بعد عام وشهرين من نشر تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي، بالوثائق... هكذا يستهدف "الموساد" فلسطينيي الخارج في دول أوروبية، جرى استهداف معد التحقيق الزميل معاذ حامد المقيم في إسبانيا، بعد استدعاء من شعبة المعلومات التابعة للحرس المدني الإسباني، ليفاجأ بوجود محقق ادعى أنه يعمل مع المخابرات البلجيكية، غير أن لهجته وطريقة حديثه وطبيعة أسئلته كشفت حقيقته.
وحاول عميل المخابرات البلجيكية المزعوم، في استجواب مخالف للقوانين الإسبانية والأوروبية، الكشف عن مصادر التحقيق الذي تتبع طرق استهداف الموساد لفلسطيني الخارج على مدار عشرة أشهر، ونشره موقع وجريدة "العربي الجديد" في ديسمبر/كانون الأول، وأثبت استهداف فلسطينيين مقيمين في الخارج من قبل استخبارات الاحتلال، وحصل على أدلة على محاولات خداع واستقطاب وتفاصيل حوالات مالية ومكالمات هاتفية ورسائل إلكترونية.
جلسة لشرب القهوة
بدأت القصة في 9 ديسمبر 2020، إذ تلقى معاذ أول مكالمة هاتفية من الضابط نيكولاس، والذي عرف عن نفسه بأنه وكيل خدمات معلومات الحرس المدني المتمركز في إقليم الباسك. وطلب منه المرور عليه لشرب القهوة معه وحتى يتحدث معه عن عمله صحافياً وماضيه وحياته في إسبانيا، وبالفعل وافق الصحافي المتعاون مع تحقيقات العربي الجديد، ومر عليه في قيادة الحرس المدني الواقعة في ساحة سالبي في بلباو، وفق ما رواه معاذ لصحيفتي العربي الجديد و Público الإسبانية.
وفي غرفة بالطابق الخامس، كان الضابط خافيير ينتظر معاذ ونيكولاس، وبالفعل أجاب الصحافي على أسئلتهما وشرح سبب تقدمه بطلب للحصول على اللجوء في إسبانيا، لكن في بداية شهر فبراير/شباط، تلقى الصحافي الفلسطيني مكالمة هاتفية من نيكولاس مرة أخرى، وطلب لقائه في مدريد. ورفض معاذ لأنه كان في إقليم الباسك، وبعد أيام قليلة، تلقى مكالمة أخرى من رقم خفي. وهذه المرة كان العميل خافيير هو المتحدث، وطلب منه الالتقاء به يوم 11 فبراير 2021 بعد الظهر في العاصمة، وبالفعل توجه إلى بناء رقم 35 في شارع باتالا ديل سالادو، والذي يقع فيه أحد أبرز مقار الحرس المدني.
عند وصوله، لاحظ معاذ نزول ضابط بالزي الرسمي للبحث عنه واصطحبه إلى المبنى من دون تسجيل دخوله، ومن دون المرور بالإجراءات الأمنية، ورافقه الضابط إلى الطابق الثالث، حيث كان ينتظرهما خافيير ورجل يرتدي بدلة وقدم نفسه على أنه عمر.
كانت الغرفة مظلمة والنافذة الوحيدة مغلقة بحسب ما قاله معاذ لـ Público. وبعد التحقق من أن الصحافي لم يكن يسجل بهاتفه المحمول، ادعى الرجل الغامض أنه يعمل لصالح المخابرات البلجيكية. وأوضح خافيير لمعاذ أن عمر من أصل فلسطيني، إلا أن حجته انهارت عندما لاحظ الصحافي الفلسطيني لهجته الإسرائيلية القوية. وأجاب معاذ على كلماته الأولى بالعبرية. وعند رؤية رد فعل عمر وخافيير، طلب معاذ منهما أن يبرزا له بطاقات الهوية الخاصة بهما، لكنهما رفضا. وغادر عنصر الحرس المدني الغرفة وترك الصحافي الفلسطيني في يد عميل الموساد المزعوم.
وبدأ العميل في الضغط على معاذ قائلا إنه يعرف اتصالاته وتحركاته منذ فترة طويلة. واتهمه بالتورط في تمويل "الجماعات المرتبطة بالمقاومة الفلسطينية". وسأله عن الأسير المحرر زاهر جبارين، والمطلوب من إسرائيل، كما قال معاذ لـ"العربي الجديد"، ووقتها زادت شكوك معاذ في أنه تم التنصت على هاتفه، إذ سبق وتلقى اتصالات عبر رابط إلكتروني على حسابه تطبيق "سكايب" بدون التمكن من الرد، وعندما حاول إعادة الاتصال على نفس الرابط، وجد رسالة بأنه لا يمكن إجراء الاتصال، ويضيف معاذ "من وقتها لاحظت أن هاتفي يسخن بشدة ويفقد شحن البطارية بسرعة"، ويقول معاذ: "قلت للضابطين الإسرائيلي والإسباني من اخترق هاتفي منكما؟ ونفى الاثنان بالطبع، وطلب الإسباني صورة عن الرابط الذي اتصل على هاتفي ولم يقبل أن أرسلها له عبر واتساب، وصورها من على بعد، بعدما رفعت هاتفي في مواجهته كما طلب".
