"تونس الليل" لإلياس بكار: أزمة فيلم

14 مارس 2018
رؤوف بن عمر في "تونس الليل" لإلياس بكار (فيسبوك)
+ الخط -
فيلم سينمائي، بكثافة تليق بفيلم تلفزيوني. في نصفه الأول، كلامٌ كثيرٌ، وصُوَر قليلة. كأي فيلم تونسي جديد، يزعم "تونس الليل" (2017)، للمخرج إلياس بكّار، أن "يناير 2011" بداية التاريخ. يبدو أنه يجب تنقية الأفلام العربية من الربيع العربي.
في ذلك الشهر التونسي بامتياز، يخطب الصحافي القديم يوسف بنيس (رؤوف بن عمر)، على أمواج الإذاعة، منتصف الليل: "يا فتى فاحت روحه في النار، فتى نَوّر الطريق، وحوّل الحكام إلى رماد. البوعزيزي شمعة وفجر". يتحدّث عن "النار (التي) أكلت أخي، وهو امتداد للحلاج". يرتجل نصًّا طويلاً عن تونس التي تشبه بطن الحوت. يتلقّى أمرًا بتعداد إنجازات النظام الذي يترنّح، وبتقديم أغانٍ وطنية لإثارة حماسة المواطنين. يرفض، ويستمر ينظِّر للثورة والبروليتاريا، وللفن النبيل والجمال السرمدي.
يرفض الصحافي الثوري، لفظيًّا، الخضوع. هو سيتقاعد قريبًا في الأحوال كلّها. في تقاعده، يكتشف بيته. يكتشف مآل أوضاع أسرته، على مراحل، من دون أن يدرك عمق الأزمة، في البداية. هذا الجانب السوسيولوجي العميق يمنح الفيلم، في نصفه الثاني، تأثيرًا كبيرًا على المُشاهد.
يحدِّق الفيلم في الوضع، من دون أوهام. ليس النظام السياسي، وحده، "منخور"، بل الأسرة أيضًا. رحيل الرئيس أو بقاؤه لن يغيرا في الأمر شيئًا. فقدت الأسرة التماسك المثالي، الذي يُفترض بها أن تعيشه. 4 أفراد، كلّ واحدٍ منهم في "قارة". كلّ واحد ينتظر الكثير من الآخرين. لذا، يُصاب بخيبات كثيرة. تُنهكه محاولات تقويمهم، ليتطابقوا وتوقّعاته.
لقطات لوجوهٍ مصدومة. طوال الفيلم، كلّ فرد منغلق على أنانيته. لا تريد الابنة الشابّة المغنيّة عزيزة (أميرة شلبي) ملاقاة شقيقها السلفي أمين (حلمي دريدي). تزعم أنها تخرج لزواج متعة، طبقًا للشريعة. تخاطب شقيقها السلفي بمنطقه، فيندهش وينتبه. الشعب يريد الثورة، والشاب يريد فرض سيطرته على شقيقته. ربّاهما سكِّير ثوريّ، ابن فقيه.



الأسرة وحدة اجتماعية، تتشكَّل من أفرادٍ تجمعهم علاقة قربى، وانتماءً واهتمامًا متبادلاً وتماسكًا. لكن، لم يظهر أفراد الأسرة معًا، ولو مرة واحدة، في وجبة طعام مشتركة. يعيشون في بيتٍ باردٍ لا يوفّر فرصة لقاء. لكلّ واحد منهم غرفة، يُغلق بابها عليه. هذا يُنشئ فاصلاً بينهم، إلى حدّ أنّ الأم آمال (آمال هديلي) تستأذن زوجها لتدخل عليه. هذه "فردانية شديدة". المصطلح مشتق من الفرد. والفرد كائن إنساني يحتلّ حيزًا مغلقًا على ذاته ("مفاتيح اصطلاحية جديدة"، طوني بينيت وآخرون، ترجمة سعيد الغانمي، "المنظمة العربية للترجمة"، بيروت، 2010، ص. 529).
لكلّ فرد حياته الخاصة. يقرّر إيقاعه. يرفض الوصاية، بل يرفض النصائح. هذا ما حوّل الأسرة إلى شبح. صار الفرد أهمّ من الجماعة. تقلّص دور العائلة، عندما حلّت "العائلة العاطفية" محلّ "العائلة الأبوية"، وحلّ الحب محلّ علاقة القرابة ("مفاتيح اصطلاحية جديدة"، ص. 460).
أسرة في أزمة. بلد في أزمة. لكن الأسرة أولاً. تَزَلْزل النظام ذريعة ليفحص كلّ واحد نظامه الشخصي.
في النصف الثاني من الفيلم، محاولة لإحياء ما مات في الأسرة. يقع العبء الأشد على الأم، ربّة البيت، التي تلتقي بكلّ فرد على حدة. تصلّي وتقرأ القرآن، وتُكثِر الدعاء، ليتبدّد تشتّت عائلتها. تحاول جبر ما انكسر، بإيمان أن الله لن يخذلها.
في لقطاتٍ عديدة، تمثيل مبالغ فيه. هناك صراخ كثير. تظهر الممثلة أمام الكاميرا وهي تتنهَّد، أو تحرّك رأسها مستغربة. في بعض اللحظات، تنظر إلى الكاميرا. مع ذلك، يقلّ الملل في النصف الثاني.
تجري أحداث الفيلم في زمن قصير، يضمن لها إيقاعًا كثيفًا في فضاءات مغلقة. يتطابق الزمن التاريخي للفيلم مع الربيع العربي. لكن الزمن الخاص للشخصيات مقلوبٌ. ينام الأب والابنة نهارًا، ويعملان ليلاً. لا يلتقيان أبدًا. الأب غارق في الخطابة عن الأمل والحلم، والابنة الشابّة تغنّي بالإنكليزية في حانة.
تعطّلت قطاعات كثيرة بسبب قلاقل الثورة، لكن الـ"كباريهات" والحانات التونسية لم تتعطّل، بل زاد وهجها. الكأس عامل استقرار للسكارى المسيَّسين، وهم أكثر ديمقراطية ليلاً.
في "تونس الليل"، لكلّ واحد ليله. هناك شخصيات متناقضة، من "حزب الإيمان والتديّن" إلى "حزب الكأس".
دلالات
المساهمون