أطفال مختبئون... عزلة أبناء الدواعش المتوفين في سورية

إدلب

سامر محمد

صحافي
سامر محمد
صحافي سوري

أحمد حاج بكري

أحمد حاج بكري
أحمد حاج بكري
صحافي سوري

سعاد خبية

avata
سعاد خبية
صحافية سورية
19 فبراير 2023
546
+ الخط -

يكابد أطفال صغار معاناة يومية تشمل أدق تفاصيل حياة لم يختاروا فيها والديهم، إذ يدفع الأبناء ثمن تطرف الآباء وانضمامهم إلى تنظيم داعش الإرهابي، ليعيشوا في عزلة ومحاولة اختباء برفقة أمهات لا يجدن قوت اليوم.

- لم تتمكن الثلاثينية الفرنسية خديجة المحمد (كما جاء اسمها في عقد الزواج) من تسجيل طفلها الأكبر البالغ من العمر 6 أعوام في المدرسة، بسبب عدم امتلاكها أي وثائق تخصه وبقية الأبناء، بعد عدم موافقة مختار حارم، غرب إدلب، منحهم ورقة لإثبات صلة الأبناء لعدم امتلاكها ما يؤكد هويتهم.

وأحرقت المحمد عقد زواج صادر عن محاكم تنظيم داعش الإرهابي، رغم أنه كان يشكل الإثبات الوحيد على ارتباطها بزوجها مغربي الجنسية الذي قتل في ضربات التحالف الدولي على محافظة الرقة عام 2016، خوفا من تعرضها وأطفالها لمكروه أثناء إقامتها في إدلب، بحسب ما ترويه لـ"العربي الجديد".

ويؤدي عدم امتلاك أوراق رسمية تثبت نسب الأطفال ممن كان آباؤهم أعضاء في داعش إلى ذات المشاكل التي يواجهها أبناء المحمد، وبالتالي يعيشون في معاناة ترافقهم في كل شؤون حياتهم ويختبئون خوفا من ممارسة الأنشطة اليومية الأساسية مثل الالتحاق بمدرسة أو التنقل، والأسوأ أن غياب شهادات الميلاد يمنع إثبات الجنسية، وبحسب مصادر التحقيق، فإن نظام تسجيل الزيجات والمواليد الخاص بداعش غير معترف به لدى السلطات، وما يفاقم الأمر أكثر أن نساء ارتبطن بأعضاء من التنظيم أضعن أو أقدمن على التخلص مما كان لديهن من أوراق لدى انتقالهن إلى مناطق خارج معاقل داعش خوفا على أبنائهن، وفقا لشهادات 5 حالات قابلهن معدو التحقيق.

وعلى الرغم من صعوبة حصر عدد هؤلاء الأطفال، تمكنت حملة (مين زوجك)، التي أطلقها ناشطون سوريون بهدف التوعية بتبعات زواج السوريات من الأجانب الذين يصلون إلى البلاد، من توثيق 1735 حالة زواج لسوريات من مقاتلين أجانب كانوا في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، من بينهم 1424 امرأة أنجبن أطفالا وصل عددهم إلى 1826 طفلا يصنفون باعتبارهم مجهولي النسب لعدم امتلاكهم أي أوراق ثبوتية، وانتهى الحال بـ 193 سيدة منهن أرامل ومطلقات، واختفى أزواج 165 منهن أو هربوا خارج سورية، وفق ما يؤكده نسيب عبد العزيز، مدير الحملة، والذي قال لـ"العربي الجديد" :"أعداد النسوة المقترنات بأفراد داعش أكثر من ذلك بكثير، لكن هذا ما تمكنت الحملة من توثيقه، كما اقترن أفراد التنظيم بنساء من خارج سورية أيضا، ومنهن من يعشن مع أبنائهن حاليا إما في المخيمات أو في مناطق الشمال السوري".

معاناة في العزلة

تعيش الثلاثينية العراقية حياة الجيلاوي وولداها عبد الله (6 أعوام)، وأبو بكر (5 أعوام) في عزلة بمدينة الباب، شمال حلب، منذ هروبهم من مخيم الهول الواقع على المشارف الجنوبية لمحافظة الحسكة، وتنحدر أصول الأب من دول القوقاز، وكانت قد ارتبطت به عام 2015 بعد سيطرة تنظيم الدولة على الموصل حيث كانت تعيش، ثم انتقلا إلى سورية وقتل في الرقة أثناء ضربات التحالف التي استهدفت التنظيم عام 2017، بحسب ما يرويه سالم الحلبي وزوجته أحد جيران الأسرة التي اختارت إخفاء الطفلين وعدم إرسالهما إلى المدرسة خوفا عليهما من الانتقام، وأسهم افتقارهم إلى أي وثائق في تعقيد حصولهم على مساعدات من المنظمات الإغاثية.

