رغم كثرتها واختلافها وتنوّعها، تتشابه الحروب في سمات عدّة. مع ذلك، فالاقتراب السينمائي من تناولها، أفلاماً روائية طويلة أو وثائقيّة، يأتي دائماً بجديد، وإنْ تشابهت المُعالجات وتكرّرت الأنماط. المُثير في الأمر أنّه يصعب تحديد الأفضل أو الأصدق أو الأكثر واقعية في تناول الأحداث ومعالجتها ومُقاربتها.
"الأرض زرقاء كبرتقالة"، للأوكرانية إيرينا تسيليك (1982)، أحد أبرز الأفلام الوثائقيّة الطويلة المُنجزة مؤخّراً عن الحرب وآثارها، فنياً وفكرةً بسيطة وطرحاً إنسانياً، بتناوله تبعات الحرب في شرق أوكرانيا، في إحدى مناطق "دونباس"، المعروفة جداً بعد إنجاز الأوكراني سيرغي لوزنيتسا روائياً متميّزاً عنها بعنوان "دونباس" (2018)، الفائز بجوائز عدّة، أهمها جائزة الإخراج في "نظرة ما"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي.
"دونباس" مُتاخمة للحدود الروسية. فيها، وفي مدن وقرى أخرى صغيرة تُجاورها، اشتعلت الحرب قبل أعوامٍ قليلة بين القوات الحكومية الأوكرانية والمليشيات الأوكرانية المدعومة من روسيا، التي حملت السلاح، ومارست أساليب إجرامية مختلفة، لتنفصل بالأراضي التي استولت عليها عن الدولة الأوكرانية، وتُقيم دولة مُستقلّة، غير عابئة بتمزيق البلد، وتشتيت أهله. صحيحٌ أنّ الحرب انتهت منذ فترة وجيزة، لكن الهدوء القابل للانفجار في أيّ لحظة سيّد الموقف.
في فيلمها الوثائقي الطويل الأوّل هذا ـ المعروض دولياً للمرة الأولى في الدورة الـ36 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي"، في قسم "سينما العالم الوثائقية" (جائزة أفضل إخراج) ـ تجنّبت إيرينا تسيليك الخوض في تفاصيل متعلّقة بالحرب والفصائل المتنازعة، وتناول طبيعة الصراع ودوافعه. وحتّى لحظته الأخيرة، لا يتّضح تحديداً من هو مخرج الفيلم، وأيّ فيلم تمّ إخراجه؟ أهو ذاك المُشَاهَد، أمْ آخر يُفترض به تناول الحرب؟
"الأرض زرقاء كبرتقالة" يتناول صناعة فيلمٍ سينمائي وثائقي، إذْ تحاول أسرة أوكرانية إخراج فيلمٍ خاص عن حياتها اليومية المأسوية أثناء قصف "المنطقة الحمراء"، أخطر المناطق وأكثرها التهاباً في "دونباس". أبطال الفيلم آنّا، أمٌّ عزباء، وأولادها الأربعة، المتكاتفون جميعهم معاً لصنع فيلمٍ ذاتي. أكثرهم انخراطاً، الأم وابنتاها البالغتان، المهتمّات بالسينما والتصوير والصوت. لديهنّ أدوات تصوير قديمة يُصوّرن بها، ويشتغلن المونتاج أيضاً. تنتقل ميرا، الابنة الكبرى، إلى العاصمة للمشاركة في اختبار الحصول على منحة في مدرسة السينما. تعضدها الأمّ أثناء امتحان القبول، وتفرح كثيراً بها عند نيلها منحة التصوير، السابقة لبدء الدراسة.
الأخت الصغرى، أنستازيا، تريد دراسة الصوت. متحمّسة جداً لتحقيق حلمها. أمّا آنّا، فدرست المونتاج عبر "إنترنت"، وباشرت العمل على ما تمّ تصويره. رغم الصعوبات، استمرّ الهوس بالتصوير، والرغبة غير خافية في صناعة الفيلم. لكلّ فرد من أفراد الأسرة دوره. أحياناً، يحتدّ الجدل بشأن أفضل طريقة تصوير، أو كيفية أخذ لقطة، أو إبراز خطّ للأحداث، أو إجراء تدريبات وإعادة التصوير أكثر من مرة.
