بجلاء، فالمواطن الغربي العادي يتلقى صورة نمطية جرت هندستها بدقة لتقدم العربي بوصفه بدائيًا، إرهابيًا، مولعًا بالمباهج الحسية، لكن حين يحل هذا المواطن في بلد عربي متطور يقدم نموذجًا يدعو للإعجاب من الجمع بين التقاليد والحداثة، ويحتفي بالتنوع الحضاري، ويدافع عن التعايش الحق بين الثقافات والحضارات ستتخلخل تلك الصورة النمطية السلبية عن العرب، وهو ما يشكل خطورة على من يتلاعب بتمثيلات شعوبه للدول الأخرى كي يسوغ سياساته الاستعمارية نحوها.
السبب الثالث: الدعم القطري لفلسطين
آخر الأسباب التي أرى أنها هي المحرك الحقيقي وراء الهجوم الغربي على قطر هو موقفها من القضية الفلسطينية، فقد كانت قطر واحدة من دول عربية قليلة حرصت على دعم القضية الفلسطينية بوسائل متنوعة على مدار العقود الثلاثة الماضية. ولم تدخر القوى الداعمة للاحتلال الإسرائيلي أية فرصة لمهاجمة قطر إلا استغلتها، لذا أرى أنه ليس من المستغرب أن يستغل اللوبي الداعم للاحتلال الإسرائيلي في الغرب استضافة قطر لكأس العالم للانتقام على أرض أخرى، في ظل تراجع إمكانية الدفاع عنه أمام المواطن الغربي العادي، كما لم يكن من الغريب أن يفعل ذلك تحت ستار كاذب من حقوق الإنسان التي يواصل الاحتلال الإسرائيلي انتهاكها بأبشع الطرق منذ ثمانين عامًا دون انتقاد حقيقي يُذكر ممن شنوا تلك الحملة على قطر.