"قمر المشتري" للهنغاري كورنيال موندروتسو: مظالم اللجاة السورية

02 فبراير 2018
من "قمر المشتري" لكورنيلا موندروتسو (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
قارب الفنلندي آكي كاوريسماكي الشتات السوري، في "الجانب الآخر من الأمل" (2017)، من باب التندّر على حظوظ قدرية، تحشد خاسرين تحت بقعة ضوء ملوّنة حضارية، يتحايلون فيها على فاشيات أوروبية متحوّلة، يسرق فيها موظّفوها مواطناً عاجزاً، عبر قوانين رأسمالية وحشيّة، مدعومة من مصارف طمّاعة من دون ضمير، فيما تستعبد أنظمتها لاجئاً غريباً، يتمسْكَن بمرارات بلده الأصلي، تبريراً لملاذ لن يخلو من مذلّة. في المقابل، يصطاد الهنغاري كورنيلا موندروتسو حكايته الغرائبية، في فيلمه الروائي الخامس "قمر المشتري" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ من علوّ سماويّ بهيّ، ضمن منظور ذاتيّ لمفهوم هجرة "سايبيرية"، تنتصر لأحوال معذّبي حدودٍ، عبر تمليكهم قوى تمكّنهم من التحليق في سماوات حرّة، حيث الأمان ربّاني ومجاني وطليق.
في فيلم كاوريسماكي، يصل السوري إلى هلسنكي مغطّى بسُخَام سفينة تحميل، لينخرط سريعاً في "كومونة" غرباء، آملاً في إنقاذ شقيقته والاجتماع بها ثانيةً بعد فراق. إذْ لا يُمكن للّاجئ أن يكون عديم المنبت أو بلا ذرّية، وتاريخه الحقيقي لا يُسطَّر في المنافي، بل هو ضارب في عمق منشأ وعائلة وذاكرة وصداقات. لكن مشكلته تكمن في كيفية نظر موظّف هجرة غربيّ إليه: مستوطن آخر، أو ضيف خفيف المقام، يؤوب إلى رحم أصوله، عندما يحين أوان عودته؟
يجمع كاوريسماكي بطله خالد (شيروان حاجي)، خاسر بلد بعيد يعبث به الجميع، مع مواطن يدعى ويكستروم، قليل الكلام وكثير الفعل، يضمن للغريب حلولاً عمليّة، كتأمين ملجأ سرّي محلّي، و"أُبوّة" أوروبية. أما السوري أريان (اسم ذو مرجعية شرقية جلية)، فتبدأ مغامرته في نصّ موندروتسو عند الحدود راجلاً، أي ثابتاً على أرض الرجاء، قبل أن يشهد مجزرة، يرتكبها أفراد شرطة يطاردون غرباء، لن يطول وقتهم كي "يدنّسوا" وطناً فلت للتو من توتاليتارية شيوعية سوداء، ويغرق اليوم في اندفاع إيماني مسيحي، يبرِّر لهم تصفية مَنْ تسول له نفسه اختراق عفّته عنوة.
هذه حادثة هنغارية حقيقية، استلفها صاحب "إله أبيض" (2014) كاتهام سينمائي ليمينية عصرية، لا تخشى غلوّها العرقي وعصابيتها. تشعل حروباً، ولا ترتضي بعواقبها على ترابها. المدهش، هنا، أن هذا السوري ليس عابراً عادياً، بل يبدو كيسوعٍ حداثي يتلبّس رداء لاجئ ينتظر ـ بصبر نادر ـ قيامته المتأخّرة. عندما يصاب أريان بطلق ناري، أطلقه ضابط حدود عليه، لا تصعد روحه وحدها إلى سماواتها، بل جسده كله. إنه نشور النطفة الشرقية/ العربية، التي تبقى ـ لساعتين هما مدّة الفيلم ـ تحوم في سماء بودابست، يطاردها رجل الأمن الدموي لازلو (يورغي تسرهالمي)، المُكلَّف من دوائر حكومية غامضة بمهمة إنزال القصاص ضد أبالسة جدد، لما يُعرف محلياً بـ "الشؤم العثماني"، الذي عاناه أهل المجر منذ موقعة موهاج (1526).
لا يمكن بتاتاً إنكار هذا التأويل المسيَّس. من دونه، يعجز فيلم كورنيلا موندروتسو عن فضح رهاب الخوف من الآخر، والعنصرية والبلطجة والخيانات والدموية. هذه كلّها مُصاغة بخطاب سينمائي، يستغل حيلة الطيران ليحكم بوجهات نظر متعدّدة الزوايا على ساكني هذه البلاد، وهوسهم بهزيمة قديمة، وإرث مجازرها، ووحشية مرتكبيها.



بطل موندروتسو، "كروبيم" (ملاك) أخرس، في إشارة بليغة إلى أن الكلمات تفقد دلالاتها عندما يعمّ العقاب. تتعاظم مأساته مع تعسّر إقامته الملتبسة بين برزخين متجافيين: أرض لا ترغب في موطئ قدمه على جغرافيتها (لأنه دناسة)، وسماوات لا تريد أن تستكفي منّتها الإلهية وتستقبله نهائياّ (لأنه بلا قداسة). أريان (شمبور يَغِير) طريدٌ مزمن ووحيد، إلا من رفقة الطبيب شتيرن (ميراب نينيدزا) وحصاناته واستغلاله، غير المستغرِب تحقّق معجزته ("التي يخافها الآخرون، لكنها خلاصهم"، بحسب الضابط الدموي)، بل يتساءل، عبر حركات جسده وتعابير وجهه، عن مغزى أن يكون مختلفاً عن بشر عانوا حروباً وغزوات، أرغمتهم على هجرات مثله، لكنهم لا يتوانون عن نبذه.
هذا السوري، الذي يرطن بإنكليزية مكسورة، ليس "سوبرماناً"، كما وصفته خطأ المجلة السينمائية البريطانية "سايت أند ساوند"، بل تجلٍّ جارح لعقدة لاجئين، كشفت عبر طوفانهم نفاقاً أوروبياً مشيناً، حين صفق أهله لراجلين ممن غذوا خطاهم نحو أمان مفترض، لينتهوا في معسكرات وأسوار ومهانات. لكن، هذه الأوروبا (الاسم الذي أطلقه غاليلو غاليلي على أحد أجرام الكوكب العملاق عند اكتشافه عام 1610، واستعاره موندروتسو عنواناً لفيلمه) عاندت وتمنّعت إلى اليوم عن إيقاف الحروب بين مجرمي "إدارة التوحش" وعصابات الحزب الواحد، والتي ما زالت تولّد لاجئين "ممرورين" بعثراتهم ولا خوارقهم.
يزخر "قمر المشتري" بمشهديات رشيقة، ومؤثرات عالية التقنية، تنتصر لدهشة سينمائية قائمة على توتّرات محمومة، وفوضى جماعية، وتخويف درامي، ومطاردات هوليوودية، يشترك فيها الجميع، بما فيها كاميرا المصوّر القدير مارسيل ريفا، التي التقطت العاصمة الفاتنة من علوٍّ فاقع كفردوس بلا روح، يعج بعساكر ومظالم اللّجَاة السورية.
المساهمون