ينتمي الفيلم بامتياز إلى نوعٍ يُعرف بـ"سينما داخل السينما"، أو "فيلم يُصنع عن كيفية صنع فيلم". الجديد هنا أنّ فيلم تسيليك وثائقيّ يتناول تصوير فيلم وثائقي آخر. فيه، تُلْمَس خطورة الأمور، واستحالة العيش في وضعٍ كهذا. لا تناول مباشرا للحرب، لكن بين حين وآخر تُسمع أصوات القذائف، وبالكاد تظهر آثار القصف في جدران مبانٍ، أو في شوارع خالية من الناس، أو في نقص الإمدادات، أو في متابعة حياة شبه ميتة. طبعاً، هناك أحاديث عنها، وعمّا حدث ولا يزال يحدث. لكن، بالنسبة إلى آنّا وأسرتها، فالأولويّة مُكرّسة بالكامل لمشروع الفيلم.
لصناعة فيلمٍ وثائقي عنها، استعانت إيرينا تسيليك بمفردات الحياة اليومية البسيطة لتلك الأسرة التي تعيش هلعاً، ورصدت مواقف نابضة بالحياة، تشعّ بصدق الواقع، ما ساهم في نقل أصالة الحالة الفريدة المُراد نقلها. بفضل تلك المفردات، يظهر كيف أنّ المخرجة تنسج فيلمها على مهل، بمَشَاهد منتقاة من مواقف عاشتها الأسرة في الحرب، رغم أنّ لا شيء استثنائياً أو فريداً في حياتها في المنزل. لذلك، تبدو مَشاهد كثيرة مألوفة: ضحك وفرح وبكاء ومُشاحنات ودفء وودّ وحبّ وخوف ورعب، ولجوء إلى مخبأ سرّي مظلم وبارد تحت المطبخ. ثم غناء واحتفال وتناول الطعام، إلخ. هذا رصد بسيط، يضع مفرداته جنباً إلى جنب، ويُشكّل الصورة النهائية، ويخلق روحاً ترغب المخرجة في تقديمه: الحياة مستمرّة رغم كل شيء. أو كما تقول آنّا: "إلى أين نذهب؟ وإن ذهبنا، من سيُعَمِّرُ المدينة؟".
"الأرض زرقاء كبرتقالة" تجربة جديدة، لا ترتبط بالحرب مباشرة، بقدر ارتباطها الوثيق بالفنّ وإبداعه كفعل مقاومة. فيلم قائم على الكاميرا السينمائية والتصوير والمونتاج والصوت والإضاءة. الكاميرا أداة تعبير لا تُقدّر بثمن، لا وسيلة ترفيه أو هروب من قسوة الحياة، وما يحيط بها من دمار ودماء وقتل. ترياق حقيقي ضد السموم.
فيه، تتحاشى إيرينا تسيليك، بذكاء بالغ، الكليشيهات كلّها المحفوظة عن دموية الحروب ومآسيها، وما تخلّفه من قتلى وجرحى وتدمير. فهي منشغلة بنوع آخر من المقاومة: حبّ الحياة والإبداع. لذا، تصل رسالتها الإنسانية بصدق وعمق. ورغم صعوبة تصوير هذا النوع من الأفلام، نظراً إلى عوامل كثيرة غير مُساعدة، إلاّ أنّ العوامل نفسها خلقت أجواء غريبة وساحرة وجاذبة.
"دونباس" مُتاخمة للحدود الروسية. فيها، وفي مدن وقرى أخرى صغيرة تُجاورها، اشتعلت الحرب قبل أعوامٍ قليلة بين القوات الحكومية الأوكرانية والمليشيات الأوكرانية المدعومة من روسيا، التي حملت السلاح، ومارست أساليب إجرامية مختلفة، لتنفصل بالأراضي التي استولت عليها عن الدولة الأوكرانية، وتُقيم دولة مُستقلّة، غير عابئة بتمزيق البلد، وتشتيت أهله. صحيحٌ أنّ الحرب انتهت منذ فترة وجيزة، لكن الهدوء القابل للانفجار في أيّ لحظة سيّد الموقف.
في فيلمها الوثائقي الطويل الأوّل هذا ـ المعروض دولياً للمرة الأولى في الدورة الـ36 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي"، في قسم "سينما العالم الوثائقية" (جائزة أفضل إخراج) ـ تجنّبت إيرينا تسيليك الخوض في تفاصيل متعلّقة بالحرب والفصائل المتنازعة، وتناول طبيعة الصراع ودوافعه. وحتّى لحظته الأخيرة، لا يتّضح تحديداً من هو مخرج الفيلم، وأيّ فيلم تمّ إخراجه؟ أهو ذاك المُشَاهَد، أمْ آخر يُفترض به تناول الحرب؟
"الأرض زرقاء كبرتقالة" يتناول صناعة فيلمٍ سينمائي وثائقي، إذْ تحاول أسرة أوكرانية إخراج فيلمٍ خاص عن حياتها اليومية المأسوية أثناء قصف "المنطقة الحمراء"، أخطر المناطق وأكثرها التهاباً في "دونباس". أبطال الفيلم آنّا، أمٌّ عزباء، وأولادها الأربعة، المتكاتفون جميعهم معاً لصنع فيلمٍ ذاتي. أكثرهم انخراطاً، الأم وابنتاها البالغتان، المهتمّات بالسينما والتصوير والصوت. لديهنّ أدوات تصوير قديمة يُصوّرن بها، ويشتغلن المونتاج أيضاً. تنتقل ميرا، الابنة الكبرى، إلى العاصمة للمشاركة في اختبار الحصول على منحة في مدرسة السينما. تعضدها الأمّ أثناء امتحان القبول، وتفرح كثيراً بها عند نيلها منحة التصوير، السابقة لبدء الدراسة.
