"حارس" لوكليرك: تجنّب الألم بدلاً من العثور على السعادة

24 نوفمبر 2019
يؤدّي جان كلود فان دام دور "لوكاس" (Getty)
+ الخط -
في "الحارس" (2018)، فيلمه الأخير، يروي المخرج والمؤلف الفرنسي جوليان لوكليرك (1979)، حكاية "لوكاس" (جان ـ كلود فان دام)، الحارس الحزين، في الخمسينيات من عمره، والمُصرّ، بعد وفاة زوجته في جنوب أفريقيا، على تربية ابنته (8 أعوام)، فيعمل في ملهى ليلي لضمان عيشها وتسديد تكاليف دراستها، إزاء صعوبة دفعها بداية كلّ شهر.

نهاراً، يعمل مُرافقا لـ"ليزا" (سفيفا آلفيتي)، الفتاة الذكية، التي تزوِّر الأموال؛ وليلاً، يشتغل حارساً في الملهى، وسائقاً ومرافقاً لرئيس العصابة الفلمنكية الذي يثق به لقوّته البدنية. ذات مرة، يقول له رئيس العصابة: "أول مرة رأيتك تضرب فيها رجلاً أصغر منك، قلت في نفسي إنّ هذا الرجل محطِّم جداً، أو أنّه ينجو من كلّ شيء، لاستطاعته التكيّف مع الأشياء كلّها".

لاحقاً، تتّهم الشرطة "لوكاس" بقتل قاتل زوجته. لكن مفوّض الشرطة (سامي بوعجيلة) يقترح عليه التعاون معه للتحقيق بشأن العصابة ورجالها، وفي أعمال التزوير التي تقوم بها، مقابل حضانة ابنته وتحمّل تكاليف دراستها. هذا قبيل نهاية الفيلم، إذْ ينكشف أمر المحقّق نفسه، كمنتمٍ إلى إحدى العصابات، وبالتالي فهو غير مهتمّ إلا بالمال الذي تزوّره العصابة الفلمنكية.

على مستوى المعالجة السينمائية، يختلف "الحارس" كثيراً عن "الهجوم" (2010)، للوكليرك نفسه، والذي تدور أحداثه عام 1994، راوياً قصّة خطف تحصل على متن طائرة "إيرباص" تابعة لـ"الخطوط الجوية الفرنسية". في "الهجوم" يرتكز اشتغال المخرج على الاستقصاء، لكشف حقيقة خطف 4 إسلاميين مسلّحين تلك الطائرة، في نحو 48 ساعة، وإنقاذ ركابها. الصورة هنا بعيدة عن التخييل والتفكير، فالمخرج، في هذه الحالة، يجمِّد عملية التفكير، جاعلاً فيلمه أقرب إلى الوثائقي، بمنطلقاته المنهجية.

هذا كلّه على نقيض "الحارس" الذي استطاع فيه تجاوز ثقافة الترفيه، منتقلاً إلى أسلوب هيتشكوكي، أحياناً، في معالجة التشويق، في بعض مشاهده. كما أن بطء السرد، بوصفه إطاراً وقالباً، يترجم الإشارات والدلالات إلى حركات متخيّلة، فيعطي الفيلم سمةً خاصة، بسبب القصّة الدرامية لـ"لوكاس" الذي يجد نفسه ضحية العصابة والشرطة والواقع البائس معاً، وهذا الأخير (الواقع) يفرض عليه قبول أي عمل من أجل ابنته.

في جوّ مشحون بالمفاجأة و"الأكشن" والخيانة، يبرز جرح "لوكاس" كمحرّك رئيسي للمَشاهد وجماليات الصورة، فيُصبح العمل غير مستهلك، ويبتعد عن التناول الهوليوودي على مستوى الإثارة التي يخلو الفيلم منها، باستثناء مَشَاهد قليلة تؤكّد نضال الأب من أجل ابنته، وفوزه بثقة رئيس العصابة، خاصة أنّ البطل ليس خارقًا يستطيع إنقاذ الناس وتخليصها من مشاكلها اليومية إزاء فداحة الواقع. فشخصية "لوكاس" حزينة وموجعة ومهزومة في الحياة.

في مشاهدهما الأولى معاً، تقول "ليزا" له إنّه، نظراً إلى قسوة الحياة، "تستطيع لوم نفسك بشكل مفرط". حتى شخصية "ليزا" لا تختلف عن شخصية "لوكاس"، فهي حزينة أيضاً، ويتبدّى ذلك جيّداً في مشاهد الحانة والفندق. هي مجبرة أيضاً على العمل لصالح العصابة منذ صغرها، في محلّ الطباعة الخاص بوالدها. فبمجرّد وفاته، تجد ليزا نفسها مع أمها بحاجة ماسة إلى المال، لتأمين مصاريف العيش. لذا، تبدأ طباعة العملات المزيّفة، كي تُسدِّد ديون والدها.

يتحوّل مسار التشويق في "الحارس" إلى صراع تراجيدي، لمقاومة وجودية من أجل العيش والبقاء، نكاية بجحيم الواقع، وعنف التاريخ، وسخرية القدر. يصبح الجشع والسطو والخيانة مبررات وحيدة للفوز بعيش كريم، إزاء واقع جشع، لا يرحم حقوق المستضعفين.

في المراحل الأخيرة من فيلمه هذا، ينتقل جوليان لوكليرك إلى مستوى آخر من المعالجة، برصد البناء السيكولوجي للشخصيات، فتسقط الأفكار المكوّنة مسبقا عن ليزا "المجرمة"، وعن العقل والصواب والسلم والعدالة، وعن غيرها من المفاهيم الكبرى التي تتلاشى دفعة واحدة، لتحلّ مكانها أطروحة تقوم على شرعية العنف في الصورة السينمائية.
هكذا، يبرز التحليل النفسي للطبيعة البشرية: "نحن نسعى إلى تجنّب الألم، أكثر من سعينا إلى العثور على السعادة".
دلالات
المساهمون