"صالون حلاقة ق" و"أولفِلاند" يتشاركان في محاولة استِنْطاق الأمكنة، وتسجيل شكواها من عدائية بعض سكّانها. فالمدن كالبشر، تميل بطبعها إلى الاحتواء والتنويع، لا إلى النبذ والطرد. هذا يعطيها حيويتها، ويُبعد عنها شبح الانكفاء والوحشة، ويجعلها في الأساس مقامًا.
الوثائقيان المشاركان في الدورة الـ17 لـ"مهرجان كوبنهاغن الدولي للفيلم الوثائقي"، المُقامة بين 20 و31 مارس/ آذار 2019، يتقاربان في رصدهما أحوال مدن دنماركية، صورتها مهتزّة بفعل التنوّع وأضداده، ويدعوان إلى تأمّل وجود الكائن الساكن فيها، والداخل في نسيجها، عبر الطفولة المعاشة في مكانٍ لا تعرف غيره انتماءً لروحها، كما ترى البولندية السويدية الدنماركية الإقامة أوليفيا تشامبي ـ روس في عيش أهالي "بلوغورد بلاس"، مختلطة الأجناس والأعراق؛ بينما يجد الدنماركي إيميل لانغباله، في صالون حلاقة قاسم الصومالي، مساحة حيوية، يُمكن من خلالها مراقبة حيوات بشر ومآلاتهم، أوصلتهم أقدارهم إلى "غيتو فولسموسه".
الكتابة، بلغة سينمائية مُسالمة، خيار صعب في سياق سرد حكايات مشحونة بالأوجاع والمهانات. حين يتجذّر الغضب والانفعال فيها، يصبح الرهان على ضبط المشاعر المضطربة والمتناقضة للمغضوب عليهم، بحكم لون بشرتهم وجنسهم، تحدّيًا أمام خُلّاقها، إذا أصرّوا على أن تأتي بتلك الصورة.
في "صالون حلاقة ق" (2019)، تتجلّى عمليات "التضبيط" لإبقائه في موضع البوح، والعرض الهادئ المنزوع منه فتيل الإشكاليّ المحتدم، القابل للانفجار سريعًا، كما في مُنجز العراقي البلجيكي سهيم عمر خليفة، "مولنبيك في الزاوية" (2018). لانغباله يذهب، هو أيضًا، إلى صالون حلاقة في منطقة بلجيكية، شيطنها الإعلام حال سماعه أنّ بعض من يقف وراء التفجيرات الإرهابية في باريس مُقيم فيها. مُنجزه، المحصور تصويره داخل صالون حلاقة في منطقة "مولنبيك" عميق، يُحوّل اشتغالُه ـ المتروي والحكيم لمادّة آنيّة ـ فيلمَه إلى أحد أهم الوثائقيات، التي تتناول علاقة التصادم بين المهاجرين وحاضنتهم الغربية، المتفاعلة في مساحة مكانية صغيرة.
التناصّ بين المُنجزين جليٌّ، والفرق بينهما كامنٌ في شكل الكتابة، لا في باطنها.
بين الفيلمين فوارق في مستويات الاشتغال السينمائي وأسلوبه. في "صالون الحلاقة ق" الكاميرا كسولة، وثابتة تقريبًا. يخاطبها الواقفون أمامها كأنّها جزء منهم، أو كأنّها أحد زبائن الصالون. المونتاج والتعليق الفَكِه والإضافات الفيلمية القليلة (أرشيف) تُعين المُصوّر أنديش نيدام قليلاً على تخفيف ثقل حركتها. على عكسها، هناك نشاط فائض لكاميرا أوليفيا تشامبي ـ روس، فهي بالكاد تعطي فرصة للسكينة لتأخذ مكانها. كاميرتها تدور معها وهي تلاحق أطفالًا وشبابًا.
الفوارق بينهما نتاج متون سردية مختلفة. الـ"صالون" لا يحتمل حركة سريعة، أو كاميرا محمولة. في "أولفِلاند"، الأطفال لا يسمحون لها بغلق عدستها. إنّها مثلهم حيويّة ونشيطة، تحيا كما يحيَون حياتهم في أسوار مدينتهم "نوره برو"، متجذّرين فيها، ولاهين وسط ساحتها "بلوغورد بلاس" عمّا يواجهه أهلهم من أسئلة ملتاعة عن وجودهم "الجديد"، وعن رفض الآخر له.
