ازدهار تجارة الآثار المصرية... التهريب عبر المنافذ الرسمية

30 اغسطس 2018
الآثار المصرية تعاني من الإهمال والسرقة (Getty)
+ الخط -
 

في شهر رمضان الماضي فوجئ المصريون بتحول دراما مسلسل طايع، الذي دارت أحداثه حول اتجار شخصيات نافذة بالآثار وتهريبها عبر "الحقائب الدبلوماسية" إلى واقع بعد إعلان شرطة مدينة نابولي في العاشر من الشهر ذاته ضبط 23 ألفا و700 قطعة أثرية من بينها 118 قطعة مصرية مهربة في حاوية دبلوماسية قادمة من ميناء الإسكندرية إلى ميناء ساليرنو جنوبي إيطاليا.

عقب إبلاغ وزارة الخارجية المصرية لوزارة الآثار عن الآثار المضبوطة، تشكلت لجنة متخصصة لفحص صور القطع المضبوطة، والتأكد من أثريتها وانتمائها للحضارة المصرية القديمة، بحسب ما أعلنه وقتها شعبان عبدالجواد مدير عام إدارة الآثار المستردة في وزارة الآثار والذي أشار إلى احتمال أن تكون "هذه القطع جاءت من عمليات السرقة الناتجة عن الحفر غير الشرعي للبحث عن الآثار، نظراً لكونها ليست من مفقودات مخازن أو متاحف وزارة الآثار "إلا أن الباحثة في علم المصريات وعضو الحملة المجتمعية للرقابة على التراث والآثار الدكتورة مونيكا حنا أكدت في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد" عكس ذلك تمامًا؛ إذ توصلت عبر معاينة صور القطع الأثرية المضبوطة في إيطاليا إلى أن بعضها يحمل علامات وملصقات مدون عليها أرقام للقطع تشبه تلك المستخدمة في مخازن الآثار المصرية، وهو ما يشير إلى خروج وسرقة قطع من الأواني الفخارية المضبوطة والتي تنتمي إلى حقب زمنية مختلفة وأجزاء من توابيت وعملات، وقطع قليلة تنتمي للحضارة الإسلامية، من جهة رسمية مصرية، الأمر الذي تؤيده تناقضات في التصريحات الحكومية والتعامل الرسمي مع تلك الأزمة، وفق ما توثقه السطور التالية.
 

 
 


تناقضات حكومية

في 14 مارس/آذار الماضي، علمت السلطات المصرية بالعثور على القطع الأثرية عبر الشرطة الإيطالية، لكنها لم تتحرك إلا بعد شهرين من كشف صحيفة إيمولاأوجي imolaoggi الإيطالية عن تهريب القطع الأثرية المصرية لترد السلطات المصرية في مايو/أيار الماضي عبر بيان صحافي نفي صفة الدبلوماسية عن الحاوية التي هرّبت فيها الآثار، والتي استردتها مصر في نهاية يونيو/حزيران الماضي، رغم كونها ليست من مفقودات مخازن أو متاحف وزارة الآثار كما أكد مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في بيان صحافي عقب وصول القطع إلى مصر، ولكونها ليست من "المفقودات الموثقة في المخازن والمتاحف"، أثار الأمر مخاوف مدير عام إدارة الآثار المستردة من عدم القدرة على إثبات مصر ملكيتها لها، ومن ثم فإن استعادتها لو جرت ستكون بعد سنوات عدة، لكن الأمر لم يستغرق سوى خمسة أشهر ما يشي بفداحة مشكلة التهريب عبر المنافذ الرسمية، الأمر الذي يؤكده مصدر رسمي في مطار القاهرة تحدث إلى "العربي الجديد" شريطة عدم ذكر اسمه أو صفته، حفاظاً على أمنه الشخصي، قائلا إن الحقائب الدبلوماسية أصبحت أسهل طريقة لتهريب الآثار من مصر، عبر سفارات من دول مختلفة يعمل فيها دبلوماسيون متورطون في هذه الأعمال.