1826 طفلاً يصنفون ضمن فئة مجهولي النسب لعدم امتلاكهم أي أوراق ثبوتية

وتؤكد مصادر التحقيق تزايد أعداد النسوة اللواتي ارتبطن بأفراد من التنظيم في الرقة وغيرها من المدن شمالا، إذ وصلت 385 عائلة مؤلفة من نساء وأطفال إلى إدلب، بمساعدة سماسرة ومهربين خلال عام 2020، بحسب إفادة شماع العجيل والذي أمن منازل لهن في منطقة حارم.

ويتفق المُعلم أحمد المخلص مع ما سبق، مشيرا إلى أنه التقى خلال عمله في بلدة الدانا ومخيماتها في إدلب، أربع حالات لأطفال يعودون لآباء أجانب وأمهات سوريات، مشيرا إلى أنه تمكن من التعرف إلى أصولهم غير السورية من خلال مظهرهم الخارجي، مؤكدا على وجود عدد أكبر من هؤلاء الأطفال لكن غالبيتهم لا يُرسلون إلى المدارس لعدم امتلاكهم وثائق وتجنبا للتصريح بجنسيات آبائهم وانتمائهم للتنظيم ما يهددهم بخسارة فرصة تعليمهم.

بينما يؤكد المدرس السوري مصطفى الشهري، (اسم مستعار بناء على طلبه)، والذي يعمل متطوعا مع لجان الإغاثة المحلية في الرقة منذ أربع سنوات ويساعد الأرامل عبر تنسيق وصول المساعدات التي يقدمها فاعلي خير من ذات المنطقة، وجود شريحة كبيرة من الأطفال الأيتام من دون أوراق ثبوتية، ولاحظ بحكم تعامله معهم من أجل تأمين مساعدات لهم زيادة أعداد هذه الأسر التي وفدت من المخيمات التي تحتجز فيها أرامل داعش، ومنها مخيما الهول والباغوز في محافظة دير الزور، ونسبة من هؤلاء النسوة هن من الرقة في الأصل وتزوجن بغير سوريين، ومنهن من تزوجن بسوريين من أعضاء التنظيم، منهم من قتل ومنهم من اختفى، تاركين أطفالا دون تسجيلهم، وما يزيد الأمر تعقيدا بحسب الشهري أرامل لديهن أطفال كل منهم من أب مختلف وبعضهم ينحدر من جنسية مختلفة أيضا، ضاربا مثالا بحالة إحداهن التي يعرفها جيدا بحكم تردده إلى بيتها لإيصال المساعدات، وهي ثلاثينية سورية الجنسية، لديها ثلاثة أطفال، أكبرهم يبلغ عمره 8 سنوات من أب مغربي، والطفلان الآخران من زوجها الثاني أوزبكي الجنسية، وبعد أن قتل أبوهم فرّت بهم ولا تملك أي وثيقة، وتعيش الآن حياة صعبة معتمدة على مساعدات شحيحة، وأطفالها من دون مدرسة، ويعيشون في عزلة تامة، كما يظهر عليهم الهزال وسوء التغذية، على حدّ وصفه.

تسجيل الأبناء ونسبهم لغير أبيهم

يكشف نسيب عبد العزيز، القائم على حملة مين زوجك، أن العدد الأكبر من الحالات الموثقة لسوريات اقترنّ برجال أكثرهم من الجنسية السعودية والشيشانية ودول المغرب العربي، وهؤلاء كانوا يستخدمون ألقابا أو أسماء وهمية في معظم عقود الزواج، ما يعقّد معرفة اسم ونسب والد الطفل الحقيقي، ولم يكن فقط موت الزوج وعدم معرفة اسمه العائق لتسجيل الأطفال، ففي بعض الحالات، كان الأب يطلّق الزوجة بعد مدة وينتقل إلى محافطة أخرى ويتزوج مرة ثانية، من دون الاكتراث لمصير الزوجة إن كانت حاملاً، ولمصير الأطفال إن كان لديهم أطفال، وفق ما وثقته الحملة.