الكلام في النصّين موفورٌ. في "صالون الحلاقة ق"، يأتي الكلام غالبًا بصيغ شكوى، أو بوح خجول. به تُسرَد تواريخ شخصية ومصائر وصعوبات عيش في مكانين. الأول تُرك من غير رجعة، لكن آثاره باقية في دواخلهم؛ والثاني لا يزال موضع اختبار وتوجّس. الحلّاق قاسم خزّان حكايات، لا يبوح بحكايته كاملة لأحد، بل يُجزّئها. يشهد صالونه سجالات ونقاشات حول علاقات متأزّمة مع محيط لا يقبل الغرباء. يسمع قاسم الكثير منه، ويأخذه معه إلى بيته مساءً. المكان الجديد يُستَنطَق عبر مدلولات عجيبة، والشَعر الأسود منها. زبائن الصالون جلّهم سمر البشرة، يريدون قصّات شَعر "أفرو"، تمنحهم هوية يَردّون بها على شتيمة. تحدّي قصّات الشَعر باطني، لا يعرفه إلا أصحابه، والذين يخالطون الإسكندنافيين. العنصريّون الشقر يقلّلون من شأن آخرين لا يُشبهونهم بعبارة "ذو الشعر الأسود". الدلالة هنا تتجاوز بياض البشرة وزرقة العين. لون الشَعر وقصّاته في صالون قاسم يكسب بُعدين؛ عرقيًا وثقافيًا، كما يُكسِب صاحبه عداوات مجانية، وأحقادًا عنصرية.
من علامات حيوية المكان تحوّلاته. "فولسموسه" كانت "غيتو" يهوديًا، واليوم باتت "غيتو" مُهاجرين سود البشرة. يُخبر صوت المعلّق الظريف أنّ فيها 3568 "دش (صحن إرسال) و9 مقاه وصالون حلاقة واحدًا. مُكوث الكاميرا فيه أشهرًا عديدة مكّنها من رصد تفاصيل عالمين واسعين، لا يزال التواصل بينهما عسيرًا.
حرقة تتركها دعوة الكارهين وجودهم، المكثّفة بعبارة "عُد إلى وطنك". دعوة مُوجعة، يردّ عليها "أولفِلاند" (2019) في ثنايا سرده الخاص لعالم طفولة متحرّرة، غير عابئة بالتفاصيل. ترجمة الاسم تعني "موطن الذئب". إنّها أغنية الكشّافة الدنماركيين، وفيها دعوة إلى الوحدة والعمل المشترك، كما تفعل الذئاب عند صيد فرائسها. يردّدها طفلٌ مُهاجر أثناء جلوسه في ساحة المدينة، مرتديًا زيّ الكشّافة. الكاميرا تنتقل منه إلى أطفالٍ آخرين في مثل عمره، جُلّهم من العرب.
هؤلاء لا يعرفون شيئًا كثيرًا عن منابعهم الأصلية، كما تشي أحاديثهم. هم ينتمون إلى هنا، إلى كلّ شيء في هذا المكان، إلى أساطيره وطبيعته وثقافته، وإلى كلّ ما فيه من أنماط عيش واختلاط. يتحرّكون بعفويةٍ، من دون شعور بنقيصة أو ضعف انتماء.
رؤية أوليفيا تشامبي ـ روس للمكان شخصانية. متأثرة بتجربتها كمهاجرة بولندية، عاشت بين السويد والدنمارك. تعرف نشأتها، ومن هم مثلها. تلازم كاميرتها وهي تسجّل بإلحاح حركة الأطفال وبعض الشباب من أجانب ودنماركيين، كأنها بهذا تريد إعادة سرد فصول من حياتها هي، يوم كانت طفلة تعيش كما يعيش هؤلاء القادمون من بعيد مع "أصليين" في انسجام. "الأصليون" الصغار لا يعرفون الفوارق. يعاملون غيرهم كما يعاملون أنفسهم. لم يُصابوا بعد بلوثة "التفوّق". المهاجرون الصغار لم يعوا بعد ماذا ينتظرهم في المقبل من الأيام. شاعرية نصّ "أولفِلاند" طافحة ومتحرّرة من عقد الأسئلة العصبية والمؤرقة. الكلام فيه عفوي، والحركة سريعة تتنقّل من مكان إلى آخر. الكاميرا تَستَنطِقه، فيقول: "أنا أقبل بكلّ من يأتي إليّ. لا حقّ لي برفضه، فأنا مساحة مفتوحة للريح والشمس والكائنات".