الأخت الصغرى، أنستازيا، تريد دراسة الصوت. متحمّسة جداً لتحقيق حلمها. أمّا آنّا، فدرست المونتاج عبر "إنترنت"، وباشرت العمل على ما تمّ تصويره. رغم الصعوبات، استمرّ الهوس بالتصوير، والرغبة غير خافية في صناعة الفيلم. لكلّ فرد من أفراد الأسرة دوره. أحياناً، يحتدّ الجدل بشأن أفضل طريقة تصوير، أو كيفية أخذ لقطة، أو إبراز خطّ للأحداث، أو إجراء تدريبات وإعادة التصوير أكثر من مرة.
ينتمي الفيلم بامتياز إلى نوعٍ يُعرف بـ"سينما داخل السينما"، أو "فيلم يُصنع عن كيفية صنع فيلم". الجديد هنا أنّ فيلم تسيليك وثائقيّ يتناول تصوير فيلم وثائقي آخر. فيه، تُلْمَس خطورة الأمور، واستحالة العيش في وضعٍ كهذا. لا تناول مباشرا للحرب، لكن بين حين وآخر تُسمع أصوات القذائف، وبالكاد تظهر آثار القصف في جدران مبانٍ، أو في شوارع خالية من الناس، أو في نقص الإمدادات، أو في متابعة حياة شبه ميتة. طبعاً، هناك أحاديث عنها، وعمّا حدث ولا يزال يحدث. لكن، بالنسبة إلى آنّا وأسرتها، فالأولويّة مُكرّسة بالكامل لمشروع الفيلم.
لصناعة فيلمٍ وثائقي عنها، استعانت إيرينا تسيليك بمفردات الحياة اليومية البسيطة لتلك الأسرة التي تعيش هلعاً، ورصدت مواقف نابضة بالحياة، تشعّ بصدق الواقع، ما ساهم في نقل أصالة الحالة الفريدة المُراد نقلها. بفضل تلك المفردات، يظهر كيف أنّ المخرجة تنسج فيلمها على مهل، بمَشَاهد منتقاة من مواقف عاشتها الأسرة في الحرب، رغم أنّ لا شيء استثنائياً أو فريداً في حياتها في المنزل. لذلك، تبدو مَشاهد كثيرة مألوفة: ضحك وفرح وبكاء ومُشاحنات ودفء وودّ وحبّ وخوف ورعب، ولجوء إلى مخبأ سرّي مظلم وبارد تحت المطبخ. ثم غناء واحتفال وتناول الطعام، إلخ. هذا رصد بسيط، يضع مفرداته جنباً إلى جنب، ويُشكّل الصورة النهائية، ويخلق روحاً ترغب المخرجة في تقديمه: الحياة مستمرّة رغم كل شيء. أو كما تقول آنّا: "إلى أين نذهب؟ وإن ذهبنا، من سيُعَمِّرُ المدينة؟".
"الأرض زرقاء كبرتقالة" تجربة جديدة، لا ترتبط بالحرب مباشرة، بقدر ارتباطها الوثيق بالفنّ وإبداعه كفعل مقاومة. فيلم قائم على الكاميرا السينمائية والتصوير والمونتاج والصوت والإضاءة. الكاميرا أداة تعبير لا تُقدّر بثمن، لا وسيلة ترفيه أو هروب من قسوة الحياة، وما يحيط بها من دمار ودماء وقتل. ترياق حقيقي ضد السموم.
فيه، تتحاشى إيرينا تسيليك، بذكاء بالغ، الكليشيهات كلّها المحفوظة عن دموية الحروب ومآسيها، وما تخلّفه من قتلى وجرحى وتدمير. فهي منشغلة بنوع آخر من المقاومة: حبّ الحياة والإبداع. لذا، تصل رسالتها الإنسانية بصدق وعمق. ورغم صعوبة تصوير هذا النوع من الأفلام، نظراً إلى عوامل كثيرة غير مُساعدة، إلاّ أنّ العوامل نفسها خلقت أجواء غريبة وساحرة وجاذبة.