لجأت سوريات مقترنات بأفراد من داعش إلى نسب الأطفال لغير آبائهم

وتُجبر زوجات المقاتلين على اتباع حيل لتسجيل الأطفال في الدوائر المدنية، إذ قامت إحدى السيدات اللواتي اطلع عبد العزيز على حالتهن بتسجيل الأطفال على أنهم إخوة للزوجة التي لم تكن تجاوزت الخامسة عشرة من عمرها عندما قتل زوجها في إحدى المعارك. وبحسب عامل في مجلس محلي بمنطقة المنصورة في الرقة، رفض الكشف عن اسمه حتى لا يتعرض لمساءلة أمنية، فإن 13 أسرة في منطقة المنصورة غرب الرقة سجلت أبناء الزوجات على قيود أشقاء الزوجة، بمعنى أن خال الأولاد سجلهم ضمن دفتر العائلة الخاص به، وهذا الإجراء كان ساريا بين العائلات التي تمتلك طفلا، أو اثنين بالكاد لا يتعدى عمر الواحد العامين أو الثلاثة، إذ يدفع شقيق الزوجة رسوما لتسجيل الأولاد ونسبهم له بصفتهم أبنائه تأخر في تسجيلهم.

ما سبق يؤكده خالد الدحل الشمري، عضو مؤسس بمجلس القبائل والعشائر، وعضو لجنة الصلح والسلم الأهلي في منطقة الباب بريف حلب، مشيرا إلى قيام كثير من الأهالي بتسجيل الأطفال على أسماء أقاربهم من الأعمام والأخوال، أو على اسم زوج آخر، ويقدر عدد حالات السيدات المتزوجات بأفراد من التنظيم في مناطق الشمال الغربي من سورية، بما فيها الباب، بـ 300 حالة بينها 60 حالة لمتزوجات بأجانب والبقية من سوريين.

طريق آخر سلكته أم الحسن (كما طلبت تسميتها) ذات الجنسية الأذربيجانية والمقيمة بمنطقة جسر الشغور غرب إدلب مع أولادها الخمسة، إذ نجحت بالحصول على دفتر عائلة مزور منذ عام 2019، عندما كانت مكاتب تزوير الوثائق منتشرة بكثرة، ومنذ ذلك الحين تسلمت مساعدات إغاثية، إلا أنها لم تشأ أن ترسل أطفالها إلى المدرسة كي لا يكتسبوا أفكارا تخالف عقيدتهم كما تقول بينما تدرسهم بنفسها في المنزل.

وتسعى السيدة الثلاثينية إلى العودة لأذربيجان التي قدمت منها مع زوجها المنتمي إلى ذات الجنسية واستقرا في الموصل حتى قتل هناك، ومن ثم تزوجت عنصرا آخر من تنظيم داعش الإرهابي ينتمي إلى تركمنستان وفقدت آثاره في عام 2017.

لكن بعد ما أصبح استصدار الوثائق الرسمية لسكان إدلب حصريا عبر دوائر حكومة الإنقاذ، تم إيقاف دفتر العائلة الذي حصلت عليه عقب تعميم يحظر العمل بوثائق غير صادرة من سجل الحكومة المدني، ليتم حرمانها هي وأطفالها من المساعدات الإغاثية.

إمكانية الحصول على الجنسية السورية

يجيز المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969 المتعلق بالجنسية السورية، في مادته الثالثة، منح الجنسية السورية للأطفال من والدين مجهوليْن أو مجهولي الجنسية، والمولودين في القطر من أم سورية ولم تثبت نسبتهم إلى أبيهم قانونا، وهذا ينطبق على حالة زوجات مقاتلي تنظيم الدولة من السوريات كون آبائهم غير معروفين، بحسب توضيح محمود الهادي النجار، نقيب المحامين الأحرار في سورية، لكن لم تشهد أي محكمة في مناطق الحكومة السورية المؤقتة حالة واحدة حتى اليوم لتقدم زوجة بطلب لتسجيل أطفالها باعتبارهم "مجهولي النسب"، ويعود ذلك، بحسب النجار، إلى أن أهالي النساء اللواتي تزوجن من مقاتلي التنظيم لا يصرحون بذلك خشية العار وخوفا من أي مشاكل قد تحصل لاحقا، كون مقاتلي التنظيم قتلوا الكثير من أهالي مناطق شمال سورية وشبابها، وبدل ذلك، تسلك النساء طرقا بديلة لتسجيل الأطفال على أنهم أبناء إخوة الزوجة أو أخوات لها.

أما بالنسبة للأطفال المولودين على الأراضي السورية لأب وأم غير سوريين، فيفترض أن يجري تسليمهم في الوضع الطبيعي للدولة التي يحمل الأب جنسيتها وهو مالا يتم بسبب تجاهل حالة هذه العائلات من قبل السلطات، ويتخوف النجار من استمرار وضع الأطفال مجهولي النسب من دون حلول، مضيفا أن بعض النساء لا يفصحن عن زواجهن من مقاتلي التنظيم، ويزعمن أن أزواجهن سوريين ماتوا خلال الثورة، وهذا تحدٍ إضافي لعمل الجهات القضائية في ظل فقدان الوثائق الرسمية والنزوح المستمر، وفي كثير من الحالات، لا يكون للمحاكم مصدر حقيقي غير ما يدلي به المدعي، مشيرا إلى أن الجهاز القضائي والمحاكم تتعامل مع كل حالة على حدة، لذلك لا يوجد قرار واضح يمكن اتباعه في مثل هذا الحالات، ويبقى الخاسر الوحيد هم الأطفال الذين لا ذنب لهم ولكنهم من يتحملون النتائج المرة.

