محمد بن عطيّة (1/ 2): طرح أسئلة غير اعتيادية

16 أكتوبر 2019
محمد بن عطية: الثورة صنعت اختياراتي كلّها (العربي الجديد)
+ الخط -
يصعب إنجاز لائحة عشرة مخرجين طبعوا السينما العربية في العشرية الأخيرة، من دون إدراج اسم التونسي محمد بن عطية فيها. فبفيلمين روائيين طويلين فقط، "نحبّك هادي" (2016) و"ولدي" (2018)، التقط ملامح بالغة الأهمية في شخصية الرجل الشرقي، الرازح تحت سطوة الثقافة الشرقية، التي تقمع كلّ نزعة فردانية لصالح محدلة الامتثال للأعراف والتقاليد. وهذه تسطّح حياة الفرد العربي، وتجرّدها من كلّ ما يجعلها جديرة بأن تُعاش: الحقّ في الحبّ، رغم الإختلاف.

في "نحبّك هادي"، يستثمر بن عطية 12 عامًا اشتغل فيها ممثلاً تجاريًا مسؤولاً عن تطوير مساحة الزبائن في شركة "بوجو (Peugeot)"، لكتابة سيناريو يأسر بحيويته الفعّالة، وقدرته على النفاذ إلى أحاسيس الشخصيات، رغم بساطته الظاهرة، مُقتفيًا يوميات شاب مقبل على زواج مُدبَّر من عائلته، يحاول الخروج من سطوة أمّ مستبدّة، فيحبّ فتاة فاتنة وجامحة، تقلب حياته رأسًا على عقب.

أما في "ولدي"، فينبري لزاوية غير مطروقة في إشكالية انضمام الشباب إلى المعسكرات الإرهابيّة لـ"داعش"، مُركِّزًا على الأثر الذي يُخلِّفه اختفاء الإبن على حياة زوج ستّيني، أمضى حياته كلّها في الامتثال لكلّ شيء، ما عدا لرغباته الخاصّة، كشخصية كانجي واتانابي، التي أدّاها تاكاشي شيمورا في "أن تحيا" (1952) لأكيرا كوروساوا. كلّ هذا من دون السقوط في الكليشيه والإكزوتيكية، التي تنطوي عليها تيمات كهذه عادة.



بمناسبة مشاركته في لجنة تحكيم سيناريوهات الشباب، في الدورة الثانية (27 ـ 29 سبتمبر/ أيلول 2019) لعيد السينما في مراكش، التقت "العربي الجديد" النخرج محمد بن عطية، وكان هذا الحوار:

في فيلميك الاثنين، "نحبّك هادي" و"ولدي"، لاحظتُ أنّ هناك شيئاً ساحقاً يحدث للشخصية الرئيسية، ويدفعها إلى التساؤل عن وجودها برمّته. هل هذا شيء واعٍ؟ هل تعتقد أنّ الفرد في منطقتنا ينبغي له إعادة النظر في أسلوب حياته؟
في الواقع، المسألة ليست واعية. بمعنى أنّ الفكرة تأتي عفوياً. لطالما طرحت على نفسي السؤال: كيف تأتي فكرة فيلم؟ تأتي عفوياً، ثم أدوِّن ملاحظات كثيرة مرتبطة بها لفترة طويلة. وعند عثوري على بداية وموضوع ونهاية، أشرع في الكتابة.

الرابط الذي يمكن صنعه بين الفيلمين، يأتي لاحقاً. لكن، أثناء الكتابة، لا أفكّر في ذلك. أدرك لاحقاً أن هناك نقاطاً مشتركة كثيرة بينهما، أبرزها أنّهما يتناولان الامتثال للأعراف، ويتحدّثان عن عالمٍ مغلق يلفّ الشخصيات، وعن أوضاع حياة تبدو للوهلة الأولى عادية. لكن في هذه البساطة الظاهرة، هناك شيء ما، كما قلتَ، يقلب حياة الشخصيات كلّياً. لكن، أثناء الكتابة، ليس لديّ منظور كافٍ لرؤية هذا.