لب الموضوع
عقب ذلك، بدأ الضابط غير الإسباني في الدخول إلى لب الموضوع، إذ سأل معاذ عن مصادر كشف تحقيق "العربي الجديد" عن محاولات الموساد تجنيده، وكيف توصل إلى طريقة التجنيد وإرسال الحوالات المالية من عناوين وهمية. حتى أنه أخطأ وذكر اسما، وحاول إجبار معاذ على القول بأنه هو المصدر الذي أخفى "العربي الجديد" هويته حفاظا على أمنه الشخصي، ثم سأله عن أحد المتصلين الذين كانوا يحاولون استقطاب الشباب الفلسطيني، ومن هو المصدر الأمني الذي كشف عن محاولات سابقة تم رصدها وتتفق مع ما وثقه "العربي الجديد".
وكان التحقيق قد كشف عن كيف تدعي مخابرات الاحتلال العمل من خلال منظمات دولية وإنسانية لاستدراج الفلسطينيين المقيمين في الخارج، بسبب التسهيلات التي تحصل عليها تلك المنظمات للتحركات المختلفة وتنظيم الأنشطة، وإرسال الحوالات البنكية أيضاً.
ويعمل الاحتلال الإسرائيلي من خلال شبكة من الشركات الوهمية في كل من جورجيا ورومانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا، لاستقطاب الشباب الفلسطينيين الباحثين عن العمل في مجالات عديدة، كالبحث العلمي في العلوم الاجتماعية والسياسية، والتصوير والأفلام، والصحافة، كما يستهدف النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، وفقاً للتحقيق.
محاولات لا تتوقف
ولا تتوقف محاولات الموساد الإسرائيلي العمل على توريط فلسطينيين في الخارج للتعاون معهم، بغية التجسس على التنظيمات الفلسطينية في أوروبا، وفقاً لمصدر أمني في المخابرات الفلسطينية طلب عدم الكشف عن اسمه، مشيرا إلى رصد حالات أخرى كثيرة مشابهة لما وثقه التحقيق، حدثت ما بين 2016 و2019، والتقى خلالها المُستهدفون مع تلك الشخصيات التي تدعي العمل لصالح القضية الفلسطينية وتتوارى تحت مظلة من المنظمات الخيرية الوهمية، مشيراً إلى حادثة مشابهة لشاب جرى التواصل معه باسم منظمة إسلامية زعموا أنها تعمل في هولندا، وطلبت منه إعداد تقارير عن فلسطين لمدة عام كامل، ومن ثم ساعدوه في الحصول على فيزا شنغن للدخول إلى إحدى دول شرق الاتحاد الأوروبي، للقاء أعضاء المنظمة في أحد فنادق أمستردام، ليجد حينها أن ضباطا في الموساد الإسرائيلي رتبوا لكل ذلك، وحاولوا تجنيده للعمل معهم بإغرائه بالمال.
ويتطابق ما كشفه المصدر مع ما نشر في كتاب (علم المخابرات- الجاسوسية) عام 2014، من تأليف المتخصصة بالعلاقات الدولية حنان اخميس، التي قالت "نجد أن علاقات وثيقة تربط الموساد بالدول الغربية، وخاصة مع مخابرات حلف شمال الأطلسي، إذ قد يشارك ضباط الموساد في التحقيق مع الموقوفين أو طالبي اللجوء العرب في تلك الدول، مستغلين ذلك لكسب عملاء لهم".
مخالفات قانونية
تؤكد مصادر وخبراء في شؤون الهجرة والأمن لـPúblico أن الحرس المدني ليست لديه صلاحيات في شؤون الهجرة (تقع على عاتق الشرطة الوطنية). كما أشاروا إلى أنه من الشائع أن تتصل خدمات المعلومات التابعة للحرس المدني بالمهاجرين واللاجئين وتحاول الحصول على معلومات منهم، ولكن ليس عبر بروتوكولات تنطوي على تهديدات وترهيب مثل تلك التي واجهها معاذ. كما لا توجد حاليًا اتفاقيات تعاون رسمية تسمح للموساد بتنفيذ أعمال من هذا النوع في الأراضي الإسبانية أو في مباني الدولة. وهو ما أكد عليه برلمانيون بحسب إفادة الصحافي لـ"العربي الجديد"، إذ تواصل ممثلون عن كتلة بوديموس (قادرون) اليسارية، واليسار الموحد "إسكاردا يونديس" مع معاذ، وأكد مدير المكتب الإعلامي لبوديموس ديفيد برخيل رفض ما حدث، وأعرب عن استنكارهم وخجلهم من الواقعة التي تعد خرقا لجميع القوانين الإسبانية، كما وعد إنريكي سانتياغو، النائب عن اليسار الموحد، بمتابعة الموضوع وفتح جلسة محاسبة بحق وزارة الداخلية في البرلمان.