داعش2

تبعات الحياة بلا جنسية

يتطابق ما يوثقه التحقيق من تبعات مع ما جاء في تقرير صدر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في 3 نوفمبر/تشرين الأول 2015، حول التأثير المدمر لانعدام الجنسية على الأطفال، كونه "يجلب مشكلات مثل التمييز والمساس بالحق في التعليم والسكن والرعاية الصحية والعمل، ويفاقم أيضا المشاكل التي يواجهها الأفراد الذين يعانون من التهميش الاجتماعي، والإحباط  واليأس، وهذا خليط خطير من المشاعر التي يمكن أن تهيئ الطريق إلى مستقبل من التطرف".

ونتيجة تراخي الحكومات في عمليات إعادة النساء والأطفال إلى أوطانهم ما زال الآلاف متروكين من قبل بلدانهم في المخيمات والسجون في شمال شرق سورية، وهناك أطفال غرقوا في حفر الصرف الصحي، وماتوا في حرائق الخيام، ودهستهم شاحنات مياه، ومات المئات نتيجة أمراض يمكن علاجها، بحسب ما يكشفه تقرير أصدرته هيومن رايتس ووتش بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول 2022، بعنوان سورية: تأخير عمليات إعادة الأجانب ذوي الصلات المزعومة بـ"داعش" إلى أوطانهم، معتبرا أن الحكومات التي تساهم عن علم وبشكل كبير في هذا الحبس التعسفي قد تكون متواطئة في الاحتجاز غير القانوني هذا، والذي يُرتكب كجزء من "هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين"، ما يعني أن سياسة الدولة أو المنظمة لاحتجاز الأشخاص بشكل غير قانوني، يمكن أن يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية.

ويحمّل فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، السلطات الثلاث، "قوات سوريا الديمقراطية" وقوات المعارضة والنظام، مسؤولية ما يواجهه الأطفال من مستقبل مجهول، وهذا ما انعكس على حياتهم وحولها إلى معاناة كارثية نتيجة المصاعب التي تواجههم في عمليات التسجيل بالمدارس وفي أدق تفاصيل المعيشة، مضيفا أن معظم الآباء قتلوا أو تم اعتقالهم، لذلك عملية البحث عنهم شبه مستحيلة، لكن التعامل مع الأطفال على أنهم متهمين ومجرمين أمر مرفوض، إذ يجب إيجاد حل يعيد للأطفال حقوقهم الطبيعة التي حرموا منها، ومحاولة دمجهم بالمجتمع من دون تمييز، معتبرا أن هذه مشكلة اجتماعية خطيرة لا يجرى التصدي لها من كل الأطراف المسؤولة رغم أن عدد الأطفال بالآلاف.

ذات صلة

الصورة
يُقلق موسم الأمطار والشتاء سكان مخيمات شمال غربي سورية (العربي الجديد)

مجتمع

غرقت وتضررت خيام كثيرة للاجئين في السنوات الأخيرة بفعل العواصف والأمطار والسيول خلال الشتاء في الشمال السوري لكنهم لا يزالون داخلها، وتتهددهم مآسٍ جديدة
الصورة
الحرب والفقر والتلوث يقضي على حياة السوريين (العربي الجديد)

تحقيقات

لا خيارات أمام النازحين في الشمال السوري، إذ تحاصرهم نفايات المصافي النفطية البدائية المعروفة بـ"الحراقات" ويتراكم تأثيرها الملوث في الهواء والماء ليقتلهم
الصورة
أزمة المياه في مخيمات الشمال السوري، يوليو 2024 (العربي الجديد)

مجتمع

يُواجه النازحون في مخيمات الشمال السوري أزمة مياه غير مسبوقة، بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، بالإضافة إلى توقف دعم مشاريع الإصحاح..
الصورة
مخيمات الشمال السوري ، 1 يوليو 2024 (عدنان الإمام/العربي الجديد)

مجتمع

تعاني آلاف الأسر النازحة في مخيمات الشمال السوري من أزمة إنسانية حادة نتيجة انعدام المياه الصالحة للشرب، وذلك بسبب توقف دعم المنظمات الإنسانية