شفيع بدر الدين، ابن بلدة شقا جنوب سورية، إحدى بقاع الأرض الأخصب، حيث لم تنقطع الحياة منذ الحضارات الزراعية الأولى. تستلهم تجربته إرثاً ثقافياً ممتداً آلافَ الأعوام. هو مؤلف، وعازف وقائد أوركسترا. درس العود والكلارينيت والنظريات الموسيقية في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، ثم تابع في كونسرفتوار مدينة ليون الفرنسية. يُقيم حالياً في لوكسمبورغ. في عام 2016، أسس "أوركسترا أورنينا للموسيقى العربية".
مساء الجمعة والسبت المُقبلين، تستقبل الصالة الفلهارمونية في برلين، بدر الدين و"أورنينا". تُشاركه كوكبة من المُغنّين السوريين، هم لُبانة قنطار، رشا رزق، شادي علي، وعلي أسعد. سيُقدّمون معاً أعمالاً لكبار المُلحّنين العرب، كمحمد عبد الوهاب وعمر البطش وروحي الخمّاش، وزّعها بدر الدين للأوركسترا. كما يشارك المؤلف وعازف الكمان السوري ميّاس اليماني من خلال توزيع لونغا وانيس الشهيرة على مقام شهناز. في أجواء الإعداد للحفل المُرتقب، أجرينا مع شفيع بدر الدين الحوار الآتي.
* تحلّون ضيوفاً على إحدى الصالات الموسيقية الأرقى في أوروبا والعالم، أدّى على مسرحَيها أعلامٌ كبار، كما شهدت عروضاً فنيّة خالدة. بصفتك مؤلفاً وقائد أوركسترا سوري، وصفة أورنينا فرقةً جلّ عازفيها ومُغنّيها سوريّون، ما الذي يُمكن أن تُضيفوه إلى فلهارمونية برلين؟ بالمقابل باعتقادك، ما الذي قد تُضيفه تلك الاستضافة إليك؟
- بالفعل، فلهارمونية برلين واحدة من أهم قاعات الموسيقى في العالم. لذلك، مشاعرنا إزاء الحدث مزيجٌ من التشوّق والغبطة، بالإضافة إلى الفخر، كون حضورنا فرصة إبراز لقضيّة السوريين من خلال تقديم موسيقى عربية وفقاً لوجهة نظر حديثة، نزعُم أنها تُسمع في تلك القاعة للمرة الأولى. الاستضافة بدورها، وبالأخص على المستوى الشخصي، لا بد أنها ستُضيف إلى سيرتي وخبرتي. يبقى هدفي وأورنينا هو الاستمرار على السوية ذاتها، رغم التحدّيات الإنتاجية والمالية الجمّة التي تواجه فرقةً تعدادها خمسون عازفة وعازفاً منتشرون في كل بقاع العالم.
تنبُع العزيمة على مواجهة التحديات من إيماني بالتشكيل الأوركسترالي شكلاً لتقديم الموسيقى العربية. انطلاقاً من ذلك، أتت أورنينا لتُحقق جمعاً للأوركسترالي، وإن بشكل مُصغّر، والتقليدي؛ أي التخت. هي أيضاً مؤسسة غير ربحية مُسجلة في لوكسمبورغ. تسعى بهذا نحو الاستدامة. لها استراتيجيات تتجاوز برامجها الراهنة، حيث نعمل على أن تصبح أورنينا نواة مشروع مسرحٍ غنائي، يُعيد وصل ما انقطع في العالم العربي بعد رحيل عاصي الرحباني.
* لك باع في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة. من يطّلع على أعمال سابقة لك، كرباعي الوتري، أو مقطوعة شمس لأوركسترا وترية وإيقاعيّات، يلمس ميلاً إلى التركيب والمعالجة المقامية المعقّدة. اليوم تبدو أورنينا أكثر اختصاصاً بتقديم التراث. هل هذا بمثابة خيارٍ فني، أم أن هذا ما تطلب الأذن الغربية سماعه قبل العربية؟
- صحيح، لطالما تميّزت أعمالي بالتعقيد والبنية المجهرية متناهية الصغر. بيد أنّي لا أرى من إلزام بتبنّي منهجٍ تشكيلي محدد. أنا في الأساس عازف عود، والموسيقى الشرقية من صلب تخصصي. وعليه، فإن مزجي بين المشارب والمدارس نابع من تكويني. في المقابل، لا أزال مؤمناً بأن غنى وتنوع الموسيقى العربية من جهة، ومن جهة أخرى عذريتها إزاء المُعالجة، يجعل انفتاحها على تقنيّات التأليف المُعاصر اكتساباً لآفاق واسعة.