الشيء الثاني المشترك بين الفيلمين، الذي يعجبني كثيراً، أنّك تأخذ زاوية شبه ميّتة للموضوع. مثلاً: في "نحبّك هادي"، تبنّيت وجهة نظر العريس المستقبلي، الذي يشعر بأنه مغصوب على أمره، بينما تعوّدنا عادةً رؤيةَ هذا الطرح من جانب المرأة، ومع إكزوتيكية كثيرة للأسف. كيف اتّخذت هذا الاختيار الجريء؟
أولاً، أنا في وضع جيد للتعرّف إلى وجهة نظر الرجل. ثمّ هناك مهنة هادي التي تشبه مهنة زاولتها أعواماً، بالإضافة إلى المحيط الذي يعيش فيه. عائلتي لا تشبه عائلته إطلاقاً، لكني أعيش أيضاً في بيئةٍ، نسأل فيها أنفسنا أسئلة كثيرة، ولا نحصل دائماً على إجابات عليها.

صحيح أنّنا اعتدنا الحديث عن المرأة كضحيّة في كلّ وقت. أنا لست بصدد تبسيط معاناة النساء في منطقتنا، فأنا مدركٌ أنّ المرأة العربية، رغم أنّها حازت مكتسبات مهمّة في الأعوام الأخيرة، لا تزال تعيش وضعاً صعباً. لكن، من ناحية أخرى، أعتقد أن الرجل العربي، وإنْ يكن لديه وضع مريح أكثر من المرأة، وإنْ كان يترعرع منذ الطفولة في امتياز "سي سيد الصغير"، الذي يواصل الدراسة ويتمتّع بحرية الاختيار، هذا الرجل يُدلَّل إلى درجة أنّه يجد نفسه في خمول وكسل تامّين، فينساه الجميع، ولا يتوقّع أحدٌ منه شيئاً. الوضع الصعب للرجل العربي ينتزع تعاطفي واهتمامي. مثلاً، هناك الشباب الذين يملأون المقاهي، فهم إما عاطلون من العمل أو متكاسلون.

السؤال نفسه بالنسبة إلى "ولدي"، وفيه تطرّقت إلى موضوع جاد، وهو الإرهاب، وكيفية استقطابه الشباب، لكن من وجهة نظر الأب. ألم يكن هذا رهاناً محفوفاً بالمخاطر، أنْ تتّخذ مقاربة إنسانية صرفة حول موضوع كهذا؟
كان رهاناً محفوفاً بالمخاطر لأسبابٍ عديدة. في ما يتعلق بالموضوع المثير للرّهبة، لمست هذا في أفلام كثيرة تناوَلَتْه. باكراً جداً، عندما بدأت الكتابة، عرفت أنّي لن أتحدّث عن التطرّف الديني، وأنّي لن أصنع فيلم طريق، نتابع فيه أباً يبحث عن ابنه، بل فيلماً يتعلّق بمعنى الحياة، والبحث عن إيديولوجيا، وعالم يقترب من نهايته. اعتدنا عيش الحياة بالرؤية نفسها للأشياء: الدراسة، وكيف تكون زوجاً صالحاً، وأباً، وعاملاً نموذجياً، ثم متقاعداً. منذ بداية الفيلم، نشرع في تبنّي وجهة نظر الأب حول هذا الوضع، والأسئلة التي تدور في خلده حوله، والتي لم يكن لديه الوقت للتفكير فيها. الاختيار الراديكالي لولده يطرح عليه سؤال الفشل الخاص به، فيقتنع في النهاية بأنّه ليس نموذجاً.

فهل لا يزال الأب، الذي اتّبع مساراً عادياً جداً ومُغرقاً في الامتثال للأعراف، نموذجاً لشباب اليوم؟ في العمق، هذا هو موضوع الفيلم، وليس الإرهاب أو التطرّف الديني.

يتميّز إخراج الفيلم بالرصانة والتنقيح، ما يدفع إلى الاعتقاد أنّ الرّهان الكبير عندك هو حول الكتابة، أكثر من التصوير أو المونتاج أو إلخ. هل تقاسمني هذا الاعتقاد؟
بالتأكيد. بقيتُ مخلصاً جداً للكتابة. حتى مع اختزال الزمن وحوارات كثيرة وطغيان اللقطة - المشهد الطويل، بقيتُ قريباً جداً من السيناريو. لكن، في فترة التقطيع، أوليتُ أهمية كبيرة للتقطيع التقني على الدرجة نفسها من أهمية البروفات. ومع مدير التصوير (فريدريك نوارأوم)، رأينا أنّ من الضروري الحفاظ على مسافة من الشخصيات كلّها، واتّخاذ مقاربة عادلة لا تدعم أي عنصر تأثير درامي، وألاّ نذهب إلى سهولة القول إنّنا ندين الإرهاب. سخيف بعض الشيء قول هذا اليوم. فالإدانة جرى تجاوزها.