وتعرف الحقيبة الدبلوماسية بأنها أي مظروف أو طرد أو صندوق أو حاوية شحن أو أي وعاء آخر يستخدم بواسطة البعثة الدبلوماسية، وليس للحقيبة الدبلوماسية حجم أو وزن أو شكل معين حتى تتمتع بالحصانة، ولا يجوز فتح أو حجز الحقيبة الدبلوماسية بحسب المادة 27 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.

وتابع المصدر العامل في مطار القاهرة إن "تهريب الآثار نظريا لم يتوقف في مصر، لكن طرق التهريب تختلف من فترة إلى أخرى"، وأوضح أنه "بعد الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 وسيطرة الجيش بقيادة وزير الدفاع آنذاك الفريق أول عبد الفتاح السيسي على مقاليد الحكم، أصبح للقوات المسلحة نفوذ واسع داخل المنافذ الجوية والبحرية والبرية لمصر، إذ يكفي أن يقوم ضابط من رتبة كبيرة بإحضار ما يفيد بأن شحنة ما، سواء واردة أو صادرة، تابعة للقوات المسلحة، حتى يتجاوز رجال الجمارك عن تفتيشها، وبهذه الطريقة يمكن لأي شخص تهريب أي شيء، سواء من داخل مصر إلى خارجها أو العكس".

إفادة المصدر الرسمي في مطار القاهرة أكدها مصدر آخر يمتلك إحدى شركات التخليص الجمركي، والذي قال لـ"العربي الجديد" بعد اشتراط إخفاء هويته، إنه كان شاهداً على أكثر من صفقة تهريب، إحداها كانت عبارة عن شحنة ضخمة من الأدوية الواردة إلى مصر، وتم الاتفاق مع ضابط على أن يُحضر شهادة تفيد بأن الحاوية التي تحمل الشحنة واردة للقوات المسلحة، ثم يقوم الضابط باستلامها في مطار القاهرة وتسليمها لأصحابها خارج الدائرة الجمركية، وكضمان لصاحب الشحنة يقوم الضابط بتوقيع شيك بنكي بقيمة الصفقة لصاحبها، وعقب خروجها يقوم بإعادة ذلك الشيك مرة أخرى للضابط، وهي طريقة متعارف عليها بين المهربين، كما يقول.

وأضاف المصدر أن من يتعاملون في هذه الصفقات، يكونون على دراية واسعة بنوعية ما يتم تهريبه، الأمر الذي يمكنهم من الحصول على نسبتهم من الصفقة دون خداعهم من قبل المهربين، قائلا "تهريب الآثار لا يختلف عن تلك الطريقة ويتم إما عن طريق الحقائب الدبلوماسية، أو عن طريق إدعاء كون الشحنة تابعة للجيش، بعد أن يوقّع الضابط المتورط شيكًا بقيمة الشحنة لصاحبها كضمان على عدم ضبطها وفي المقابل يحصل على عمولته قبل تنفيذ العملية وتتراوح ما بين 10 إلى 20% من قيمة الشحنة، والعمولات تكون حسب نوع القطعة الأثرية وتاريخها"، مضيفاً أن الرصيف الخاص بالقوات المسلحة في أي منفذ بحري مصري، يعد منطقة محرمة على رجال الجمارك، ويمكن أن يتم تهريب أي شيء عبره.

ورغم أن قطاع الآثار المصرية، لديه مفتشون يعملون في وحدات أثرية بجميع المنافذ الجوية والبحرية والبرية المصرية، مسؤولة عن فحص ومعاينة البضائع الصادرة من مصر والواردة إليها، على مدار 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، إلا أن خروج أي شحنة تابعة للقوات المسلحة لا يمر عبر تلك الوحدات منذ يونيو/حزيران من عام 2013 كما يؤكد المصدران.
 