سبق أن قُدِّمت لي مؤلفات معاصرة استأثرت باهتمام الجمهور الغربي. لذا، لا يُعد السير نحو التراث ركوباً لأي موجة جماهيرية، وإنما خيار يتناسب مع الإطار. دعني في هذا السياق، أؤكد على رأي ما زلت ملتزماً به، مفاده أن توزيع الموسيقى العربية لا ينبغي أن يُنظر إليه كتطوير لها؛ ليست الموسيقى العربية بحاجة إلى تطوير. إنما كل جيل يأتي، يأتي معه بجديده، يدلو بدلوه، يترك بصمته، يُضيف على سلفه ويزيد.
* من سمع "أورنينا" وشاهد، سيلاحظ بين أفرادها عازفات وعازفين من جنسيّات مُتعددة. بما أن الفرقة تقدم الموسيقى الشرقية، هل خلق هذا الجمع العابر للثقافات بين الكوادر صعوبات، سواء بالنسبة إلى العازفين لجهة تنفيذ أنماط الزخرفات اللحنية والبُعيدات الصوتية، أو بالنسبة إليك كمُدير فنّي للفرقة؟
- التشاركية مبدأ أساسي لأورنينا. مثلما توجّه طلبة الفن في الماضي نحو الأندلس، قوّة الحضارة في الزمن الراهن أدّت بمن يود الدراسة والتعمق في الموسيقى أن يجعل من الغرب وجهةً له. أما في الاتجاه المعاكس، ما عدا بعض المُستشرقين إبان الكولونيالية، أو أولئك المفتونين بالسحري والعجائبي، ظلّت الحركة ضعيفة. في هذا الإطار، توفّر أورنينا للمشاركين الأجانب تجربة مثيرة لها جانب فكري معنوي وآخر فنّي تقني، لن ينتج عن أيٍّ منهما أي صعوبة ما دام الجميع موسيقيّين على سويّة احترافية عالية، ولديهم إلمام بالموسيقى ومعارفها النظرية والعملية.
* تتصدر تشكيلة "أورنينا" آلات التخت الشرقي من عود وقانون وناي وبزق، تتحلّق حولها الوتريات من كمان وتشيللو وكونترباص. بالإضافة إلى ذلك، يُلاحظ وجود قسمٍ لآلات النفخ الخشبية والنُحاسية، التي هي في العادة من مظاهر فرق الأوركسترا السيمفونية. كيف يتم هذا الجمع؟ وما هي التحديات التي تواجه المؤلف والموزّع، لجهة الموازنة بين الكتل الصوتية واللونية المُختلفة؟
- لا يمكن القول إن ثمة تحدّيات. على سبيل المثال، بما أن دوري في "أورنينا" حتى الآن، إلى جانب القيادة، هو التوزيع وليس التأليف، أتفادى كتابة البُعيدات (الربع صوت أو الميكرو إنترفال) لآلة نفخية كبوق الهورن. يبقى المحكّ، كيف توظّف تلك الآلات بحرفية ومعايير دقيقة ومدروسة تُحافظ على شخصية المادة اللحنية الشرقية؟ من ناحية أخرى، أنا مُنفتح على التكنولوجيا لجهة هندسة التكبير الصوتي، كإحدى المُكمّلات التقنية التي تُحسب وتُعتبر خلال سيرورة التوزيع الموسيقي. هنا، تجدر الإشارة إلى أن التخت الشرقي في مقاربتي التوزيعية يُوظّف ككتلة واحدة وليس كآلات يُوزّع لكلٍّ منها على حدة، هذا برأيي ما يمدّ الصوت بالكثافة ويعزز اللون والطعم الخاص.