إنّه يشبه اقتحام باب مشرّع على مصراعيه.
بالضّبط. إنّه غير مجدٍ البتّة. ما بدا لي مهماً ومثيراً للاهتمام في آنٍ واحد، طرح الأسئلة والنّبش في مكان لا نريد الذهاب إليه بالضرورة. التّنقيح الذي تحدّثت عنه في الإخراج، يُمكّن من الحصول على هذه المسافة، وعدم الذهاب إلى الاستسهال والاختصارات والسقوط في بعض الكليشيهات، التي يمكن أن تضرّ موضوع الفيلم.

هذا يذكّرني بتفصيل حول إخراجك في مشهد ذهاب الأب إلى المدرسة الثانوية، بحثاً عن زميل ابنه، ليسأله أين قضى هذا الأخير ليلته. فيه، تختار تأطير الوالد من الظهر، ومتابعته بلقطة - مشهد طويل. إحدى خصائص هذا الإطار أنّه يضعنا في رأس الشخصية من دون التماهي معها تماماً.
معك حق. هذه هي المسافة التي تحدّثت عنها في الحقيقة. عدم الاندماج في التعاطف القسري والمفتعل بين الشخصية والمتفرّج، كي لا أجعل هذا الأخير يبتلع كلّ شيء وأيّ شيء، وفي الوقت نفسه، أكون قريباً بما يكفي لأشعر ببعض الأسى الذي تشعر به الشخصية.

في العلاقة بالكتابة أيضاً، هل تأخذ وقتاً كثيراً، أو تكتب النسخة الأولى بسرعة، ثمّ تعيد النظر في كلّ شيء؟
لا أستطيع تحديد هذا، حقاً. ما يحدث هو الآتي: عند خروج "ولدي" إلى الوجود، وكنتُ أُجري مقابلات، سألني الناس عن الفكرة والإلهام، ومن أين يجيئان. في الوقت نفسه، كنتُ بصدد كتابة فيلمي التالي. هكذا طرحتُ على نفسي هذا السؤال، من خلال ما كنتُ أفعله عندها، حول كيف جاءت الفكرة، وهل هي مفروضة أم لا؟ خلصتُ إلى أنّ الأمر معقّد للغاية، إلى درجة أنّي لا أستطيع معرفة كنهه، لأكون صادقاً معك حقاً. بعد ذلك، في النقاشات والمقابلات التلفزيونية، حاولتُ تقديم إجابات قد تكون ذات صدقية إلى حدّ ما، لكنّها ليست حقيقية، لأنّك لا تعرف أبداً كيف تأتي الفكرة.

هذا يدفعني إلى التساؤل: إلى أي حدّ يمكن القول إنّ الكتابة عملية تَفَكّر، ما دامت الأفكار تأتي بشكل عفوي، ولا أتوقّف عن البحث لأسابيع، لأحصل على الإلهام انطلاقاً منها؟ في نهاية المطاف، أعثر، وقد أكون محظوظاً، على أشياء مثيرة للاهتمام.

طبعاً، تواجهني عقبات انقطاع إلهام تستمرّ أيامًا، تدفعني إلى الحفر أعمق، والحصول على تفاصيل أغنى. لكنّ الخلاصة هي أنّ الفكرة والكتابة تأتيان بشكل طبيعي بالضرورة.

هذا يُذكّرني بمقارنة عَقَدها جيم جارموش بين صنع فيلم وعملية إنجاب طفل، رابطاً مرحلة العثور على الفكرة بحالة الوقوع في الحبّ، لا يمكن بأية حالة تفسيرها بكلمات.
بالتأكيد. أتقاسم وجهة نظره للأشياء، وهذا يُطمئنني (يضحك).
المساهمون