 
 


حجم الآثار المنهوبة

تتباين التقديرات حول حجم آثار مصر المهربة، لكن أكثرها دقة هو ما أعلنت عنه وزارة الآثار عبر بيان رسمي في أغسطس/آب الماضي إذ كشفت عن فقدان 32 ألفًا و638 قطعة أثرية على مدار أكثر من 50 عامًا مضت، بعد أعمال حصر وتوثيق للقطع المسجلة في المخازن والمتاحف المصرية، فيما استردت مصر 975 قطعة أثرية من 10 دول مختلفة خلال الفترة من مارس/آذار 2016 وحتى مايو/أيار من عام 2018، وفق ما جاء في بيان صحافي لوزارة الآثار عقب تسلمها الآثار المهربة إلى إيطاليا، بينما يقدر رئيس اتحاد الأثريين العرب محمد الكحلاوي نسبة الآثار التي خرجت من البلاد منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني وحتى العام الجاري بنحو 30% من آثار مصر بسبب الفوضى الأمنية التي سمحت بنشاط متزايد لأعمال التنقيب غير الشرعية وسرقة الكنوز الأثرية، كما قال في تصريحات صحافية، لكن وزير الآثار المصري خالد العناني شكك في الأرقام التي تحدث عنها الكحلاوي، قائلا في تصريحات صحافية "هذه الإحصائيات مبالغ فيها، رغم أن هناك آثاراً سُرقت بالفعل، ولكن لا أحد يستطيع تحديد النسبة لطرف بعينه".

وخسرت مصر ثلاثة مليارات دولار نتيجة سرقة قطع أثرية من بعض المواقع الأثرية والمتاحف ودور العبادة منذ عام 2011 حتى عام 2014، بحسب ما أكده تحالف الآثار (مجموعة ضغط مقرها واشنطن، تسعى لرفع الوعي حول نهب وتهريب الآثار في المنطقة العربية)، وفي السياق ذاته أكد الباحث في علم المصريات، بسام الشماع، في تصريحات للتليفزيون المصري الرسمي أن "مزاد كريستيز للأعمال الفنية تباع فيه الآثار المصرية علانية"، وهو ما ترد عليه الباحثة مونيكا حنا قائلة "المخازن الأثرية تحوي آثاراً عديدة غير مسجلة، ويتم بيعها"، ويمكن استعادة الأثر المعروض في المزادات الأجنبية إذا كان مسجلًا في هيئة الآثار الحكومية، أما الآثار الخارجة عن الحفر فجميعها غير مسجلة، وبالتالي من المستحيل استعادتها".

واتفق الشماع وحنا على الحاجة إلى تكاتف تشريعي دولي لمواجهة طرق التهريب الحديثة للآثار المصرية.



إعلانات بيع الآثار وطلب المشاركة في التنقيب


تنتشر إعلانات بيع الآثار المصرية بصورها وأثمانها على المواقع الإلكترونية مثل ebay، وinvaluable وancientresource ووثق معد التحقيق عروضا للبيع والشراء من مصريين وعرب منتشرة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) وحتى في تعليقات المشاهدين على تسجيلات مرئية على موقع يوتيوب بعنوان (طريقة بيع الآثار المصرية وأسعارها وأشكالها الأصلية)، إذ يعلن الباعة عما بحوزتهم ويضع بعضهم علانية لقطات فيديو لقطع أثرية فيما يرسل المشترون أرقام هواتفهم لهم لإرسال صور لما لديهم من آثار كما يعرض آخرون مقاطع لمقابر فرعونية كاملة للمشاركة في التنقيب، وتحظى تلك المقاطع بمئات آلاف المشاهدات وتبرز التعليقات اهتمام مشاهدين بالمشاركة في التجارة غير المشروعة قانونيا، وتؤكد الدكتورة مونيكا حنا لـ"العربي الجديد" إن العصابات المنظمة لتجارة الآثار العاملة في مصر، تحتاج إلى أشخاص يموّلون عمليات البحث والتنقيب باستخدام أجهزة حديثة للكشف عن المعادن الثمينة مثل "جيوسونار" الذي يستخدم للكشف عن الآثار والذهب الموجود في باطن الأرض، وهو ما يدفعهم إلى تلك الإعلانات ومحاولة الحصول على شركاء كما يؤكد مصدر أمني يعمل في الإدارة العامة لشرطة السياحة والآثار.