* انطلاقاً من عنوان الحفل المرتقب وعناوين عروضٍ سابقة، يلمس المُتابع لـ"أورنينا" تركيزاً على الغناء، خصوصاً الكلاسيكي، كالدور والموشح، تتخلّله المقطوعات الآلية التراثية المعروفة ذات القوالب الشرقية التقليدية، كالسماعي واللونغا، وإن أتت مُعدّة وموزّعة ومقدّمة بشكل عصري. هل في نظرك أن الموسيقى العربية في نهاية المطاف لا تزال بالأساس غنائية؟
- بالفعل، واقعُ الموسيقى العربية أنها غنائية. كون مهمة "أورنينا" تقديم الموسيقى الكلاسيكية العربية جعل من الأعمال الغنائية محاور برامجها الرئيسية. بيد أن الغنائية ليست قدراً محتمّاً؛ لي شخصياً ولزملائي من المؤلفين السوريين والعرب الكثير من المقطوعات الآلية، إلا أن الكلمة المُغنّاة بالنسبة لشعوب المنطقة تبقى صاحبة الأثر الأمضى. والدليل يكمن في كيف استخدم عمالقة التلحين العربي الأغنية لخلق حيّزٍ ومساحة ما يستعرضون من خلالها تجاربهم الآلية، عن طريق تأليف مُقدّمات وفواصل تؤديها الفرقة قبل وخلال حضور المُطربة أو المُطرب.
* في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2016، خلال خُطبة تقديم حفل إطلاق أورنينا على مسرح المدينة الكبير في لوكسمبورغ، ذُكر أن البرنامج باقة من الألوان الموسيقية السورية الشعبية والكلاسيكية. في إطار التشابه مع أعمال الحفل المُرتقب في برلين، ما الذي يُميّز الموسيقى السورية يا ترى عن الموسيقى العربية، عدا كون المُلحنين أعلاماً سوريّين؟
- التميُز يكون على مستوى النصوص من حيث اللهجة، كما وفي المعالجات الموسيقية. بيد أنه مما لا شك فيه أن التقاطعات مع الموسيقى العربية أكثر من التناقضات. من طبيعة الفنون أن فضاء انتشارها يتجاوز الحدود وحتى التضاريس. نرى كيف تمتد موسيقى على وسع الأفق قبل أن تلتقي بأخرى ويحدث الامتزاج بين الاثنتين. يصدق هذا على حال أوروبا أيضاً. من قال إن الموسيقى الألمانية تختلف كُلّياً عن جارتها الفرنسية أو الهنغارية؟ اللهم إلا اختلاف بعض المُكوّنات الفلكلورية. بيد أنه، وكما هو معروف، القاهرة وحلب شكلتا قطبيّ المجال الكلاسيكي للموسيقى العربية، وبه تبقى الموسيقى السورية أشد تأثراً واقتراناً.
* منذ أن انطلقت الثورة السورية عام 2011، ثم استعرّ جحيم حرب أهلية، ليتشظّى المجتمع السوري وينشطر، بين من انحاز إلى الثورة ومن اصطفّ مع النظام أو من التزم الصمت، من إدارتك لعمل فنّي جماعي، كيف يضع السوريّون خلافاتهم جانباً ويشاركون في العزف؟ هل يمكن لـ"أورنينا" وغيرها من المؤسسات الفنية في الشتات أن تكون بمثابة بذور إصلاح النسيج المجتمعي السوري؟
- فلأُجبك حيث انتهى سؤالك. بالطبع، من دون شك إن المؤسسات والمشاريع الفنية والأدبية هي بمثابة بلسم يداوي جراح المُجتمع وجسور ترأب الصدوع بين أفراده. هذا ما دلّ عليه التاريخ. أما في ما يخصّني و"أورنينا"، لي شخصياً موقف واضحٌ مُعلن. بالرغم من كوني لست ممّن يُقحم الفن بالسياسة، إلا أنني أعتقد أنه، وفي لحظات تاريخية معينة، لا بد من الانحياز. يتجلّى توجُّهنا بوضوح من خلال الأعمال التي قدمناها ونُقدمها، كالمتتالية الشعبية السورية أو متتالية الربيع.
على صعيد العلاقة مع، وبين، العازفين والمُغنين، بصفتي مُديراً فنيّاً للفرقة، سبق أن اعتذر البعض عن المشاركة لتعارض الموقف ربما معي شخصياً أو عدم الارتياح لتوجه "أورنينا" العام. بالنسبة للأعضاء المُشاركين، قد أجزمُ بوجود بعض الاختلافات في الآراء. إلا أنه في الأخير، هناك على الأقل قيمة عُليا مُتفق عليها بين الكل. إن الفنون عبر التاريخ، وإن جندها طغاة كُثر للسيطرة على البشر، لا بد لها من الحرية لتنمو وتزدهر. لذا هي بطبيعتها تُعادي الاستبداد أيّاً كان شكله، سياسيا أو دينيّاً أو عقائدياً.