 
 


هل تكفي تعديلات قانون الآثار لإيقاف الظاهرة؟

في مارس/آذار الماضي فوجئ المصريون بإعلان الإدارة الكويتية العامة للجمارك عن ضبط غطاء تابوت فرعوني بعد تهريبه داخل قطعة أثاث (كنبة) عبر مطار القاهرة، وتبين من التحقيقات في القضية رقم 3545 لسنة 2018 عقب تفريغ كاميرات المراقبة الموجودة في المطار لمعرفة خط سير الكنبة وكيفية خروجها من المطار، أن أمين الشرطة العامل على جهاز الماسح الضوئي الذي مرت قطعة الأثاث وبداخلها الأثر، كان يتحدث في التليفون ووجهه في الاتجاة الآخر بعيداً عن الجهاز حتى مرورها.

وبعد ما يقارب الشهر على حادثة الكويت، وافق مجلس النواب المصري، في 24 إبريل/ نيسان، على تعديل قانون حماية الآثار، وتغليظ العقوبات المرتبطة بالجرائم الخاصة بالآثار، مثل السرقة والتهريب والتنقيب والإتلاف، وبموجب التعديلات الجديدة يعاقب كل من قام بسرقة أو حيازة أثر أو إخفائه أو جمع آثار بقصد التهريب أو اشترك في ذلك مع علمه بالغرض، بالسجن المؤبد 25 عاما، وعاقب مشروع القانون، في مادته (41) كل من قام بتهريب أثر إلى خارج البلاد مع علمه بذلك بغرامة لا تقل عن مليون جنيه (56 ألف دولار أميركي) ولا تزيد على 10 ملايين جنيه (560 ألف دولار) بعدما كان القانون يعاقب سابقا بالحبس المشدد (من 3 حتى 15 عامًا) وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه (5.6 آلاف دولار) ولا تزيد على مليون جنيه (56 ألف دولار) على الجريمة ذاتها.

وتعاقب تعديلات القانون كل من قام بسرقة أثر أو جزء من أثر أو اشترك في شيء من ذلك سواء أكان الأثر من الآثار المسجلة أو المملوكة للدولة، بالسجن المشدد، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه (2802 دولار)، ولا تزيد على مائة ألف جنيه. وحدد القانون الجديد للآثار، عقوبة إتلاف الآثار بالسجن المؤبد، إذ تضمن النص على عقوبة السجن المؤبد لكل من هدم أو أتلف عمدا أثرا منقولا أو ثابتا، أو شوهه أو غيّر معالمه أو فصل جزءا منه عمدا، أو اشترك في ذلك أو أجرى أعمال الحفر بقصد الحصول على الآثار دون ترخيص أو اشترك في ذلك.

لكن تعديلات قانون تهريب الآثار لم تقنع عضو تكتل 25 - 30 في البرلمان المصري النائب هيثم الحريري، إذ قال إن تغليظ العقوبة وحده لا يكفي، بدليل أن عقوبة الاتجار بالمخدرات الإعدام، ومع ذلك لم تردع الكثير من تجار المخدرات.

وقدم الحريري طلب إحاطة إلى رئيس مجلس الوزراء حول كيفية تهريب الآثار المصرية إلى الخارج، ووجه سؤالا إلى وزير الداخلية باعتباره المسؤول عن أمن الموانئ، ووزير الخارجية باعتبار أن الشحنة التي خرجت من ميناء الإسكندرية وتحتوي على آثار، خرجت في حقيبة دبلوماسية، كما طرح سؤالاً حول دور وزارة الآثار وموقفها من قضية التهريب، وماذا تفعل حيال الآثار المهربة؟"، وهو ما  تتفق معه حنا قائلة إنه "لا توجد استراتيجية محددة لدى الحكومة من أجل مكافحة تهريب الآثار والحل، لا بد أن يكون بعقاب المسؤولين عن عمليات التهريب بلا استثناء، سواء كان ذلك المسؤول تاجرا أو موظفا صغيرا، أو حتى مسؤولا كبيراً".